في التعمُّق بشخصية ابن خلدون الفريدة في عالمنا الإسلامي ونتاجهُ الفكري؛ نلاحظ وجود ترابط مميز بين قوَّة التركيز والتفكير من جهةٍ مع مهارات تنظيمية عالية من جهة أخرى والتي قامت معاً بوضع الأسس الرَّاسخة للعلوم الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية المعاصرة.
ويعتبر نتاج ابن خلدون بحراً متنوعاً يحتاج إلى مقالات وساعات من الشرح لنوفيه حقه، إلا أننا ضمن هذه المقالة سنقوم بتسليط الضوء على عمله وطرحه في علم الاقتصاد وخاصة في شأن الضرائب المفروضة على الفلاحين والمزارعين، والتي تظهر بشكل جلي ضمن مقتطفات من مقدمته الشهيرة.
يرى عبد الرحمن ابن خلدون أنه في إمبراطورية ناشئة لها من العمر سنوات قليلة تتسم الضرائب على الفلاحين والمزارعين بأنها قليلة وصغيرة يمكن للفلاح تحملها، ومع ذلك تتمكن هذه الضرائب القليلة من جمع مبالغ ضخمة لخزينة الإمبراطورية؛ بينما وعلى الجانب الأخر فعندما تشارف سلالة حاكمة أو إمبراطورية ما من نهاية حكمها (حكم استمر لعشرات السنين) تكون ضرائبها عالية مُرهقة على الشعب وخاصة الفلاحين، ومع ذلك تكون عائداتها قليلة جداً بالنسبة للدولة.
يُوضح لنا ابن خلدون السبب في هذا الاختلاف بين الحالين في جمع الضرائب عبر تحديد نوع الدولة أو المنظومة الحاكمة؛ وذلك كالتالي:
تفسير ابن خلدون لعائدات الإمبراطوريات الناشئة الضخمة:-
فعندما يتم تأسيس الخلافة أو الإمبراطورية على أساس ديني إسلامي؛ يتم جمع الضرائب من المواطنين بالشكل التي أجازها الشرع الديني كالزكاة، الخراج – وهي ضريبة الأراضي الزراعية – والجزية التي تفرض على غير المسلمين لقاء حمايتهم.
وتبعاً للشرع الإسلامي؛ تكون هذه الضرائب على اختلافها بسيطة على الفرد ويمكن دفعها بسهولة ولا تشكل أي عبء مالي، كما أن هذه الضرائب محددة قانونياً بمقدار مالي معين يقوم عليه عاملين في الدولة ولا يمكن رفعها عن أحد. بينما في حال كانت الإمبراطورية مبنية على نظام ذو سمات بداوة (حكم قبلي) فهنا الحضارة الناشئة بأكملها ستبنى بشكل أساسي على قيم البداوة – من خير، كرم، مروءة، زهد وطيبة – ومصالحها المتبادلة التي تتم تحت مظلة أخلاقها.
إن تأثير كل حضارة مما ورد في كل من النموذجين يكون لطيفاً، يتميز بالصبر في جمع الضرائب ولا يكون الهدف الكامن ورائه جمع وتكوين ثروة للسلطة – هذا بالمجمل ولكل قاعدة استثناء – ومنه فتعتبر كل الضرائب والرسوم التي تجمعها الدولة (الإمبراطورية أو الخلافة) تكون ضئيلة ولا تشكل أي عبء على مواطنيها بشكل عام وفلاحيها بشكل خاص.
في هذه الحالة يكون المواطنون قادرون على تحمُّل متطلبات حياتهم والضرائب مما يجعلهم مليئين بالطاقة والحماس للعمل والحياة، الأمر الذي يدفع العمل نحو الأمام فالجميع هنا يرغبون بأن يستفادوا مالياً إلى أقصى درجات ممكنة في ظل هذه الضرائب المخفضة؛ وهذا السعي يقود إلى زيادة أعداد المشاركين في العمل بالتالي زيادة الدافعين للضرائب المخفضة ومنه زيادة العائدات المالية إلى الدولة.
رأي ابن خلدون في تراجع عائدات ضرائب الإمبراطوريات في نهاية عهدها:–
أما بالنسبة للإمبراطوريات التي حكمت لزمن طويل، والتي تعيش في أواخر أيامها؛ فيرى عبد الرحمن ابن خلدون أنه وبسبب تعاقب الملوك والخلفاء في الحكم لفترات وأزمنة طويلة، نشأت لديهم قدرة لم تكن لدى سابقيهم في إدارة الأعمال، كما أنهم قد خسروا قيمهم البدوية في الزهد، الصبر وبالطبع لم يعودوا يخافوا بالقوة التي امتلكوها من وسم اسمهم بالعار أو قلة الأخلاق والدين.
لذلك تصبح إدارتهم للدولة بكل نواحيها أكثر قسوة وأكثر قوة وتطلباً؛ خاصة مع تعزيز أفكارهم المالية وذكائهم التجاري ضمن وسط مليء بنخبة موظفي الدولة وعلمائها حيث تصبح النخبة الحاكمة مجموعة من رجال الأعمال من أصحاب السلطة الكاملة.
وكون هذه الفئة تعيش في صخب الرفاهية وتعيش لتتذوق المتع والكماليات، فإن ذلك سينشئ لديهم مع الوقت احتياجات رفاهية جديدة والتي تتطلب مصاريف جديدة لا يمكنهم تأمينها إلا من خلال رفع قيمة الضرائب المفروضة على عامة المواطنين؛ فهنا تقوم النخبة الحاكمة بزيادة الضرائب – ضرائب جديدة تفرض على الاعمال التجارية، الزراعية، المواشي وعلى كل شيء أخر وتمتد على اتساع رقعة سيطرة الإمبراطورية – ولكن دون أي يتدفق لخزانة الدولة أي إيرادات إضافية.
مع الانجرار في الإنفاق غير العقلاني على الكماليات في الحكومة، تتزايد تلقائياً حاجة الحكومة للمال، لذلك ترتفع الضرائب أكثر وتصبح أثقل على كاها المواطن والعامل. ولكن الأمر لا يحدث خلال ليلة وضحاها كأمر جائر ومعادي، بل يتم فرض زيادة ضئيلة على الضرائب بشكل متكرر وتدريجي، بالتالي سوف تنمو وتتزايد قيمتها بشكل يعتاد عليه العامل والمزارع وتنمو قاتلة الشغف والرغبة في العمل لدى كل منهما.
لماذا مع تزايد الضرائب تقل الإيرادات:-
في الحقيقة إن العمال، الصناعيين والمزارعين يشعرون بثقل الضرائب عندما تقوم كل فئة منهم بمقارنة وارداتها، نفقاتها وحجم الضرائب المفروضة والمأخوذة منها. وكلما كبرت النفقات كلما زاد الإحباط واقتنع العديد منهم بترك مهنته أو تغييرها، بالتالي سوف تنخفض الواردات الغير ضريبية إلى خزينة الدولة ومنه سوف يتراجع السوق الاقتصادي للدولة وتقل إيراداتها.
ويلاحظ في بعض الأحيان أنه ومع ملاحظة القائمين على الخزانة ومرؤوسيهم انخفاض واردات الخزينة يتوجهون إلى إقرار زيادة في الضرائب باعتبارها حل لمعالجة هذا التراجع، لذلك ندخل في سلسلة من الزيادات التدريجية على الضرائب لتصل إلى قيمة كبيرة لا يمكن للمزارع العادي أو العامل البسيط تقديمها والربح فهي سوف تأكل كامل ربحته من عمله.
بالتالي يحجم المزارعون عن دفع الضرائب ويتركون أراضيهم التي بعد فترة ستفقد قيمتها المالية والزراعية، لتجد الدولة نفسها أمام جائحة من البطالة والفقر مع مجموعة من الاحداث لم تراها إلا في أسوأ كوابيسها.
الخلاصة:-
يمكن القول بأن ابن خلدون وجد أن أفضل طرق ازدهار القطاعات المنتجة كالزراعة، ولخصهُ بعدة كلمات تنصح بأن يتم تخفيض الضرائب والرسوم المفروضة من قبل الدولة إلى أقل حد، حتى يتولد لدى المزارع حماساً للعمل وللربح، ويصبح حجراً أولاً في بدا دورة الحياة المالية السليمة التي تدر على كل من المزارع والدولة الربح المملوك لكل منهما والايرادات، ويختتم ابن خلدون قوله في الضرائب بالتذكير أن الله عز وجل هو سيد كل شيء ومالكهُ.
المصدر:-
في التعمُّق بشخصية ابن خلدون الفريدة في عالمنا الإسلامي ونتاجهُ الفكري؛ نلاحظ وجود ترابط مميز بين قوَّة التركيز والتفكير من جهةٍ مع مهارات تنظيمية عالية من جهة أخرى والتي قامت معاً بوضع الأسس الرَّاسخة للعلوم الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية المعاصرة.
ويعتبر نتاج ابن خلدون بحراً متنوعاً يحتاج إلى مقالات وساعات من الشرح لنوفيه حقه، إلا أننا ضمن هذه المقالة سنقوم بتسليط الضوء على عمله وطرحه في علم الاقتصاد وخاصة في شأن الضرائب المفروضة على الفلاحين والمزارعين، والتي تظهر بشكل جلي ضمن مقتطفات من مقدمته الشهيرة.
يرى عبد الرحمن ابن خلدون أنه في إمبراطورية ناشئة لها من العمر سنوات قليلة تتسم الضرائب على الفلاحين والمزارعين بأنها قليلة وصغيرة يمكن للفلاح تحملها، ومع ذلك تتمكن هذه الضرائب القليلة من جمع مبالغ ضخمة لخزينة الإمبراطورية؛ بينما وعلى الجانب الأخر فعندما تشارف سلالة حاكمة أو إمبراطورية ما من نهاية حكمها (حكم استمر لعشرات السنين) تكون ضرائبها عالية مُرهقة على الشعب وخاصة الفلاحين، ومع ذلك تكون عائداتها قليلة جداً بالنسبة للدولة.
يُوضح لنا ابن خلدون السبب في هذا الاختلاف بين الحالين في جمع الضرائب عبر تحديد نوع الدولة أو المنظومة الحاكمة؛ وذلك كالتالي:
تفسير ابن خلدون لعائدات الإمبراطوريات الناشئة الضخمة:-
فعندما يتم تأسيس الخلافة أو الإمبراطورية على أساس ديني إسلامي؛ يتم جمع الضرائب من المواطنين بالشكل التي أجازها الشرع الديني كالزكاة، الخراج – وهي ضريبة الأراضي الزراعية – والجزية التي تفرض على غير المسلمين لقاء حمايتهم.
وتبعاً للشرع الإسلامي؛ تكون هذه الضرائب على اختلافها بسيطة على الفرد ويمكن دفعها بسهولة ولا تشكل أي عبء مالي، كما أن هذه الضرائب محددة قانونياً بمقدار مالي معين يقوم عليه عاملين في الدولة ولا يمكن رفعها عن أحد. بينما في حال كانت الإمبراطورية مبنية على نظام ذو سمات بداوة (حكم قبلي) فهنا الحضارة الناشئة بأكملها ستبنى بشكل أساسي على قيم البداوة – من خير، كرم، مروءة، زهد وطيبة – ومصالحها المتبادلة التي تتم تحت مظلة أخلاقها.
إن تأثير كل حضارة مما ورد في كل من النموذجين يكون لطيفاً، يتميز بالصبر في جمع الضرائب ولا يكون الهدف الكامن ورائه جمع وتكوين ثروة للسلطة – هذا بالمجمل ولكل قاعدة استثناء – ومنه فتعتبر كل الضرائب والرسوم التي تجمعها الدولة (الإمبراطورية أو الخلافة) تكون ضئيلة ولا تشكل أي عبء على مواطنيها بشكل عام وفلاحيها بشكل خاص.
في هذه الحالة يكون المواطنون قادرون على تحمُّل متطلبات حياتهم والضرائب مما يجعلهم مليئين بالطاقة والحماس للعمل والحياة، الأمر الذي يدفع العمل نحو الأمام فالجميع هنا يرغبون بأن يستفادوا مالياً إلى أقصى درجات ممكنة في ظل هذه الضرائب المخفضة؛ وهذا السعي يقود إلى زيادة أعداد المشاركين في العمل بالتالي زيادة الدافعين للضرائب المخفضة ومنه زيادة العائدات المالية إلى الدولة.
رأي ابن خلدون في تراجع عائدات ضرائب الإمبراطوريات في نهاية عهدها:–
أما بالنسبة للإمبراطوريات التي حكمت لزمن طويل، والتي تعيش في أواخر أيامها؛ فيرى عبد الرحمن ابن خلدون أنه وبسبب تعاقب الملوك والخلفاء في الحكم لفترات وأزمنة طويلة، نشأت لديهم قدرة لم تكن لدى سابقيهم في إدارة الأعمال، كما أنهم قد خسروا قيمهم البدوية في الزهد، الصبر وبالطبع لم يعودوا يخافوا بالقوة التي امتلكوها من وسم اسمهم بالعار أو قلة الأخلاق والدين.
لذلك تصبح إدارتهم للدولة بكل نواحيها أكثر قسوة وأكثر قوة وتطلباً؛ خاصة مع تعزيز أفكارهم المالية وذكائهم التجاري ضمن وسط مليء بنخبة موظفي الدولة وعلمائها حيث تصبح النخبة الحاكمة مجموعة من رجال الأعمال من أصحاب السلطة الكاملة.
وكون هذه الفئة تعيش في صخب الرفاهية وتعيش لتتذوق المتع والكماليات، فإن ذلك سينشئ لديهم مع الوقت احتياجات رفاهية جديدة والتي تتطلب مصاريف جديدة لا يمكنهم تأمينها إلا من خلال رفع قيمة الضرائب المفروضة على عامة المواطنين؛ فهنا تقوم النخبة الحاكمة بزيادة الضرائب – ضرائب جديدة تفرض على الاعمال التجارية، الزراعية، المواشي وعلى كل شيء أخر وتمتد على اتساع رقعة سيطرة الإمبراطورية – ولكن دون أي يتدفق لخزانة الدولة أي إيرادات إضافية.
مع الانجرار في الإنفاق غير العقلاني على الكماليات في الحكومة، تتزايد تلقائياً حاجة الحكومة للمال، لذلك ترتفع الضرائب أكثر وتصبح أثقل على كاها المواطن والعامل. ولكن الأمر لا يحدث خلال ليلة وضحاها كأمر جائر ومعادي، بل يتم فرض زيادة ضئيلة على الضرائب بشكل متكرر وتدريجي، بالتالي سوف تنمو وتتزايد قيمتها بشكل يعتاد عليه العامل والمزارع وتنمو قاتلة الشغف والرغبة في العمل لدى كل منهما.
لماذا مع تزايد الضرائب تقل الإيرادات:-
في الحقيقة إن العمال، الصناعيين والمزارعين يشعرون بثقل الضرائب عندما تقوم كل فئة منهم بمقارنة وارداتها، نفقاتها وحجم الضرائب المفروضة والمأخوذة منها. وكلما كبرت النفقات كلما زاد الإحباط واقتنع العديد منهم بترك مهنته أو تغييرها، بالتالي سوف تنخفض الواردات الغير ضريبية إلى خزينة الدولة ومنه سوف يتراجع السوق الاقتصادي للدولة وتقل إيراداتها.
ويلاحظ في بعض الأحيان أنه ومع ملاحظة القائمين على الخزانة ومرؤوسيهم انخفاض واردات الخزينة يتوجهون إلى إقرار زيادة في الضرائب باعتبارها حل لمعالجة هذا التراجع، لذلك ندخل في سلسلة من الزيادات التدريجية على الضرائب لتصل إلى قيمة كبيرة لا يمكن للمزارع العادي أو العامل البسيط تقديمها والربح فهي سوف تأكل كامل ربحته من عمله.
بالتالي يحجم المزارعون عن دفع الضرائب ويتركون أراضيهم التي بعد فترة ستفقد قيمتها المالية والزراعية، لتجد الدولة نفسها أمام جائحة من البطالة والفقر مع مجموعة من الاحداث لم تراها إلا في أسوأ كوابيسها.
الخلاصة:-
يمكن القول بأن ابن خلدون وجد أن أفضل طرق ازدهار القطاعات المنتجة كالزراعة، ولخصهُ بعدة كلمات تنصح بأن يتم تخفيض الضرائب والرسوم المفروضة من قبل الدولة إلى أقل حد، حتى يتولد لدى المزارع حماساً للعمل وللربح، ويصبح حجراً أولاً في بدا دورة الحياة المالية السليمة التي تدر على كل من المزارع والدولة الربح المملوك لكل منهما والايرادات، ويختتم ابن خلدون قوله في الضرائب بالتذكير أن الله عز وجل هو سيد كل شيء ومالكهُ.