بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية ودخول لبنان عهدا جديدا أو مرحلة جديدة، شهدت توجها أكبر نحو الاقتصاد الخدماتي، مقابل تراجع الصناعة اللبنانية إلى أدنى مستوياتها، إذ تُظهر الإحصاءات تراجعاً في عدد مصانع الأحذية من 1200 عام 1995 الى 20 أو أقل حاليا، ومن 3004 مصانع للألبسة و604 مصانع للمنسوجات عام 1994 الى 273 مصنعا حاليا.
هذه الأرقام المتدنية، تعكس الحال الذي كان عليه الواقع اللبناني حتى وقوع الأزمة. اليوم، ونتيجة لعدة عوامل أهمها انهيار العملة وتوقف الاستيراد في كثير من القطاعات بسبب الواقع الجديد، برزت مؤشرات عدة تشي بأن اللبنانيين بشكل عام باتوا أكثر اقتناعا بأهمية الاعتماد على المنتجات المحلية لسبب رئيسي، وهو القدرة على شرائها مقابل عجز عن شراء منتجات مماثلة مستوردة.
في مقارنة بسيطة، المعقم المُنتج محلياً والذي يُعتبر مقبولاً يساوي 10 بالمئة من سعر المنتج نفسه المستورد. كذلك ينطبق الأمر على الكثير من السلع والمنتجات. سعر علبة غسول الشعر المستوردة صار يوازي قرابة الخمسين ألف ليرة، فيما صار المسحوق نفسه متوفرا من إنتاج محلي بما يقارب ربع سعر المنتج الأجنبي. وبلغ عدد المصانع التي تنتج المعقمات إلى الآن حوالي 141 مصنعاً بحسب إحصاءات وزارة الصناعة.
أكثر من ذلك، هناك مصانع أغلقت أبوابها قبل سنوات، بشكل أساس سبب عدم القدرة على المنافسة مع المنتج الأجنبي الرخيص مقارنة بالمحلّي، إلا أن هذا الأمر انقلب تماماً اليوم، والأمثلة كثيرة.
أمثلة حيّة
يقول محمد سنو وهو صاحب معمل ألبسة: “لدي معمل ألبسة منذ عشرات السنين وكان لنا مكانتنا وكل إنتاجنا كان يُصدر إلى الخارج. اضطررنا قبل 3 أعوام أن نقفل لأنه لم يعد هناك إمكانية الاستمرار، صغرنا كثيراً كي نستطيع أن نبقى في السوق ولكن الخسارة كانت كبيرة وتزداد ولم نعد نحتمل تغطيتها”.
ويُضيف: “بعد الثورة وانهيار الليرة والأزمة التي نعيشها اليوم، قرر ابني أن يعيد فتح المعمل وهكذا حصل، وبدأنا الإنتاج من جديد ونحاول شيئاً فشياً أن نعود ولكن طبعاً هناك معوقات كثيرة أهمها أن المبيع بالليرة اللبنانية وهذا الأمر لا يُؤمن ربحاً كما كانت الحال في السابق وبالتالي تبقى المصاريف عالية مقارنة بالإنتاج ولكن نحن نُصر على الاستمرار على أمل أن نعود كما في السابق”.
هنا أيضاً يبرز واقع آخر: اليد العاملة. توقفت صناعة الألبسة أو تراجعت في لبنان بعد الحرب بشكل كبير جداً، والحرفيين الذين كانوا يقومون بهذا العمل إما كبروا في السن وتقاعدوا وإما تحولوا إلى حرف أخرى كي يعتاشوا، وهو ما فتح الباب أمام نقص في اليد العالمة المحلية المتخصصة في الخياطة.
يقول سنو: “اليد العاملة غير موجودة. اليوم نحن بحاجة لكي نعلّم العمال عن جديد خاصة أن اللبنانيين لا يعملون في هذا المجال ومن كان يعمل كبر بالسن وبالتالي المتوفر الآن ليس لديه المهارة الكافية وبالفعل بدأنا بالقيام بهذا الأمر ولكن بحاجة لوقت كي نعوّض النقص”.
مثال آخر.. ناجح
يملك زياد أبي راشد معمل أسمدة، عمله لم يتوقف ولم يتراجع بل على العكس، كبر بعد الأزمة. هذا التحول يعود إلى أسباب عديدة.
يقول زياد لموقع “الحرة”: “كان لبنان يستورد الأسمدة من إيطاليا وهولندا، والاستيراد الآن متوقف كون كيس الأسمدة (الشوال) سعره 12 دولاراً، وليس هناك أي مزارع بإمكانه أن يدفع هذا المبلغ لشوال واحد يبلغ 25 كلغ، وبالتالي صار اللجوء إلى التصنيع المحلي ضرورة وهذا ما حصل ولكن الأمور بحاجة أيضاً إلى وقت أكثر كي يزيد عدد المعامل المصنعة للأسمدة”.
ويضيف: “بعد الأزمة وكُل ما يحصل في لبنان، نحن على صعيد عملنا وصناعتنا تأثرنا إيجابياً إذ توقفت المضاربة بين الأسمدة الأجنبية والمصنعين المحليين والمزارعين طبعاً لا يمكنهم أن يزرعوا من دون أسمدة بالتالي صار الطلب على المنتج المحلي مضاعفاً”.
أكثر من ذلك، يبدو أن كُل الإنتاج المحلي لا يغطي حاجة السوق ما يعني أن إمكانية إنشاد مصانع جديدة متاحة أمام من يريد الاستثمار في هذا المجال، خاصة مع ميل اللبنانيين الواضح إلى الزراعة منذ بدء الأزمة وبالتالي ارتفاع الاستهلاك في ما خص الأسمدة.
يقول أبي رشاد: “نحن في معملنا ننتج كميات كبيرة من الأسمدة ولا نستطيع تلبية الطلب المتصاعد. حتى نحن ونعتبر الأكبر، مع المعامل الأخرى مثلنا التي تنتج الأسمدة لا نستطيع أن نغطي حاجة السوق”.
ويعتقد أن “المنطق يقول إنه علينا أن نُكبر ونوسع عملنا طالما أن الطلب في ازدياد إلا أن المشكلة في هذا الأمر تكمن في السيولة. لكي نأتي بمعدات جديدة وكبيرة علينا أن نوفر السيولة بالدولار الأميركي وهذا الأمر صعب حالياً”.
الصناعة.. كمُنقذ!
يقول منير بساط وهو صاحب معمل لتصنيع الحلاوة: “كنا ننادي ونقول لكل المسؤولين إننا كبلد لا يمكن أن نستمر طالما أننا نصدر بـ 3 مليار دولار ونستورد بمبلغ يُقارب 21 مليار دولار. ليس هناك من اقتصاد بغض النظر عن الواقع السياسي يستطيع أن يكمل بهذا الشكل وبهذا الفارق الهائل”.
يُضيف: “لم ندع يوماً كصناعيين أننا نستطيع أن نغلق الفارق الهائل بين الاستيراد والتصدير وطبعاً الهوة التي تقدر بحوالي 18 مليار دولار فيها أشياء كالمحروقات وغيرها لا تستطيع الصناعة المحلية تغطيتها ولكن نحن كنا دائماً نقول وقبل أن تبدأ الأزمة بأن ترخي بضلالها علينا كان باستطاعتنا بكل سهولة خفض الاستيراد بحدود 3 مليار وزيادة التصدير بحدود 3 مليار أيضاً. لو هذا الأمر حصر في 2014 و2015 كانت الأمور لتكون أفضل اليوم، وهذا لا يعني طبعاً أن هذا الأمر كان سيمنع الانهيار”.
ومع تدهور سعر الصرف وعدم القدرة على القيام بالتحويلات إلى الخارج، كبر الطلب على الصناعة المحلية التي بحسب بساط “كانت على قدر الحمل لأن الكثير من المصانع أضافت خطوط إنتاج جديدة أو وسعت خطوط إنتاجها ولأنها بالأساس كانت تعمل بقدرة إنتاجية لا تتجاوز الستين بالمئة من قدرتها في الوضع الطبيعي”.
الأمثلة عديدة، يشرحها بساط: “تحدي الكورونا مثلاً، بعض المصانع تحولت لتصنيع الكمامات الطبية للوجه بعد أن وصلت سعر الكمامة في وقت من الأوقات ليوازي سعر العلبة بأكملها بسبب فارق الدولار، وصار هناك كفاية في السوق واستطاعوا تغطية الطلب بشكل كبير، كذلك الأمر فيما خص أجهزة التنفس والمعقمات وغيرها”.
يروي البساط تجربته الشخصية: “أنا صاحب معمل حلاوة وطحينة. اليوم نحن إنتاجنا زاد كثيراً عما كان عليه قبل سنتين مثلاً، لأن الطلب زاد. الطحينة كان الطلب عليها مرتفعاً وبقي كذلك ولكن الحلاوة، زاد الطلب عليها كثيراً لأنها صارت من المحليات الأساسية وبديلة لأشياء كان يجدها المستهلك في السوق ولم تعد متوفرة الآن”.
وفي تقرير للبنك الدولي عام 2015، صنف لبنان الرقم واحد في العالم العربي من ناحية تعدد الصادرات. ويشير التقرير إلى أن لبنان ينتج 1175 منتجاً يصدرهم لحوالي 175 بلداً.
التحديات والتسهيلات
يقول زياد بكداشي نائب رئيس جمعية الصناعيين: “صحيح الصناعة الآن تزدهر لأن السوق المحلي صار أكبر ولكن أيضاً علينا أن ننتبه إلى أن القدرة الشرائية للناس تراجعت وهذه المشكلة التي تواجهها الصناعة في هذا الإطار طبعاً بالإضافة إلى المشكلة الأساس وهي عدم القدرة على توفير السيولة اللازمة من العملة الصعبة لتأمين المواد الأولية للصناعات المحلية”.
ويُعاني الصناعيون من غياب تام للدولة عنهم، بل في بعض الأحيان يشتكون من ضغط سلبي يُمارس عليهم، ولكن في ما خص الوزارات المعنية وتحديداً وزارة الصناعة فلا يبدو بحسب ما يقول الصناعيون إنها قادرة على القيام بأكثر مما تقوم به بسبب الإفلاس العالم اللاحق بكل المؤسسات.
ما المطلب الأساسي؟
يجيب بكداشي: “نحن لا نريد أي شيء من الدولة إلا أن تكون جدية في خلق طرق جذرية لتسهيل تأمين المواد الأولية للصناعيين وأن تركز أكثر على القطاع الصناعي والقطاع الزراعي اللذين يرفدان بعضها البعض وهذا ما كنا نطالب وننادي به منذ زمن من دون أن يكون هناك من يسمع. اتكلوا على العقارات والسياحة وها نحن وصلنا إلى الانهيار”.
وعلى سبيل المثال، يشتهر لبنان بالحمص بطحينة وهي من المأكولات التي تعتبر أساسية في مطبخهم إلا أن المفارقة، أن لبنان يستورد الحمص كي يصنع الحمص بطحينة.
يقول بكداشي: “نحن نعاني كثيراً إذ نعيش في منطقة حساسة مليئة بالاضطرابات وفي ظل نظام لبناني متخلف وهذا ما يجعلنا نتشاءم ولا نتأمل كثيراً بالقدرة أو بالرغبة في تطوير هذا القطاع، والخوف أنهم سيضربون القطاع الصناعي كما ضربوا القطاع السياحي إذ لا ثقة بهذا النظام المتخلف الذي يضرب كل قطاع على حدا”.
ماذا تريدون من الدولة؟
يجيب بكداشي: “فليحلوا عنا ليس أكثر، اليوم هم يهيئون لفرض قانون جديد على الصناعيين يُجبرهم أن يعيدوا أموال التصدير خلال 45 يوماً وإذا لم يلتزم الصناعي فهم سيحرمونه من التصدير. سيمنعونه، ونحن اليوم نحاول من خلال علاقاتنا في الحكومة ومجلس النواب أن نوقف ونمنع هذا القرار وبدأنا اتصالاتنا مع رؤساء الكتل والنواب الصناعيين من أجل هذه الغاية”.
من يريد إصدار هذا القرار؟
يقول من دون أن يدخل بتفاصيل أكثر في انتظار ما سيأتي من تحركهم: “نائب حاكم مصرف لبنان وإحدى الوزارات ومصرفين محليين”.
دور الدولة وواقعها
في خضم كُل هذا، تحاول وزارة الصناعة أن تقوم بما يُمكنها بالحد الأدنى المتوفر أمامها. وباعتراف الصناعيين، فإن قرار تنمية وتقوية القطاع الصناعي مسؤولية السلطة السياسية ككل ممثلة بالحكومة ومجلس النواب، وبالتالي المساحة المتروكة أمام وزارة الصناعة تتمثل بشكل أساسي بالمتابعة والتدقيق مع محاولات تيسير أمور الصناعيين بما تستطيع تأمينه.
يقول داني جدعون مدير عام وزارة الصناعة: “التسهيلات كانت دائماً موجودة من قبلنا أمام كل من يريد أن يفتح مصنعاً لكن الفارق الآن أن التعقيدات التي كانت موجودة في ما خص المعاملات والحصول عليها خفت كثيراً وصارت أكثر”.
ورخصت الوزارة خلال مدة سنة ونصف (الإحصاء الأخير في أكتوبر 2020) 125 مصنعاً جديداً وهذا يعكس التوجه العام نحو الصناعة والركيز على المنتوجات المحلية.
لكن اللافت، أن ارتفاع عدد التراخيص لا ينعكس على أرقام الصادرات التري تراجعت في المدة نفسها، مقابل ازدياد الطلب في السوق المحلي. يقول جدعون: “المصنع الذي كان يصدر بمليون دولار إلى الخارج الآن يُصدر ب 700 ألف دولار ولكن الفارق أنه عوض قليلاً من خلال السوق المحلي والطلب على المنتجات المحلية التي أتت لتعوّض النقص”.
وعن الاستيراد، يقول مدير عام وزارة الصناعة: “هناك استيراد توقف. مثلاً في ما خص الألبسة لم يعد بإمكان اللبناني أن يشتري كما كان يفعل سابقاً خاصة من الماركات وبالتالي اليوم هو خفف من عملية الشراء التي كانت في أحيان كثيرة مبالغ بها. أيضاً هناك منتوجات كنا نستوردها لا نفهم لماذا. مثلاً اللبنة لماذا نريد أن نستوردها من الخارج طالما السوق اللبناني لديه الكثير ومنافس والنوعية ممتازة”.
وفي ظل هذا الواقع الذي يفتح نافذة صغيرة في جدار الأزمة، تبرز مشكلة أساسية يعاني منها الصناعيون: اليد العاملة المحلية، إذ أدى هبوط قيمة الليرة اللبنانية إلى نزوح كبير باليد العاملة الأجنبية من لبنان ما ترك فراغاً كبيراً لا يُمكن للعامل المحلي أن يسده.
ويقول جدعون: “مع الأسف اللبنانيين بجزء كبير منهم لا يعملون ولا يريدون أن يقوموا بالكثير من الأعمال. كُثر يجلسون من دون عمل ومن دون أن يجدوا قوتهم اليومي ومن ثم يرفضون العمل بمبالغ توازي 300 دولار”.
كذلك، اتفق كُل من سنو وبساط وأبي رشاد على أن اليد العاملة المحلية مفقودة ليس لأنها غير متوفرة بل “لأن اللبناني لا زال إلى اليوم يرفض العمل اليدوي والحرفي”، وفي هذا السياق، يختم جدعون بالقول: “الأزمة تفرض على اللبنانيين التواضع أكثر”.