اسمه ونشأته:-
أبو بكر محمد بن زكريا الرازي ،المولود في مدينة الري قرب طهران الحالية وذلك في العام (251هـ، 865م)، وكما توفي في مسقط رأسه سنة (312هـ، 925م).
خلال نشأته؛ تسلّحَ
الرازي بعلوم الفلسفة والكيمياء بالإضافة إلى الموسيقى، وأثناء مسيرته أيضاً؛ قام
بالخدمة في بلاط الدولة السامانية التي سيطرت حينذاك على جغرافيا واسعة من منطقة أسيا
الوسطى.
وكطبيب؛ فقد ترأس الرازي المستشفيات الكبرى في
كلٍ من بغداد ومدينته الري.
أسطورة اختيار الرازي لموضعِ بناء البيمارستان:-
من أبرز القصص المتداولة
في الأوساط الشعبية، ولربما التأريخية والتوثيقية أيضاً، هي تلك التي تتغنى بأحد منجزات
الرازي في مضمار الطب؛ والمتجسِّدة بتحديده لموقع بناء بيمارستان طبي أمر ببنائه
عضُد الدولة البويهي (936-983 م).
ومن بين إحدى القصص التي تناقلتها الأجيال المتتابعة في هذا الصدد؛ هي تلك التي تتحدث عن قيام الرازي -خلال عملية البحث عن الموقع الأفضل لبناء المستشفى- بتعليق قطع من اللحم في مختلف المناطق الخاضعة للبحث والدراسة، وذلك لاختيار الموضع الأمثل لإرساء قواعد المستشفى الجديد، ليقع اختياره على البُقعة الذي كانت فيها درجة تعفُن اللحم أقل سرعة من سواها.
هذه القصة الجميلة وذات
الدلالة؛ يجب أن تخضع للتمحيص والتدقيق، لا سيما وأن مستشفى عضد الدولة البويهي
(البيمارستان العضدي) تم تأسيسها سنة (370هـ، 980م)، أي أنها قد شيدت بعد مرور
زهاء 50 عاماً على وفاة أبي بكر الرازي.
والحقيقة أن المستشفى
التي حدَدَ مكانها أبو الطب العربي وترأسها، هي تلك التي أمَر ببنائها المعتضد البويهي
والذي حَكَم لنحو عشر سنوات (892/902هـ، 279/289م).
وكان بنو بويه (سلالة من
الديلم تنتمي لجنوبي بحر الخزر)، قد بسطوا نفوذهم على آسيا الوسطى، ثم سيطروا على
مقر الخلافة العباسية في بغداد وذلك عام 945 م، واستمرت دولتهم لغاية العام 1062
م.
“الحاوي في الطب”:-
هذه الصفحة تمثل إحدى
الأوراق التي تضمنها كتاب الحاوي في الطب الذي يبحث بأمراض الجهاز الهضمي، وهو
عبارة عن مؤلَّف مكتوب باللغة العربية، قام بخطه وتأليفه الطبيب أبو بكر الرازي.
تم نسخ مخطوطة “الحاوي” الأصلية من قبل شخص مجهول الهوية من العاملين في مدينة بغداد، حيث قام بالانتهاء منها بتاريخ 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1094م الموافق لتاريخ (19 ذي القعدة 487هـ).
الأمراض والعقاقير والتشخيص والعلاج:-
يقوم كتاب الطب الشامل -الذي
كتبهُ أبو بكر الرازي والذي نعرفه اليوم باسم “الحاوي في الطب”- على
مقتطفاتٍ طبية تتعلق بالأمراض وعقاقير العلاج، إضافة إلى الحالات التي تم تسجيلها
قبل عَصر الرازي، وما قام هو شخصياً بمراقبته وملاحظته وعلاجه بنفسه.
هذا الكتاب الفريد؛ يتكون
من أقسام تتدرج تحت عناوين الأمراض المختلفة، هذا بالإضافة إلى وجود أقسام مختصة
ومنفصلة تتعلق بالعقاقير الدوائية.
وفي الحقيقة؛ تعتبر المكتبة الوطنية للدواء
والطب من الجهات المحظوظة جداً لكونها تمتلك في جعبتها إحدى النسخ عن مخطوطة “الحاوي”
القيمة.
ولنكن أكثر دقّةً؛ هي نسخة ناقصة تتضمن فقط
الجزء المتعلق بأمراض الجهاز الهضمي.
نسخة مخطوطة الحاوي هذه ؛
قام بكتابتها أحد الناسخين الذي لم يترك أي دلالة عن هويته، ولكنه قام بتأريخها في
19 ذي القعدة من عام 487هـ، وذلك في أوج ازدهار العصر الإسلامي.
وهذا التاريخ يوافق يوم 30 تشرين الثاني/نوفمبر
1094 م.
تظهر هنا الصفحة الأخيرة
من نسخة مخطوطة “الحاوي”، والتي توضح بعض المعلومات المتعلقة بهذه النسخة،
فمع أنه لم يدون اسمه عليه؛ إلا أنه حدد التاريخ الذي أتمها فيه.
ففي الصورة المرفقة؛ مكتوب عليها أنها قد اُنجزت
في يوم الجمعة (19 ذي القعدة 487)، وهو ما يعتبر أقدم مخطوطة تمتلكها هذه المكتبة
وثالث أقدم مخطوطة طبية عالمية معروفة ومحتفظ بها في يومنا هذا (NLM MS A17, p. 463).
البحث عن إرث الرازي:-
ورحلة حياة المخطوطات التي خلَّفها الرازي تبدأ على إثر وفاته، حيث قام الباحث ورجل السياسة ابن العميد (912-970 م) بشراء كتاب “الحاوي في الطب”.
وابن العميد الشهير؛ كان يشغل حينها وزيراَ وكاتباً لركن الدولة البويهي وهو الحاكم الفارسي الذي حكم منذ سنة 327هـ الموافق لتاريخ 939م في مدينة الري (إيران).
ثم قام ابن العميد بترتيب سلسلة اجتماعات مع تلامذة الرازي، وذلك بهدف وضع ملاحظات مستمدة من أعمال الطبيب الراحل الكبير، وبالتالي جعلها متاحة للراغبين في الاستفادة منها.
وبعد ذلك؛ أصبح “الحاوي”
أحد أهم الكتب الطبية في ذلك العصر، وهذا ما يظهر بشكل جلي في كل ما كتب منه وعنه
في اللغات اللاتينية، الهندية وبالطبع ضمن المخطوطات العربية القديمة.
كل ذلك الزخم كان بفضل ما
قام به الرازي من دقة في التسجيل وذكر المصادر بطريقة أمينة.
ففي كتابه؛ لن تجد حالات
سريرية جديدة، بل إنه تضمن أكبر عدد من الحالات المتنوعة والكثيرة بالمقارنة مع
كتب الأدبيات الطبية في العصور الإسلامية.
ترجمة الحاوي:-
لم يكن الرازي غريباً عن أوروبا، بل كانت شهرته فيها تضاهي نظيرتها في بلاد المسلمين، فقد عُرف في الكتابات والمخطوطات اللاتينية بلفظ “ريزس”.
وبما أننا نسلط الضوء على
كتاب “الحاوي في الطب” الذي جمع فيه الرازي عُصارة وزبدة معرفته؛ نجد
أنه قد تم ترجمته ونقله إلى اللغة اللاتينية سنة (1279م) تحت اسم “Continens” التي
تعني حرفياً الحاوي أو المتضمن.
وقد تمت عملية ترجمته من
قبل اليهودي فرح بن سالم، الذي كان أحد أطباء مدينة صقلية، والذي اشتهر بنشاطه في
ترجمة هيئة تشارلز لترجمة الأعمال الطبية.
المنصوري في الطب:-
وإن كان هناك كتاب آخر مهم للرازي؛ فهو ذلك الذي جُمع لأجل الأمير منصور والذي هو عبارة عن كتاب من عشرة فصول تم كتابته خصيصاً لتعليم الأمير الساماني والي الري الأمير أبو صالح المنصور بن إسحاق وذلك في سنة (290هـ، 903م).
وقد تمت ترجمة كتاب “المنصوري في الطب” إلى اللاتينية من قبل المترجم المخضرم جيرارد الكريموني سنة (1187م) والذي عرف بكتاب المنصوري.
هذه الكتاب قد أصبح واحد من أيقونات الطب وعلومه في أوروبا بأكملها.
أما الفصل التاسع في هذا الكتاب الذي يتناول أنواع العلاجات وتطبيقها؛ فقد انتشر دوناً عن سواه تحت اسم كتاب “المنصور”.
والجدير بالذكر أن هذا الكتاب تمت طباعته
وتناقله بشكل واسع النطاق وذلك خلال بدايات عصر النهضة الأوروبي، حيث عَلَّقَ عليه
وكَتَبَ عنهُ العديد من الأطباء الشهيرين أمثال “أندرياس فيسالوس”.
كتاب الجدري والحصبة:-
من المخطوطات المؤثرة في
أوروبا ونهضتها الطبية؛ هو كتاب الجدري والحصبة للرازي.
في الحقيقة ما كتبه وجمعه الرازي في هذا الموضوع
لم يكن هو السبّاق فيه، إما يعود قصب السبق إلى الطبيب ثابت بن قرة (221-288 هجري)
والذي كان مترجماً وعالماً يتكلم السريانية عاصر القرن التاسع للميلاد.
وكان ابن قرة في بغداد ونال حظا كبيرا من عناية الخليفة المعتضد، إذ كان الأول صاحب معرفة واسعة في كل من علوم الرياضيات والفلك والتنجيم والطب، فضلا عن إجادته للسريانية واليونانية، ما مكنه من نقل العلوم عنهما إلى اللغة العربية.
ولكن الأطروحة التي وضعها
الرازي في كتابه الجدري والحصبة كان أشمل وأوسع نطاقاً مما تناوله ابن قرة، ليصار
إلى ترجمة مؤلف الأول إلى اللغة اللاتينية مرتين خلال القرن الثامن عشر للميلاد،
وجاء الاهتمام الواسع
بهذا الكتاب في الفترة التي انكب فيها الأطباء في أوروبا على التعمق في بحث موضوع اللقاحات
والجدري وخاصة في سنة 1720 م، وذلك عندما تم وصف إجراء اللقاح للسيدة ماري وورتلي
مونتاغو، وهي زوجة السفير فوق العادة / الاستثنائي في إسطنبول عاصمة البلاد
العثمانية.
كتابات الرازي الطبية:-
ويذكر من بين الأعمال
المكتوبة لأبي بكر الرازي؛ تلك المخطوطات الطبية التي تبحث في ألم المعدة، وعلاج
حصى الكلى والمثانة، وهناك مخطوطات تعنى بعلاج الأمراض بساعة واحدة ومنها (الصداع،
ألم الاسنان، البواسير، الزحار لدى الأطفال).
هناك أيضا كتابات للرازي تتعلق بأمراض الأطفال، كتاباته المتعلقة بطعام المرضى، أمراض المفاصل، الأدوية غير الموصوفة من قبل الطبيب، الأمراض الطبية التي يجب مراجعة الطبيب فيها، وأوراق أخرى تتحدث عن أن بعض الأمراض الخفيفة والتي قد تكون صعبة التشخيص والعلاج بشكل يفوق نظيراتها الأكثر خطورة.
كما كان أبو الطب العربي
قد ألَّف وكَتَبَ عن أسباب احتقان الجيوب وحكِّة رؤوس بعض الأشخاص في أوقات تفتُح
الورود، وهنا يبدو أنه قد ربط بين حساسة غبار الطلع وحُمّى القش التي تظهر
بالتزامن مع موسم تفتُح الزهور.
الرازي .. إرث هائل:-
تعرَّض العلَّامة الموسوعي أبو الريحان البيروني إلى العدد الهائل لمؤلفات الرازي، وذلك في سياق عرض الأول لمساهمات الثاني، وفيما يلي عدد تلك المصنَّفات:
- الطب: ترك وراءه 56 كتاباً، وأبرزها “الحاوي” والذي استخرج منه ماكس ما يرهوف 33 ملاحظة إكلينيكية لها خطرها.
- الفلسفة 17 مؤلفاً، وقد كان يؤمن بخمسة مبادئ قديمة تأثر بها من خلال اطلاعه على مساهمات فلاسفة الإغريق مثل إنباذوقليس وأنكساجوراس، وهي: الله تعالى والنفس الكلية والهيولى الأولى والمكان المطلق والزمان المطلق، وكان يؤمن بقِدَم هذه المبادئ وأنه لا بد منها لوجود العالم.
- الكيمياء: 23 كتاباً، وقد اهتم اهتماماً خاصاً بهذا العلم، معلناً بأن الفيلسوف لا يكون فيلسوفاً حقاً، إلَّا إذا تعلَّم صناعة الكيمياء ومَهَرَ بها.
- علم الكلام: 14 كتاباً.
- المنطق: 8 مؤلفات.
- الميتافيزيقا: 6 كُتُب.
- الرياضيات: 10 مؤلفات.
- الطبيعيات: 33 كتاباً.
مقارنة مع جالينوس:-
بمقارنة ما أنجزه الطبيب الإغريقي جالينوس (130-210 م) مع ما قام به الرازي؛ نجد أن تجربة الأخير بمستشفيات بغداد ومشافي الري، أخذت بعين الاعتبار العديد من الحالات التي لم تتفق مع ما راقبه الأول لمظاهر الحُمّى.
كما كان الرازي قد لاحظَ وعاين مئات حالات فيها
مثلاً أمراض بولية التي لم يرَ منها جالينوس سوى ثلاثة، لذلك فقد كانت ملاحظات الأول
وكتاباته أكثر شمولية وتحديداً من الثاني.
أي أن الرازي قد جهِد ليطور نقاط محددة في النظرية الطبية، لا أن يقوم بتغير أسسها النظرية، لذلك يوسَم بكونه رائدا ًفي تطوير المجال الطبي.
وفي النهاية؛ يتصدَّى ابن النديم لوصف مكانة ونُبل وتواضع ومساهمات الرازي في حقل العلوم الطبية ليس على لخدمة العرب و المسلمين فحسب، بل للعالم برمته، إذ يضيف في كتابه “الفهرست” عن الطبيب الشهير: “أوحَد دهره، وفريدُ عصره، قد جَمَعَ المعرفة بعلومِ القدماء وسيَّما الطب، وكانَ يتنقَّل بين البلدان..، وكان يجلس في مجلسهِ ودون تلاميذه، ودونهم تلاميذ أُخَر، وكان يجيء الرجلُ المريض؛ فيصف له ما يَجد لأوَّل من تلقَّاه، فإن كان عندهم علم وإلَّا تعدَّاهم إلى غيرهم، فإن أصابوا والَّا تكَّلم الرازي في ذلك، وكان كريماً متفضِّلاً باراً بالنَّاس، وحَسَن الرأفة بالفقراء والإعِلَّاء، حتى كان يُجري عليهم الجرايات الواسعة ويمرضهم”.
الرازي .. الأول دائماً:.
كان الرازي صاحب قصب السبق في عدد من الكشوفات والمساهمات الطبية التي تنهل منها البشرية لغاية اليوم، فيما يلي أبرزها:
- أول مبتكر لخيوط الجراحة، وقد ابتكرها من أمعاء القطَّة، والتي اعتمدت لغاية القرن العشرين.
- أول من صنع مراهم الزئبق.
- أول من مَّيزَ بين النزيف الوريدي والنزيف الشرياني، واستخدام الضَّغط بالأصابع لإيقاف النزيف الوريدي، والاعتماد على الربط لإيقاف النزيف الشِّرياني، وهو الأمر المعتمد لغاية يومنا.
- أول من وصف عملية استخراج الماء من العيون.
- أول من استخدم الأفيون في علاج حالات السُعال الجَّاف.
- أول من أدخل المُليِّنات في علم الصيدلة.
- أول من اعتبر الحُمَّى عرضاً لا مرضاً.
- أول من اهتم بالتعليق على وصف بول ودمِ المريض للخروج منهما بمعلومات تصب في صالح العِلاج.
الرازي .. نهاية مسيرة كبيرة:-
عاش الرازي 71 عاماً فقط، لكن إرثه ظل حيّاً لنحو زاد عن 11 قرناً، فبصمته، ستراها أو ستشعر بها، في أي مستوصف صغير أو مستشفى كبير أو كلية تقدم لتلاميذها ذلك الزاد العلمي الذي يؤهلهم ليكونوا أطباءً.
وقال ابن العبري في هذا الصدد: ” وفي سنة عشرين وثلثمائة؛ توفِّيَ محمد بن زكريا الرَّازي، وكان في ابتداء أمره يضرب بالعود، ثم ترك ذلك، وأقبل على الفلسفة، فنال منها كثيراً، وألَّف كتباً كثيرة، أكثرها في صناعة الطِّب وسائرها في المعارف الطبيعية، ودبَّر بيمارستان الرَّي ثم بيمارستان بغداد زماناً.
وكان في بصره رطوبة لكثرة أكله الباقَّلي، ثم عُمِيَ آخر زمانه بماء نزل في عينيه، وجاءه كحَّال ليقدحهما، فسألهُ عن العين كم طبقة هي؟، فقال: لا أعلم، فقال له: لا يقدرح عينيَّ من لا يعلم ذلك.
فقيل له: لو قدحتَ لكُنتَ أبصرت، فقال: لا قد أبصرتُ في الدُّنيا حتى مللتُ، بحسب ما أرده ابن العبري في كتابه الشهير “مختصر تاريخ الدول”.
المصادر:
https://www.nlm.nih.gov/exhibition/islamic_medical/islamic_06.html
- الفهرست، ابن النديم.
- العصر العباسي الثاني، شوقي ضيف.
- تاريخ مختصر الدول، ابن العبري.
- قصَّة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية، راغب السرجاني.
https://www.qdl.qa/العربية/archive/81055/vdc_100030447153.0x000002
https://images.qdl.qa/iiif/images/qnlhc/10672/51810016.jp2/full/,1200/0/default.jpg
https://www.qdl.qa/العربية/archive/81055/vdc_100030429139.0x000020
اسمه ونشأته:-
أبو بكر محمد بن زكريا الرازي ،المولود في مدينة الري قرب طهران الحالية وذلك في العام (251هـ، 865م)، وكما توفي في مسقط رأسه سنة (312هـ، 925م).
خلال نشأته؛ تسلّحَ
الرازي بعلوم الفلسفة والكيمياء بالإضافة إلى الموسيقى، وأثناء مسيرته أيضاً؛ قام
بالخدمة في بلاط الدولة السامانية التي سيطرت حينذاك على جغرافيا واسعة من منطقة أسيا
الوسطى.
وكطبيب؛ فقد ترأس الرازي المستشفيات الكبرى في
كلٍ من بغداد ومدينته الري.
أسطورة اختيار الرازي لموضعِ بناء البيمارستان:-
من أبرز القصص المتداولة
في الأوساط الشعبية، ولربما التأريخية والتوثيقية أيضاً، هي تلك التي تتغنى بأحد منجزات
الرازي في مضمار الطب؛ والمتجسِّدة بتحديده لموقع بناء بيمارستان طبي أمر ببنائه
عضُد الدولة البويهي (936-983 م).
ومن بين إحدى القصص التي تناقلتها الأجيال المتتابعة في هذا الصدد؛ هي تلك التي تتحدث عن قيام الرازي -خلال عملية البحث عن الموقع الأفضل لبناء المستشفى- بتعليق قطع من اللحم في مختلف المناطق الخاضعة للبحث والدراسة، وذلك لاختيار الموضع الأمثل لإرساء قواعد المستشفى الجديد، ليقع اختياره على البُقعة الذي كانت فيها درجة تعفُن اللحم أقل سرعة من سواها.
هذه القصة الجميلة وذات
الدلالة؛ يجب أن تخضع للتمحيص والتدقيق، لا سيما وأن مستشفى عضد الدولة البويهي
(البيمارستان العضدي) تم تأسيسها سنة (370هـ، 980م)، أي أنها قد شيدت بعد مرور
زهاء 50 عاماً على وفاة أبي بكر الرازي.
والحقيقة أن المستشفى
التي حدَدَ مكانها أبو الطب العربي وترأسها، هي تلك التي أمَر ببنائها المعتضد البويهي
والذي حَكَم لنحو عشر سنوات (892/902هـ، 279/289م).
وكان بنو بويه (سلالة من
الديلم تنتمي لجنوبي بحر الخزر)، قد بسطوا نفوذهم على آسيا الوسطى، ثم سيطروا على
مقر الخلافة العباسية في بغداد وذلك عام 945 م، واستمرت دولتهم لغاية العام 1062
م.
“الحاوي في الطب”:-
هذه الصفحة تمثل إحدى
الأوراق التي تضمنها كتاب الحاوي في الطب الذي يبحث بأمراض الجهاز الهضمي، وهو
عبارة عن مؤلَّف مكتوب باللغة العربية، قام بخطه وتأليفه الطبيب أبو بكر الرازي.
تم نسخ مخطوطة “الحاوي” الأصلية من قبل شخص مجهول الهوية من العاملين في مدينة بغداد، حيث قام بالانتهاء منها بتاريخ 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1094م الموافق لتاريخ (19 ذي القعدة 487هـ).
الأمراض والعقاقير والتشخيص والعلاج:-
يقوم كتاب الطب الشامل -الذي
كتبهُ أبو بكر الرازي والذي نعرفه اليوم باسم “الحاوي في الطب”- على
مقتطفاتٍ طبية تتعلق بالأمراض وعقاقير العلاج، إضافة إلى الحالات التي تم تسجيلها
قبل عَصر الرازي، وما قام هو شخصياً بمراقبته وملاحظته وعلاجه بنفسه.
هذا الكتاب الفريد؛ يتكون
من أقسام تتدرج تحت عناوين الأمراض المختلفة، هذا بالإضافة إلى وجود أقسام مختصة
ومنفصلة تتعلق بالعقاقير الدوائية.
وفي الحقيقة؛ تعتبر المكتبة الوطنية للدواء
والطب من الجهات المحظوظة جداً لكونها تمتلك في جعبتها إحدى النسخ عن مخطوطة “الحاوي”
القيمة.
ولنكن أكثر دقّةً؛ هي نسخة ناقصة تتضمن فقط
الجزء المتعلق بأمراض الجهاز الهضمي.
نسخة مخطوطة الحاوي هذه ؛
قام بكتابتها أحد الناسخين الذي لم يترك أي دلالة عن هويته، ولكنه قام بتأريخها في
19 ذي القعدة من عام 487هـ، وذلك في أوج ازدهار العصر الإسلامي.
وهذا التاريخ يوافق يوم 30 تشرين الثاني/نوفمبر
1094 م.
تظهر هنا الصفحة الأخيرة
من نسخة مخطوطة “الحاوي”، والتي توضح بعض المعلومات المتعلقة بهذه النسخة،
فمع أنه لم يدون اسمه عليه؛ إلا أنه حدد التاريخ الذي أتمها فيه.
ففي الصورة المرفقة؛ مكتوب عليها أنها قد اُنجزت
في يوم الجمعة (19 ذي القعدة 487)، وهو ما يعتبر أقدم مخطوطة تمتلكها هذه المكتبة
وثالث أقدم مخطوطة طبية عالمية معروفة ومحتفظ بها في يومنا هذا (NLM MS A17, p. 463).
البحث عن إرث الرازي:-
ورحلة حياة المخطوطات التي خلَّفها الرازي تبدأ على إثر وفاته، حيث قام الباحث ورجل السياسة ابن العميد (912-970 م) بشراء كتاب “الحاوي في الطب”.
وابن العميد الشهير؛ كان يشغل حينها وزيراَ وكاتباً لركن الدولة البويهي وهو الحاكم الفارسي الذي حكم منذ سنة 327هـ الموافق لتاريخ 939م في مدينة الري (إيران).
ثم قام ابن العميد بترتيب سلسلة اجتماعات مع تلامذة الرازي، وذلك بهدف وضع ملاحظات مستمدة من أعمال الطبيب الراحل الكبير، وبالتالي جعلها متاحة للراغبين في الاستفادة منها.
وبعد ذلك؛ أصبح “الحاوي”
أحد أهم الكتب الطبية في ذلك العصر، وهذا ما يظهر بشكل جلي في كل ما كتب منه وعنه
في اللغات اللاتينية، الهندية وبالطبع ضمن المخطوطات العربية القديمة.
كل ذلك الزخم كان بفضل ما
قام به الرازي من دقة في التسجيل وذكر المصادر بطريقة أمينة.
ففي كتابه؛ لن تجد حالات
سريرية جديدة، بل إنه تضمن أكبر عدد من الحالات المتنوعة والكثيرة بالمقارنة مع
كتب الأدبيات الطبية في العصور الإسلامية.
ترجمة الحاوي:-
لم يكن الرازي غريباً عن أوروبا، بل كانت شهرته فيها تضاهي نظيرتها في بلاد المسلمين، فقد عُرف في الكتابات والمخطوطات اللاتينية بلفظ “ريزس”.
وبما أننا نسلط الضوء على
كتاب “الحاوي في الطب” الذي جمع فيه الرازي عُصارة وزبدة معرفته؛ نجد
أنه قد تم ترجمته ونقله إلى اللغة اللاتينية سنة (1279م) تحت اسم “Continens” التي
تعني حرفياً الحاوي أو المتضمن.
وقد تمت عملية ترجمته من
قبل اليهودي فرح بن سالم، الذي كان أحد أطباء مدينة صقلية، والذي اشتهر بنشاطه في
ترجمة هيئة تشارلز لترجمة الأعمال الطبية.
المنصوري في الطب:-
وإن كان هناك كتاب آخر مهم للرازي؛ فهو ذلك الذي جُمع لأجل الأمير منصور والذي هو عبارة عن كتاب من عشرة فصول تم كتابته خصيصاً لتعليم الأمير الساماني والي الري الأمير أبو صالح المنصور بن إسحاق وذلك في سنة (290هـ، 903م).
وقد تمت ترجمة كتاب “المنصوري في الطب” إلى اللاتينية من قبل المترجم المخضرم جيرارد الكريموني سنة (1187م) والذي عرف بكتاب المنصوري.
هذه الكتاب قد أصبح واحد من أيقونات الطب وعلومه في أوروبا بأكملها.
أما الفصل التاسع في هذا الكتاب الذي يتناول أنواع العلاجات وتطبيقها؛ فقد انتشر دوناً عن سواه تحت اسم كتاب “المنصور”.
والجدير بالذكر أن هذا الكتاب تمت طباعته
وتناقله بشكل واسع النطاق وذلك خلال بدايات عصر النهضة الأوروبي، حيث عَلَّقَ عليه
وكَتَبَ عنهُ العديد من الأطباء الشهيرين أمثال “أندرياس فيسالوس”.
كتاب الجدري والحصبة:-
من المخطوطات المؤثرة في
أوروبا ونهضتها الطبية؛ هو كتاب الجدري والحصبة للرازي.
في الحقيقة ما كتبه وجمعه الرازي في هذا الموضوع
لم يكن هو السبّاق فيه، إما يعود قصب السبق إلى الطبيب ثابت بن قرة (221-288 هجري)
والذي كان مترجماً وعالماً يتكلم السريانية عاصر القرن التاسع للميلاد.
وكان ابن قرة في بغداد ونال حظا كبيرا من عناية الخليفة المعتضد، إذ كان الأول صاحب معرفة واسعة في كل من علوم الرياضيات والفلك والتنجيم والطب، فضلا عن إجادته للسريانية واليونانية، ما مكنه من نقل العلوم عنهما إلى اللغة العربية.
ولكن الأطروحة التي وضعها
الرازي في كتابه الجدري والحصبة كان أشمل وأوسع نطاقاً مما تناوله ابن قرة، ليصار
إلى ترجمة مؤلف الأول إلى اللغة اللاتينية مرتين خلال القرن الثامن عشر للميلاد،
وجاء الاهتمام الواسع
بهذا الكتاب في الفترة التي انكب فيها الأطباء في أوروبا على التعمق في بحث موضوع اللقاحات
والجدري وخاصة في سنة 1720 م، وذلك عندما تم وصف إجراء اللقاح للسيدة ماري وورتلي
مونتاغو، وهي زوجة السفير فوق العادة / الاستثنائي في إسطنبول عاصمة البلاد
العثمانية.
كتابات الرازي الطبية:-
ويذكر من بين الأعمال
المكتوبة لأبي بكر الرازي؛ تلك المخطوطات الطبية التي تبحث في ألم المعدة، وعلاج
حصى الكلى والمثانة، وهناك مخطوطات تعنى بعلاج الأمراض بساعة واحدة ومنها (الصداع،
ألم الاسنان، البواسير، الزحار لدى الأطفال).
هناك أيضا كتابات للرازي تتعلق بأمراض الأطفال، كتاباته المتعلقة بطعام المرضى، أمراض المفاصل، الأدوية غير الموصوفة من قبل الطبيب، الأمراض الطبية التي يجب مراجعة الطبيب فيها، وأوراق أخرى تتحدث عن أن بعض الأمراض الخفيفة والتي قد تكون صعبة التشخيص والعلاج بشكل يفوق نظيراتها الأكثر خطورة.
كما كان أبو الطب العربي
قد ألَّف وكَتَبَ عن أسباب احتقان الجيوب وحكِّة رؤوس بعض الأشخاص في أوقات تفتُح
الورود، وهنا يبدو أنه قد ربط بين حساسة غبار الطلع وحُمّى القش التي تظهر
بالتزامن مع موسم تفتُح الزهور.
الرازي .. إرث هائل:-
تعرَّض العلَّامة الموسوعي أبو الريحان البيروني إلى العدد الهائل لمؤلفات الرازي، وذلك في سياق عرض الأول لمساهمات الثاني، وفيما يلي عدد تلك المصنَّفات:
- الطب: ترك وراءه 56 كتاباً، وأبرزها “الحاوي” والذي استخرج منه ماكس ما يرهوف 33 ملاحظة إكلينيكية لها خطرها.
- الفلسفة 17 مؤلفاً، وقد كان يؤمن بخمسة مبادئ قديمة تأثر بها من خلال اطلاعه على مساهمات فلاسفة الإغريق مثل إنباذوقليس وأنكساجوراس، وهي: الله تعالى والنفس الكلية والهيولى الأولى والمكان المطلق والزمان المطلق، وكان يؤمن بقِدَم هذه المبادئ وأنه لا بد منها لوجود العالم.
- الكيمياء: 23 كتاباً، وقد اهتم اهتماماً خاصاً بهذا العلم، معلناً بأن الفيلسوف لا يكون فيلسوفاً حقاً، إلَّا إذا تعلَّم صناعة الكيمياء ومَهَرَ بها.
- علم الكلام: 14 كتاباً.
- المنطق: 8 مؤلفات.
- الميتافيزيقا: 6 كُتُب.
- الرياضيات: 10 مؤلفات.
- الطبيعيات: 33 كتاباً.
مقارنة مع جالينوس:-
بمقارنة ما أنجزه الطبيب الإغريقي جالينوس (130-210 م) مع ما قام به الرازي؛ نجد أن تجربة الأخير بمستشفيات بغداد ومشافي الري، أخذت بعين الاعتبار العديد من الحالات التي لم تتفق مع ما راقبه الأول لمظاهر الحُمّى.
كما كان الرازي قد لاحظَ وعاين مئات حالات فيها
مثلاً أمراض بولية التي لم يرَ منها جالينوس سوى ثلاثة، لذلك فقد كانت ملاحظات الأول
وكتاباته أكثر شمولية وتحديداً من الثاني.
أي أن الرازي قد جهِد ليطور نقاط محددة في النظرية الطبية، لا أن يقوم بتغير أسسها النظرية، لذلك يوسَم بكونه رائدا ًفي تطوير المجال الطبي.
وفي النهاية؛ يتصدَّى ابن النديم لوصف مكانة ونُبل وتواضع ومساهمات الرازي في حقل العلوم الطبية ليس على لخدمة العرب و المسلمين فحسب، بل للعالم برمته، إذ يضيف في كتابه “الفهرست” عن الطبيب الشهير: “أوحَد دهره، وفريدُ عصره، قد جَمَعَ المعرفة بعلومِ القدماء وسيَّما الطب، وكانَ يتنقَّل بين البلدان..، وكان يجلس في مجلسهِ ودون تلاميذه، ودونهم تلاميذ أُخَر، وكان يجيء الرجلُ المريض؛ فيصف له ما يَجد لأوَّل من تلقَّاه، فإن كان عندهم علم وإلَّا تعدَّاهم إلى غيرهم، فإن أصابوا والَّا تكَّلم الرازي في ذلك، وكان كريماً متفضِّلاً باراً بالنَّاس، وحَسَن الرأفة بالفقراء والإعِلَّاء، حتى كان يُجري عليهم الجرايات الواسعة ويمرضهم”.
الرازي .. الأول دائماً:.
كان الرازي صاحب قصب السبق في عدد من الكشوفات والمساهمات الطبية التي تنهل منها البشرية لغاية اليوم، فيما يلي أبرزها:
- أول مبتكر لخيوط الجراحة، وقد ابتكرها من أمعاء القطَّة، والتي اعتمدت لغاية القرن العشرين.
- أول من صنع مراهم الزئبق.
- أول من مَّيزَ بين النزيف الوريدي والنزيف الشرياني، واستخدام الضَّغط بالأصابع لإيقاف النزيف الوريدي، والاعتماد على الربط لإيقاف النزيف الشِّرياني، وهو الأمر المعتمد لغاية يومنا.
- أول من وصف عملية استخراج الماء من العيون.
- أول من استخدم الأفيون في علاج حالات السُعال الجَّاف.
- أول من أدخل المُليِّنات في علم الصيدلة.
- أول من اعتبر الحُمَّى عرضاً لا مرضاً.
- أول من اهتم بالتعليق على وصف بول ودمِ المريض للخروج منهما بمعلومات تصب في صالح العِلاج.
الرازي .. نهاية مسيرة كبيرة:-
عاش الرازي 71 عاماً فقط، لكن إرثه ظل حيّاً لنحو زاد عن 11 قرناً، فبصمته، ستراها أو ستشعر بها، في أي مستوصف صغير أو مستشفى كبير أو كلية تقدم لتلاميذها ذلك الزاد العلمي الذي يؤهلهم ليكونوا أطباءً.
وقال ابن العبري في هذا الصدد: ” وفي سنة عشرين وثلثمائة؛ توفِّيَ محمد بن زكريا الرَّازي، وكان في ابتداء أمره يضرب بالعود، ثم ترك ذلك، وأقبل على الفلسفة، فنال منها كثيراً، وألَّف كتباً كثيرة، أكثرها في صناعة الطِّب وسائرها في المعارف الطبيعية، ودبَّر بيمارستان الرَّي ثم بيمارستان بغداد زماناً.
وكان في بصره رطوبة لكثرة أكله الباقَّلي، ثم عُمِيَ آخر زمانه بماء نزل في عينيه، وجاءه كحَّال ليقدحهما، فسألهُ عن العين كم طبقة هي؟، فقال: لا أعلم، فقال له: لا يقدرح عينيَّ من لا يعلم ذلك.
فقيل له: لو قدحتَ لكُنتَ أبصرت، فقال: لا قد أبصرتُ في الدُّنيا حتى مللتُ، بحسب ما أرده ابن العبري في كتابه الشهير “مختصر تاريخ الدول”.
المصادر:
https://www.nlm.nih.gov/exhibition/islamic_medical/islamic_06.html
- الفهرست، ابن النديم.
- العصر العباسي الثاني، شوقي ضيف.
- تاريخ مختصر الدول، ابن العبري.
- قصَّة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية، راغب السرجاني.
https://www.qdl.qa/العربية/archive/81055/vdc_100030447153.0x000002
https://images.qdl.qa/iiif/images/qnlhc/10672/51810016.jp2/full/,1200/0/default.jpg
https://www.qdl.qa/العربية/archive/81055/vdc_100030429139.0x000020