معظم الوحدات مؤجرة بأسعار زهيدة قد لا توازي قيمة كوب شاي مع قطعة جاتوه.. الحنين أبرز علاقات الإنسان بالمكان، وفي شوارع القاهرة كانت هناك عمائر، وكان للعمائر سُكان، وللسكان حياة، وللحياة ذكرى بعد الغياب، وحضور مطلق للمكان، فنون على الجدران والواجهات، تفاصيل معمارية منقوشة بمهارة عازف، ودقة نحات، حيث ارتبط الوجدان المصري بالعمارات القديمة، تجدها شامخة في وسط البلد، ليس فقط لما تحمله هذه المباني من ذكريات؛ لكن لكونها خير شاهد على تزاوج الحضارات، واستيعابها جميعا على أرض مصر، الطرز الأوروبية، الكلاسيكية والجديدة، العناصر الشرقية جنبا إلى جنب، متورطة في حالة توثيق لتراث القاهرة.
في السطور التالية نعيش في أجواء بنايات من القاهرة القديمة تعود إلى عصر الملكية والاستعمار؛ لكنها لا تزال محافظة على الروح القديمة. سنبدأ رحلتنا التراثية من عمارة “يعقوبيان” التي تعد إحدى أهم العمارات التاريخية في القاهرة، وتقع في شارع طلعت حرب بوسط البلد والتي لاقت شهرة واسعة بعد نشر رواية الأديب علاء الأسواني، رواية تحمل اسم العمارة، وتعتبر تلك العمارة شاهدة على تاريخ مصر قرابة القرن من الزمان؛ إذ بنيت عام 1937 على يد عميد الجالية الأرمانية «هاغوب يعقوبيان» قبل أن تعود إلى الدولة عام 1952 وتتميز عمارة “يعقوبيان” بأنها كانت تضم سكانًا من ديانات متعددة وعدد كبير من سكانها كانوا من الشخصيات الثرية، ولكن بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ تحولت ملكية عدد من شقق العمارة شأنها شأن عدد آخر من عمارات وسط القاهرة، وبمرور الوقت تحولت غرف سطحها لمساكن لإيواء الفقراء بعدما كانت سكناً للخدم في العمارة، أو أماكن لغسل الملابس أو مطابخ لإعداد طعام الولائم. وننتقل بعد ذلك الي عمارة ” الإيموبيليا” التي نافست “يعقوبيان” فى الشهرة ، والتي تقع في شارع شريف بوسط القاهرة، ويرجع تاريخ إنشائها إلى العام 1940م، تتميز بمساحتها الواسعة 5444 مترا ، ويصل عدد الشقق بها إلى 370 شقة، وتتكون العمارة من برجين، أحدهما بحري، ويتكون من 11 طابقا، والآخر قبلي، ويرتفع 13 طابقًا، وقد اشتركت في بنائها عدة شركات، طرح مشروع تشييدها في مسابقة معمارية، وتلقت الشركة العمومية 13 مشروعًا قامت بفحصها خلال 30 يوما، ثم منحت الجائزة الأولى لمشروع المهندسين المعماريين ماكس أدرعي، جاستون روسيو، بينما حصل المهندسان أنطوان نحاس، وجاك بورديه على الجائزة الثانية، وقد بدأ العمل في إنشاء العمارة في 30 إبريل 1938م. وكانت ” الإيموبيليا “ضمن ممتلكات المليونير المصري القديم أحمد باشا عبود،أغنى أغنياء مصر قديمًا،وتكلف بناؤها آنذاك مليونا و200 ألف جنيه مصري، ومع بدء تأجير الشركة المالكة لشقق العمارة نشرت إعلانا في الصحف لتشجيع الناس على السكن بها من خلال التركيز على عدد المصاعد الموجود بها، والذي يقدر بنحو 26 مصعدا، وكانت تقسم إلى ثلاث فئات “بريمو” للسكان، و “سوكوندو” للخدم وثالث للأثاث وأغرت البناية العديد من الفنانين للسكن بها، ووصل عددهم إلى نحو 30 فنانًا، منهم نجيب الريحاني، محمد فوزي، أنور وجدي، ليلى مراد، محمود المليجي، محمد عبدالوهاب، ماجدة الصباحي ووصلت قيمة عقد الإيجار في “الإيموبيليا” إلى ستة جنيهات، وارتفع إلى تسعة جنيهات، وأخيرًا 12 جنيهًا حسب مساحة الشقة. وعلى الطراز المعماري نفسه تطل عمارة “جروبي” على ميدان طلعت حرب بمنطقة وسط البلد، والتي شيدت العام 1924م، على يد المهندس المعماري “كاسمين”، وإضافة إلى التميز المعماري الفريد التي كانت تتميز به نجد أنها كانت مملوكة لحلواني سويسري يدعى “جاك جروبي” الذي جعل منها أشهر صالونات الشاي والرقص في القاهرة، والذي يمتاز بمزج الحاضر بالمستقبل إذ يجلس عليه جميع فئات المجتمع وفي مختلف الأعمار،وظلّ المكان ملاذًا للكتّاب والصحفيين والفنانين ونجوم السينما والمجتمع حتى أواخر القرن الماضي قبل أن يتدهور حال المكان، وفي منتصف القرن الماضي، كان الملك فاروق يزور الكافيه من وقت لآخر، لذلك قرّر «جروبي» أن يصنع كأسًا وفنجانًا للملك فاروق مطليين بالذهب، لا يُقدّما إلا للملك. كما أدخل “جروبي” إلى مصر للمرة الأولى أنواعا جديدة من الشيكولاتة والعصائر المركزة والمربى والجبن, وكرات مثلجة من الحليب والشيكولاتة وعصير الفواكه، وأنواع جديدة من الحلوى كانت اسمائها جديدة وقتها: كريم شانتي, مارون جلاسيه, جيلاتي, ميل فوي, إكلير, بُول دي شوكولاه, وغيرها. وتم تصوير العديد من الأفلام العربية بالمحل، أشهرها “العتبة الخضرا” و”يوم من عمري” و”عمارة يعقوبيان”، و”صايع بحر”، ومسلسل “جمهورية زفتى”. لم يكن “جروبي” مجرّد مقهى أو مطعم مبني على الطراز الفرنسيّ، إنما كان مشروعاً ثقافياً يُرسي ذوقاً وتقاليد جديدة، وفقاً للراوئي يوسف حسن يوسف، الذي أكّد في روايته “جروبي” الصادرة عام 2013 ، أنه: “اعتُبِر مركزًاً من مراكز الحداثة والرقي في المجتمع المصري” ويستطرد: “هنا كانت تجلس المطربة أسمهان (أخت فريد الأطرش)، وعلى هذه المائدة كان يجلس كامل الشناوي، يقرأ جرائد الصباح، ويكتب الشعر، ويشرب عصيره المفضل،وكان الفنان أحمد رمزي يتردّد على جروبي بصفة شبه يومية مع أصدقائه، وفي إحدى المرّات، كان مع أحد زملائه في الدراسة، وشاركهما اللقاء مخرج شابّ اسمه يوسف شاهين، فحدثت الصدفة التي قدّمت للسينما العربية والعالمية النجم الراحل عمر الشريف. وكان “جاك جروبي” مالك العقار يسكن بها، حتى مجيء ثورة 1952، وتم تأميم العمارة وخروج الأجانب من مصر، وتم ضمها لشركة مصر للتأمين، والعمارة لم يبق منها سوى 5 شقق سكنية، واستحوذت الشركة على باقي الشقق، وقد أغلق أصحاب تلك الشقق أبوابها الخمسة، ولم يأت ملاكها إليها منذ سنوات ويدفعون الإيجار لشركة مصر للتأمين والغريب أن معظم وحدات العمارة، والتي تتكون أقل شققها من 4 غرف، مؤجرة بإيجارات قديمة بأسعار زهيدة قد لا توازي قيمة كوب شاي مع قطعة جاتوه.ونختتم بعمارة “تيرنج” وهى واحدة من أشهر عمارات وسط المدينة، توجد في منطقة العتبة، وتحمل طراز”نيو باروك” ، تتميز بقبة عالية، وتمثال لكرة أرضية يحملها أربعة ملائكة، وتعتبر من المعالم الرئيسية في وسط البلد.حيث تم استخدام واجهتها المعمارية في تصوير عدد من الأفلام كما حدث في فيلم “تفاحة” للمخرج رأفت الميهي، وتضم هذه العمارة محلات “تيرينج” التي كان يملكها رجل يدعى “فيكتور تيرنج”، وشيدها في العام 1913م مهندس تشيكي يدعى “أوسكار هورفين”.المثير في الأمر أن صاحب العمارة تم طرده من مصر من قبل الاحتلال الإنجليزي نظرًا لنشاطه المعادي للإنجليز، كما أن محافظة القاهرة شعرت مؤخرا بأهمية هذه العمارة، واعتبرتها أثرًا يستحق الحماية.
images_(1)_2401111059141038.jpg:عمارة يعقوبيان
images_(2)_2401111059141038.jpg:عمارة جروبي
images_(3)_2401111059141038.jpg:عمارة تيرنج
Immobilia-building_2401111059141038.jpg:عمارة الايموبيليا