نجحت الولايات المتحدة في التغلب على المقاومة الروسية في التسعينات لتوسيع الناتو، ليشمل أكثر من 900 مليون شخص، لكن أجهضت تكتيكات واشنطن القاسية بين الحرب الباردة واليوم الحاضر أية إمكانية لإقامة تعاون دائم مع روسيا التي أقدمت على المواجهة العسكرية كرد ضروري على نشر الناتو بنتيه التحتية على حدودها. يتناول الكتاب الأحداث التي أدت إلى أزمات متعددة بين الغرب و روسيا منذ التسعينات إلى اليوم.
«دخل الصراع على مستقبل أوروبا بعد الحرب الباردة مرحلته الحاسمة» هذه الكلمات قالها في فبراير/ شباط 1990 وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر، لزعيم الاتحاد السوفييتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف. تقول المؤلفة: «أدى انهيار جدار برلين في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989 إلى إضعاف قبضة موسكو بشدة على أوروبا الوسطى، لكن بفضل الانتصار السوفييتي على النازيين في الحرب العالمية الثانية، كان لدى موسكو فيما بعد مئات الآلاف من القوات في ألمانيا الشرقية، والحق القانوني لإبقائهم هناك. لإقناع غورباتشوف بالتخلي عن هذه القوة العسكرية والقانونية، قال بيكر كلمات بدت وكأنها صفقة افتراضية: ماذا لو تركت الجزء الخاص بك من ألمانيا، ونتفق على أن الناتو لن يتوسّع شبراً واحداً عن موقعه الحالي؟
التوسع
تضيف الكاتبة: احتدم الجدال حول هذا التبادل على الفور تقريباً، في البداية خلف الأبواب المغلقة ثم علناً؛ لكن الأهم كان الأمر الذي يجب اتباعه، عندما اتخذت هذه الكلمات معاني جديدة بعيدة المدى. لقد ترك غورباتشوف نصيبه من ألمانيا، لكن واشنطن أعادت التفكير في خياراتها. أدركت الولايات المتحدة أنها لا تستطيع الفوز بشكل كبير فحسب؛ بل الفوز بشكل أكبر. فقد رأت أنه ليس هناك شبر محظور على حلف الناتو. يمكن لواشنطن أن تقود التحالف لفتح الطريق أمام أعداد كبيرة من الأعضاء الجدد المتحمسين للانضمام. في التسعينات، فعلت ذلك بالضبط، ما أدى بحلول 12 مارس/ آذار 1999 إلى التوسع عبر أوروبا الوسطى والشرقية إلى الحدود البولندية الروسية، لكن في 31 ديسمبر/ كانون الأول من ذلك العام، صعد فلاديمير بوتين إلى القمة في موسكو. مع استمرار توسع الناتو، قرر بوتين في النهاية استخدام العنف في محاولة لضمان عدم انضمام شبر إضافي من الأراضي للحلف. أدت لعبة التحرك إلى طريق مسدود.
انهيارات التسعينات
يبحث هذا الكتاب (صادر عن جامعة ييل الأمريكية في أواخر 2021 باللغة الإنجليزية ضمن 568 صفحة) في الصراع بين روسيا والولايات المتحدة على خلفية المشهد غير المتوقع في التسعينات. فقد شهد ذلك العقد انهيار إمبراطورية مترامية الأطراف بين عشية وضحاها، ما أسفر عنها مجموعة من الدول الأوروبية الآسيوية الجديدة، وقادة لهم رؤية، بعضهم ارتقى من السجون إلى الرئاسات، وحصل بعضهم على جوائز نوبل وتقدير عالمي؛ وأعاد تعريف عالم يمكن أن تتأسس فيه الديمقراطية، وينزع السلاح، ويصعد اقتصاد السوق، ومبادئ النظام الدولي الليبرالي، لكنه فتح أيضاً الباب أمام تعبيرات جديدة عن الاستبداد، وتقويض الديمقراطية، والتطهير العرقي.
تستخدم المؤلفة الصراع على توسع الناتو باعتباره الخط الأساسي في الكتاب، ولا تتطرق إلى التحالف نفسه؛ بل إلى الخيارات الاستراتيجية التي يمكن أن يتخذها الزعماء الروس والأمريكان خلال نزاعهم الذي دام عقداً حول بداية توسعهم إلى وسط وشرق أوروبا، والتأثير التراكمي لهذه الخيارات في الوقت الحاضر. تبدأ المؤلفة بالتركيز على التنافس الحاصل في عام 1989 حول مستقبل ألمانيا المنقسمة والتي تحولت بسرعة، بالنسبة لواشنطن، إلى صراع للمحافظة على الحلف الأطلسي. تبحث أيضاً في الكيفية التي أدى بها نجاح الأمريكيين إلى خلق فرص لقادة الديمقراطيات الأوروبية الجديدة، لكنه أيضاً مثّل تحديات لعلاقة الغرب مع الجمهوريات السوفييتية السابقة.
تسأل المؤلفة: كيف ولماذا رؤساء الولايات المتحدة جورج بوش الأب وبيل كلينتون إلى جانب نظرائهم الأوروبيين توني بلير، وجاك شيراك، وفاتسلاف هافل، وهلموت كول، وجون ميجور، وفرانسوا ميتران، وجيرهارد شرودر، ومارجريت تاتشر، وليك فاليسا، إضافة إلى قادة دول البلطيق والأمين العام لحلف الناتو مانفريد فورنر وخافيير سولانا، أطلقوا عملية التوسع التي نقلت الحلف في النهاية إلى ثلاثين دولة؟
ترى المؤلفة أن هذا الإنجاز يمثل نجاحاً كبيراً للاستراتيجيين الأمريكيين، فقد أنقذوا العديد من الديمقراطيات الجديدة (وليس كلها) في فترة ما بعد الحرب الباردة من العيش في منطقة أمنية رمادية بين الشرق والغرب. بمساعدة واشنطن، تمتع أكثر من 100 مليون من وسط وشرق أوروبا بالنجاح الذي يستحقونه في جهودهم ليصبحوا حلفاء في الناتو. ومع اتساعه، ساعد التحالف على إخماد الصراعات الدموية في البلقان، مضيفة: اليوم، يمتد الناتو من أمريكا الشمالية وآيسلندا وغرينلاند إلى المملكة المتحدة وأوروبا ودول البلطيق، ويغطي ما يقرب من مليار شخص. يمتلك جميع أعضائه ما يسمى بضمانة المادة 5، وهي متجذرة في المعاهدة التأسيسية للتحالف: «هجوم ضد عضو أو أكثر في الحلف.. يعد هجوماً على الجميع». منذ الحصول على هذا الضمان، نجح الأعضاء الجدد في التحالف في التحرر من الهجمات المسلحة واسعة النطاق، حتى مع بدء القتال عبر بعض الحدود السوفييتية السابقة. تظل القوة العسكرية الأمريكية وقوتها الرادعة حجر الزاوية في قوة التحالف.
لكن النجاح كان له ثمن. فضمان الأمن لمليار شخص ليس بالأمر الهين. في تسعينات القرن الماضي، كان هناك رئيسان أمريكيان يركزان بشدة على تحقيق التوسع الشرقي للمادة 5؛ بحيث لم يفكرا بشكل كافٍ في عواقب كيفية تحقيقهم لهذا الهدف. بعبارة أخرى، كان توسع حلف الناتو استجابة مبررة لتحديات التسعينات. كانت المشكلة هي في كيفية حدوث ذلك. لقد خلق سقوط الجدار في عام 1989 لفترة وجيزة إمكانات تعاونية جديدة لنظام ما بعد الحرب الباردة. ولكن بعد عقد من الزمان، ظلت الحدود بين الناتو ودول أوروبا غير الأعضاء في الناتو تمثل خطاً أمامياً واضحاً، وأوكرانيا ودول ما بعد الاتحاد السوفييتي الأخرى تراجعت إلى منطقة رمادية، وكانت المنافسة النووية تتجدد، وتضاءلت آفاق الآمال في التعاون.
ترى الكاتبة أنه ربما لم يكن من المستغرب أن تكون النتيجة مثيرة للجدل، بالنظر إلى أنه خلال التسعينات، كان على القادة الأمريكيين أن يتصارعوا مع الدول الأوروبية العشر بين أولويتين. إما أن يتمكنوا من تمكين منطقة وسط أوروبا وشرقها – بما في ذلك دول ما بعد الاتحاد السوفييتي مثل دول البلطيق وأوكرانيا – على اختيار مصيرها أخيراً، بغض النظر عن التأثير على موسكو؛ وإما أن يمكّنها من تعزيز التعاون مع الديمقراطية الجديدة الهشة في روسيا، ولا سيما من ناحية نزع السلاح النووي.
كان السؤال المطروح على واشنطن هو معرفة أي هدف من هذه الأهداف يجب أن تكون له الأولوية. كان الجواب الصحيح كلاهما.
استمرار الصراع الغربي – الروسي
على الرغم من انتهاء الحرب الباردة، فإن هاتين الدولتين تمتلكان أكثر نسبة من الرؤوس الحربية النووية في العالم والقدرة على قتل كل كائن حي على وجه الأرض تقريباً. هذا التهديد يجعل فهم تدهور علاقتهما في التسعينات قصة أساسية في عصرنا الراهن، لأنه أدى إلى تلاشي أفضل فرصة لإقامة تعاون دائم بينهما. تتساءل المؤلفة: ماذا حدث؟ لماذا قررت الولايات المتحدة توسيع الناتو بعد الحرب الباردة؟ كيف تفاعل القرار الأمريكي مع الخيارات الروسية المعاصرة؟ هل أدى هذا التفاعل إلى تدهور مصيري في العلاقات بين البلدين؟ هل كانت هناك بدائل مناسبة للقرارات التي اتخذوها؟ ما كلفة التوسع كما حدث؟ وكيف ساعد في تشكيل الحقبة بين الحرب الباردة وكورونا؟
تحاول المؤلفة الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل مفصل خلال الكتاب، وترى أيضاً أنه لم يتسبب توسع الناتو في حد ذاته في تدهور العلاقات الروسية الأمريكية، فالأحداث الكبرى تحدث لأسباب متعددة. نادراً ما يكون التاريخ آحادي السبب. تفاعلت الخيارات الأمريكية والروسية مع بعضها تراكمياً بمرور الوقت، ومع السياسات المحلية لكل بلد بلغ الأمر درجة سيئة.
يبدأ الجزء الأول من الكتاب، الذي يغطي الأعوام 1989-1992، بسقوط جدار برلين وظهور الديمقراطيات الجديدة، ويستكشف الجزء الثاني الذي يتناول فترة 1993-1994، الانطواء في العلاقات الأمريكية الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، على الرغم من الاضطرابات في موسكو، كان هناك فرصة ثانية ثمينة للتعاون. تقول المؤلفة: كانت السلطة تقع على عاتق زعيم آخر يرغب في تنفيذ الإصلاحات والتعاون مع الغرب وهو يلتسين، الذي أقام في عام 1993 بسرعة علاقة مع كلينتون. فقد طورا أقرب علاقة على الإطلاق بين زعيم روسي وأمريكي.
يتناول الجزء الثالث، الذي يغطي فترة 1995-1999، كيفية اتخاذ كلينتون موقفاً أكثر عدوانية بشأن توسع الناتو؛ حيث تتفكك علاقة «بوريس وبيل». تقول المؤلفة: في تلك الأثناء، شعر سكان أوروبا الوسطى والشرقية بسعادة مبررة مع بدء العد التنازلي لعضويتهم في الناتو. يقرر الأوروبيون الغربيون في السر أن روسيا لن تنضم أبداً إلى الاتحاد الأوروبي. وبدأ صقيع العلاقات الأمريكية الروسية؛ حيث يواجه كلينتون فجأة مسألة ما إذا كان سيبقى في منصبه؛ وذلك بسبب الكشف عن علاقته الجنسية مع المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي التي تصدرت عناوين الأخبار في الوقت الذي كان فيه بوتين يصعد سلم الرئاسة في روسيا. مع فشل كل من موسكو وواشنطن في إقامة تعاون دائم في تذويب الجليد بعد الحرب الباردة، انتصرت قوى متشددة في استلام الحكم في روسيا.
مستقبل الناتو
تركز الخاتمة على كيفية اتخاذ الرئيس الأمريكي الحالي قرارات لا رجوع فيها بشأن مستقبل الناتو، وكيف تتفاعل هذه القرارات مع الخيارات الروسية. تقول الكاتبة: من حيث الجوهر، يسعى الزعيم الأمريكي إلى تحويل السياسة إلى أداة (سقاطة) تسمح بالحركة في اتجاه واحد فقط وتستجيب روسيا وفقاً لها. كل منعطف يمنع الاحتمالات الأخرى، ما يجعل من المستحيل عكس المسار واختيار اتجاه مختلف. تصبح العواقب تراكمية مع تطور تسلسل القرارات. هذه السقاطة الرئاسية تحول الأمور إلى حد كبير إلى الحلف الأطلسي. فعلى الرغم من أن الناتو يضم العديد من الدول، لكل منها الآراء الخاصة بها، فإن الهيمنة العسكرية الأمريكية تعني أن وجهات النظر الأمريكية هي المهمة في نهاية المطاف عندما تكون ضمانات الناتو بموجب المادة 5 موضع خلاف. كان هذا صحيحاً في التسعينات كما هي الحال اليوم. ولهذه المنعطفات تأثير دائم، ليس أقله في الطريقة التي تقيد بها صانعي السياسة الأمريكيين اللاحقين، الذين لم يعد لديهم مجموعة كاملة من الخيارات سواء في هيكلة الأمن عبر المحيط الأطلسي أو للتعامل مع دول ما بعد الاتحاد السوفييتي عندما تبدأ مهمتهم.
تتناول الخاتمة أيضاً إرث هذه الأحداث اليوم. تعلّق الكاتبة هنا: أصبحت دول أوروبا الوسطى والشرقية حلفاء في الناتو، ليكتشفوا فقط أن عضوية التحالف لا تقيد تلقائياً المكاسب الديمقراطية التي حققوها بشق الأنفس. انتصرت واشنطن في صراعها مع موسكو حول الناتو في التسعينات، لكن الطريقة التي تتبعها الولايات المتحدة في التوسع تعني أنها تفقد الخيارات فيما يتعلق بروسيا على المدى الطويل. كانت المسرحية الكبرى في أوروبا ستتمثل في خلق ديناميكية تؤسس تعاوناً دائماً، بدلاً من المواجهة، بين روسيا والغرب. بعد الحرب العالمية الثانية، عملت أمريكا مع أعداء سابقين لتحويلهم إلى حلفاء على المدى الطويل؛ لذلك كانت هناك سابقة لمثل هذا الإنجاز. كان التحدي بعد النهاية السعيدة والسلمية للحرب الباردة هو تكرار ذلك الأداء. وبدلاً من ذلك، ينتزع القادة في واشنطن وموسكو الجمود من فكي النصر.
ترى الكاتبة أن الخيارات الأمريكية توحدت مع الإخفاقات المأساوية لكل من غورباتشوف ويلتسين لتقويض إمكانية التعاون بعد الحرب الباردة ودفع العلاقات الأمريكية الروسية إلى فترة من التدهور غير المتكافئ، وتضيف: على الرغم من وجود حلقات ملحوظة تستعيد روح التعاون مثل تعبيرات التعاطف من موسكو نحو الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، أو التوقيع على اتفاق نووي في عام 2010، فإن الاتجاه العام مال نحو الانخفاض. ووصلت العلاقات إلى مستوى منخفض مخيف مع غزو أوكرانيا عام 2014 ووصلت إلى القاع الآن. إذا انتهى هذا التاريخ ببوتين، فهو يبدأ به أيضاً. في عام 1989، كان لاعباً صغيراً في ألمانيا المنقسمة، يشاهد في رعب انهيار الجدار وكيفية تحرك الناتو شرقاً. في عام 1999، أصبح وريث يلتسين. اليوم تلعب تفضيلات بوتين الشخصية دوراً كبيراً في المواجهة مع الغرب. لقد اختار التنفيس عن مظالمه باستخدام التاريخ المعاد تعريفه من التسعينات، مستشهداً بقرار الناتو في تلك السنوات ب(نشر البنية التحتية العسكرية على حدودنا) كمبرر لتجديد إراقة الدماء والتنافس مع الغرب. نظراً لأهمية هذه الأحداث في عالم اليوم، فقد حان الوقت لإلقاء نظرة جادة، باستخدام جميع الأدلة التاريخية المتاحة، على ما حدث خلال التسعينات. في بداية ذلك العقد، بدا شكل العلاقات المستقبلية أفضل، ويبدو أنه لفهم كيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، يجب أن نحكم على الأوقات الجديدة من خلال عدسة على الأحداث في الماضي.