ملامحها الهادئة.. وفستانها المبهج الرقيق.. وابتسامتها التي لا تغيب لن توحى لك أبدًا بحقيقة جوهرها.. بشخصيتها الدءوبة.. وتجربتها الملهمة.. بطبيعة دراستها للهندسة المعمارية.. بحبها للمغامرة بتقديرها العظيم للبحث العلمى باعتباره البوابة الحقيقية لأى استثمار ناجح.. والأهم علاقتها الخاصة بشجر الموز التي بدأت بزراعته وانتهت باستثمار مخلفاته لإنتاج السماد العضوى.. والكرتون.
الموز والاستثمار..!بصوت منطلق بلا قيود أو تحفظات، ومن واقع تجربة ثرية وخبرات متراكمة ومتنوعة.. ومن خلال رؤية متعمقة لأبعاد الموقف حاليًا ومستقبلًا، تحدثت المهندسة هبة نايل عدة دقائق على منصة المنتدی الأول للاستثمار البيئى والمناخى الذي عقد مؤخرًا بالعاصمة الإدارية، فجذبت الأنظار خاصة أنها كانت تمسك باعتزاز شديد بعدد من الأطباق الكرتونية المستديرة التي تشبه أطباق الفوم أو البلاستيك التي نستخدمها عادة فى المناسبات، ولكن هذه الأطباق كانت مصنعة من خامة مختلفة تمامًا ولأول مرة تنتج فى مصر كانت مصنوعة من مخلفات شجر الموز!وعن تجربتها باعتبارها رائدة من رواد الأعمال فى مجال الاستثمار البيئى للمخلفات الزراعية وبصفتها المدير التنفيذى لشركة «بابيرس إيجيبت لتصنيع ألياف الموز» كان لصباح الخير هذا الحوار الخاص مع المهندسة هبة نايل. وجدتها!أنا مهندسة معمارية تخرجت فى كلية الهندسة جامعة القاهرة، ورغم أن جميع أفراد أسرتى بعيدون تمامًا عن ممارسة أى نشاط تجاري أو استثمارى، فإننى كنت مولعة بالمغامرة والسفر وممارسة أنشطة استثمارية مختلفة منذ أن كنت فى سن الـ «16 سنة»، وبجانب عملى كمهندسة كانت لى مشاريع استثمارية على الهامش لا تمت لمجال دراستى بأى صلة.. ومن ضمن هذه المشاريع كانت مزرعة صغيرة للموز فى مديرية التحرير.. وزراعتى للموز لم تكن اختيارى.. فالمنطقة كلها كانت مزروعة بالصدفة بالموز، ومن هنا بدأت الحكاية، فقد اكتشفت بمرور الوقت أن مخلفات شجر الموز كثيرة جدًا، وهى تمثل عبئًا كبيرًا للمزارعين وتخصم من ربحيتهم الكثير مقابل التخلص منها بأى وسيلة، هذا الواقع استدعى منى البحث عن كيفية الاستفادة من هذه المخلفات على أفضل وجه.. ومن هنا تذكرت أننى قبل ذلك بعدة سنوات كان لدى النية لعمل مصنع صغير لتجهيز علب التعبئة.. فقد اكتشفت أننا نستورد كراتين التعبئة والتغليف لكل منتجاتنا المصنعة محليًا.. سواء أغذية مجمدة أو بورسلين أو أدوات كهربائية.. وبدأت فعلًا فى ذلك الحين إعداد دراسة جدوى لعمل مصنع للتعبئة والتغليف للمنتجات بدلًا من أن نستورد هذه العلب والكراتين من الخارج. بدأت دراسة الجدوى فى يونيو 2009 لتحديد مواصفات وعينات مناسبة لكل منتج، فإذا بى أكتشف مع نهاية دراسة الجدوى فى شهر سبتمبر من العام نفسه بتغير كل أسعار المواد الخام خلال الشهور الثلاثة !
يومها أدركت وتعلمت أول درس.. أن أى دراسة جدوى هى بلا جدوى ما دامت المادة الخام غير متوافرة محليًا، لأن هذا من شأنه أن يضع أى مشروع مهما كانت أهميته تحت سيف «سعر المادة الخام المتغير»، بينما إذا نجحت فى توفير المادة الخام بصفة دائمة فهذه أولى خطوات نجاح أى استثمار وأجلت المشروع إلى أجل غير مسمى لحين البحث عن صناعة يكون المكون الأساسى بها متوافرًا محليًا وبشكل دائم.فلما واجهتنى مشكلة مخلفات الموز فكرت لماذا لا نستخدم هذه المخلفات فى صناعة بديل الكرتون واستخدام هذه المنتجات فى التعبئة والتغليف؟ ولم أكن أعرف هل هذه الفكرة قابلة للتطبيق عمليًا وتنفيذها تجاريًا أم لا ولم يكن أمامى سوى البحث والقراءة.. ونحن جيل محظوظ بوجود الإنترنت والكمبيوتر، وعلى مدى شهور من البحث والمتابعة وجدتها أخيرًا وبالصدفة!من أستراليا لسوهاج!المهندس «رامز عازر» مهندس مصري هاجر إلى أستراليا من 30 سنة، واستطاع بعد دراسات وأبحاث وتجارب كثيرة إنتاج ماكينة صغيرة أولية تعمل على تحويل المخلفات الزراعية كشجرة الموز إلى «لب كرتون» وسماد عضوى.كنت فى قمة سعادتى عندما تواصلت مع المهندس رامز عازر بشكل مباشر، والتقينا وقررنا أن نتشارك فى مصنع صغير يتولى المهندس رامز كل ما يخص مجال البحث العلمى وتطوير المعدات والماكينات فيه، وأتولى أنا المجال التطبيقى، وبالفعل عملنا شركة معًا من 12 سنة، ومنحتنا الهيئة العامة للاستثمار فى ذلك الحين 2000 متر فى سوهاج مجانًا لإقامة المصنع، والحقيقة لقد استفدنا من وجودنا هناك، حيث وجود عمالة مستقرة ومرتبات مناسبة، بالإضافة لوجود مهندسين وفنيين متميزين جدًا فى سوهاج.وكانت بداية إنتاج المصنع عام 2017 بطاقة إنتاجية «15 ألف طن سنويًا»، وصلت حاليًا إلى «50 ألف طن سنويًا»، والحمد لله.الأم المنتحرةتستطرد المهندسة هبة نايل قائلة: العيب الرئيسى الذي يهدد الاستثمار والربحية فى مجال تدوير المخلفات الزراعية أنها موسمية بينما الصناعة تحتاج لتوافر المواد الخام على مدار العام بصفة دائمة ومنتظمة، بينما المخلفات الزراعية قد لا تتواجد إلا خلال شهر أو شهر ونصف على الأكثر، بينما شجر الموز له طبيعة خاصة ومخلفاته متواجدة على مدار العام.فشجرة الموز تطرح مرة واحدة فقط، بعد أن تمنحنا «السباطة» التي بها الموز، بينما هى كشجرة بتنتحر!حتى إننا نسمى شجرة الموز «الأم المنتحرة» وفى الوقت نفسه الذي تنتحر وتنتهى فيه تطلع جنبها شجرة جديدة من نفس النوع فالشجرة فوق الأرض هى مجرد فرع بينما الساق الحقيقية تحت الأرض وجذورها تمتد من تحتها كشعيرات طويلة وعندما يعطى الفرع الزهرة ثم الثمرة يموت بعدها فورًا منتحرًا!ومعنى هذا أن مخلفات شجرة الموز تمنح لأى مستثمر أهم 3 أشياء وهى: الاستدامة، والتكتلية، والإتاحة، بمعنى أنها موجودة دائمًا على مدار السنة، كذلك فهى عادة تزرع فى تكتل زراعي كبير وممتد فى مزارع شاسعة.بالإضافة إلى أن جمع المخلفات الناتجة عنها غير مكلف ومخلفات الموز تعتبر «مادة متماثلة» فيسهل التعامل معها فى مجال التدوير والتصنيع.أما عن المجال الصناعي فهى صديقة جدًا للبيئة، حيث إنها تستخدم كهرباء قليلة جدًا ومياهًا قليلة جدًا جدًا وتدوير كل طن منها يمنع 700 كيلو من الكربون المكافئ ونظرًا إلى أن إنتاجية المصنع 50 ألف طن فهذا معناه منع 36 ألف طن من الكربون المكافئ، كما أننا بإنتاجنا للسماد العضوى السائل محليًا نعمل على سد جزء من العجز فى الأسمدة التي نضطر لاستيرادها من الخارج، كما أن هذا السماد يساعد على إنتاج غذاء آمن فهو ليس له أى أضرار على التربة ويخفف كثيرًا من ملوحتها ويحمى المجارى المائية فهو غير ملوث للتربة تمامًا وغير ضار بصحة الإنسان أو الماشية.ومنذ عام 2020 بدأنا من خلال مصنع آخر بالشرقية باستخدام عجينة ألياف الموز فى إنتاج أطباق وعلب وتعبئة للطعام ولأن شجرة الموز بطبيعتها «نظيفة» وتحتوى على مركبات عضوية تساعد على نضارتها، فإن الأطباق والأكواب المنتجة من ألياف الموز آمنة تمامًا على الصحة وتتحمل درجات حرارة عالية دون التفاعل مع الطعام. خميرة بشرية!آمالنا هى خطط قائمة على العمل والبحث وليست مجرد أحلام والأمل الحقيقى الذي نراهن عليه هو «الفريق» الذي بنيناه على مدار سنوات، فهذه الكوادر تمثل «خميرة بشرية» ممتازة تسمح لنا بأن نبنى ونخطط بهم ومعهم خططًا طموحة، ولدينا فى المرحلة المقبلة أكثر من شراكة.. مع وزارة الإنتاج الحربى والهيئة العربية للتصنيع ومحافظة أسيوط.نحن نملك الملكية الفكرية ونقوم بتصنيع المعدات وتركيب المصنع وتدريب العاملين فيه، ثم نقوم بعد ذلك بشراء المنتج بسعر مجزٍ لضمان الربحية والتسويق، فنحن شركة قابضة تحقق ربحية بضمان جودة المنتج، فالشراكة تعنى التكامل وليس التنافس والشركات بالأسواق العالمية الآن تسعى نحو التكتلات والاندماج.كما أننا تلقينا طلبات للتعاون والشراكة، مع العديد من الدول الأفريقية، ففى دول أفريقيا 17 مليون فدان من الموز، وهذا التعاون يمكننا أن نكون بوابة عبور لأفريقيا وتحقيق مصالح مشتركة لنا جميعًا.وبالإضافة لما سبق فنحن نعمل حاليًا على بحث علمى لإنتاج بلاستيك قابل للتحلل «صديق للبيئة» من مخلفات الموز، لذا فالبحث العلمى سيظل هو طوق النجاة لسكان العالم، وكما يقول المثل الإنجليزى: «لايجب أن نضع الحصان أمام العربة»، فلابد من أن ننتهج المنهج العلمى والبحث والملاحظة والتحليل حتى نحمى بيئتنا ونحقق مزيدًا من النجاح والرفاهية للبشرية.