للكاتب راهيم حساوي
موسى الزعيم
وهي الرواية الرابعة للكاتب السوري راهيم حساوي، و تأتي بعد روايتيه “الباندا” و “ممرّ المشاة” .
تحاولُ رواية الكعب الأبهر الدخول إلى الذات الإنسانية في محاولةٍ لفهمها من خلال ما يصدر عنها من أفعال وردود أفعال حول القضايا المحيطة بنا والتي لا نتوقف عندها في غالب الأحيان، لاعتقادنا أن ما هو بديهي وعادي سيمرّ دون أن نحفل به، أو لا يستحق أن نشغل ساحة تفكيرنا به.
تكشف الرواية هذا الغطاء الشّفاف عن ذواتنا من خلال احتفائها بالتفاصيل اليومية، ولأنّ الرواية اليوم هي الحقل المعرفي والفني الذي من خلاله يمكن قراءة الدواخل الإنسانية ومعرفة ما تنضوي عليه.. فهي حسب وجهة نظر “يونغ” : “الفنّ الأدبي الأكثر ملاءمة للتحليل النفسي، من خلال دراسة سيكولوجية الشخصيات الروائية و ربطها بواقع الحياة و من خلال المقاربة مع حياة الراوي و النظر في الصراعات النفسية لهذه الشخصيات.. كما تعد الرواية حقلا معرفيا لكشف خبايا النفس البشرية ومكنوناتها وصراعاتها”.
من خلال ذلك شكّلت رواية الكعب الأبهر ميداناً لكشف تلك الصراعات والمتلازمات العُقدية والوساوس القهرية وما يتعلق منها بمحيط الشخصيات وبيئتها الزمانية و المكانية، وقد سعتْ إلى تقديم ذلك عن الحياة الداخلية للشخصيات عبر “نديم” المتيقّظ لتلك الهواجس والدوافع والغوص في أعماق من حوله واستنباط الحيوات الداخلية لهم..
في الرواية الكثير من الأبعاد النفسية والمواقف والضغوط، القلق والمخاوف و الهواجس، كل ذلك يفجّر في الشخصيات طاقاتها الكامنة للبوح أو الانتكاس أو الارتكاس، وفي بعض الأحيان، يوحي السارد لها بطرق الانتصار على ضعفها أو الخروج من مأزق ما. يضعها على محكّ الاختبار من خلال الصراع وعلاقة المكان بالآخر، بالتأكيد يعكس ذلك علاقة الأدب بقضايا الإنسان والمجتمع وعلم النفس وسيكولوجية النفس البشرية من خلال القراءة النفسية لوعي الانسان، فشخصيات الرواية ليست جسداً متحركاً في فضاء المكان، أو الزمان، وإنما هي مكونات نفسيّة وأفكار، عُقد ومشاعر، وهذا ما منح النص الكثير من حرارة العاطفة وصدق الوجدان والصدى الداخلي لدى القارئ، بالإضافة إلى جمالية عرض هذه القضايا، مما يحقق غاية الأدب القصوى “الجمالية” لم يكتف الراوي برصد ظواهر الحركة بل كان هناك عين جانبية ” عين ثالثة” ترصد هذه الهواجس والتغيرات والتنبؤات، وكأن الصوت يأتي من بعيد من عمق التجربة الإنسانية.
تبدأ الرواية بمقولة ” الذين لا يملكون شيئاً في هذا العالم هم أكثر الذين يفكّرون بمصير العالم ” وتدور أحداث الرواية في صيف 2014 في بيروت في حيّ فرن الشباك، حيث يعمل نديم مدققاً ومراجعاً لغوياً في إحدى دور النشر، في غرفته المستأجرة بالقرب من مقهى قرطبة، يشكّل عالمه الصغير الذي تتفاعل فيه الأحداث وتفصح الشخصيات عما يجول في نفسها. في هذه الغرفة، تُكتَب السيناريوهات الخفيّة وبعين سينمائية ترصد أدقّ التفاصيل.
فشخصية نديم هي الفاعل المحرك للأحداث إذ يرى نفسه “جاسوساً” لا يتبع أيّة جهة، في بيئته يؤثّر ويتأثّر بها، يساهم في دفعها وتحليل ردود أفعالها ويرى أنّ الحياة تقوم على الأفعال وليس على ردود الأفعال، ردود الأفعال هي أفعال بحدّ ذاتها وهي متوالية لا تنتهي.
تطرح الرواية الكثير من الرؤى والقضايا وخاصة ما يتعلّق بالتفاعلات النفسية والسلوكية للبشر من خلال ملاحظة سلوك الانسان في حيّز مكاني ضّيق ” المقهى ” أو الغرفة أو بيئة العمل، هذا الميدان الاختباري الصغير يكفي لدراسة عالم كلّ فرد..
هذه الأحداث تتفاعل وتؤثر على الفرد، ليغدو المكان في الرواية دافعاً أو محرّضاً للهروب من ” لبنان” نحو فضاء العالم، وكما في نهاية الرواية تهاجر ” جوليا إلى البرازيل، وايناس إلى الأرجنتين، ورنا إلى فرنسا” كلّ يبحث عن ذاته ولو مؤقتا.. لكن كلّ توهم نفسه بالعودة إلى مكانه الأصلي مرّة أخرى، فتحاولُ أن تُبقي كلّ شيء على حالهِ، وهذا ما طلبته إيناس صاحبة مقهى قرطبة، حين أوصت أن تبقى المسافة بين الطاولات في المقهى، كما هي حتى عودتها، ربما بعد سنة!!
من هنا يمكن قراءة الشخصيات على أنّها متصالحة مع واقعها النفسي والسلوكي، تحاول أن تنتصر لذاتها ومصائرها، لكنها لم تكن منكسرة أو سلبية.
فالسيد ناصيف يكادُ يفصح أنّه هو من يكتب القصة وليس ابن أخيه، ويفكر في حلاقة شاربه الذي يشبه شارب نيتشه.. الذي طالما كان معجبا به..
تكشف الرواية أن لكلّ فردٍ مرجعيته التاريخية والنفسية، بما تحويه في صندوق ذاكرة فيه الكثير من الخبرات، يحاول المرء الاستناد إليه أو البحث فيه عن وسيلة خلاصه في حال أزمته.
طرحت الرواية عدداً من القضايا، مثل علاقة الانسان بذاته وبمحيطه و بالمكان الذي ألفه هذا المكان الذي يفرضُ عليه مسؤولية المحيط والجوار ” الشارع والحي والمقهى” يبدو ذلك من خلال علاقة إيناس بمن حولها و علاقة العامل بربّ العمل خارج إطار المؤسسة التي يعمل فيها، علاقة الحبّ من طرف واحد، علاقة الانسان بشكله الخارجي، ومدى تصالحه مع ذلك، علاقة الأخ بأخته وهذا أهمّ ما يمّيز رواية الكعب الأبهر.
جوهر اللعب
يفتح اللعب باب التساؤلات و منها ما يتعلّق بالأسطورة أو نوازع الإنسان ونظرته إلى الحوادث التي لم يستطع تفسيرها، فراح يخترع لها ألعاباً “فالألعاب نشأت بدافع عُقدة الانسان عمّا عجز عن تفسيره” حسب وجهة نظر نديم.
تتجاوز الألعاب أحياناً حيز الملموس على أرض الواقع، يمارسها المرء مع ذاته ومع الآخرين مثل ” لعبة المدير مع نديم الشطرنج في منزله ” حيث يُحلل الراوي هذه الحالة من خلال طرح أسئلةٍ تتعلّق بهذا النوع من اللعب والحريّة فيه ما جدوى الربح والخسارة مع المدير؟
هذه الألعاب بمجملها لا تفارق ذاكرة نديم، يستحضرها باعتبارها أجمل ما تحتفى به ذاكرتهُ .
يتذكر دائما حين كان يلعبها مع أخته ريّا من خلال تشكيل بعض الأشياء من ورقة دفتر “كصنع طائرة ورقيّة، قارب، سماعة طبيب، بوق أو مسدس.. يكبر نديم وتكبر ريّا معه إلاّ أن ظلال تلك الألعاب تبقى الأثيرة لديهما، لكن يبدو أن نوعاً آخر من لعبِ الكِبار تستلزمه المرحلة الجديدة، وهو اللعب المعرفيّ من أجل إثبات الذات، تحاول ريّا أن تظهر مقدرتها الفكرية وإثبات ذاتها عن طريقة لعبةٍ مسرحيّة ابتكرها نديم.
ترصد الرواية علاقة نديم بأخته ريّا بطريقة قريبة إلى القلب والوجدان تتجاوز حدود التعاطف لتلامس الوعي الجمالي في تلك العلاقة من خلال “اكتمال الوا حد منهما بالآخر” في علاقة إنسانية في أبهى صورها..
ريّا أوّل حبّ في حياة نديم، فهي” عندما تجلس بجانبه يشعر بكثافته، فيحبّ الشتاء لأنه يمضي الوقت بقربها، يحبّ الفصول لأجلها، فالرعد يهبه عطاياها والربيع والشتاء والليل والشمس الفرح ..”
منذ أن كانت صغيرة حتى وبعد أن تزوجت وصار لديها أطفال. لم تظهر صورة زوجها أو أولادها إلاّ نادراً في الرواية، ما يدل على انشغال الراوي والتركيز على ” الأخت ذاتها ” دون من حولها والتي لايزال يهتم بما يبكيها وما يفرحها..” ويشعر أن عدم دخولها المدرسة وتعلمها مسؤوليته. و لايزال يراها تعلو فوق كلّ ما تراه عيناه، مثل قطعة خشب تطفو على الماء وهي خلاصهُ السعيد وتوصله إلى برّ الأمان، وهي وحدها تستطيع أن تُخرج أجمل ما في داخله..
نديم وريّا عاشا يتيمين في بيت الجد والعم، لم تدخل ريّا المدرسة، لكن شغف المعرفة لم يفارقها يوماً، حتى وهي تعلّم أطفالها، تحاول قراءة بعض الكلمات، تحاول دائماً أن تعرّف ما الجديد الذي تعلمه نديم في المدرسة حين كان يذهب إليها.
في الرواية تتقاطع سردية ريّا دائماً مع سرديات الأساطير، نديم مولع بها “فالكرة الأرضية على قرن ثور” أمّا أسطورة آخيل فهي المحور الشاغل له.. وعليها بنى حسّاوي عنوان روايته. “هذا الكعب الذي يغدو قريباً من القلب كقرب شريانه الأبهر منه. ألا تستحق الأشياء التي نحبها أن نؤسطرها ؟
يعمد إلى مقاربة تلك الأسطورة بحادثة وقعت له، حين سقط على درج المدرسة.
“يؤلمه كعب رجله، فيلجأ إلى ريّا، تطبّبه،” تطلب منه أن يرسم دائرة حول مكان الألم وتدلّك له كعبه حتى يغفو، يربط ذلك دائما بأسطورة آخيل الذي عمّدته أمّه في النهر المُقدّس، عدا كعب قدمّهـ حيثُ تُمسِك يدها به، لذلك يشعر نديم أنّه سيموت موتاً تراجيدياً كما في الأسطورة.
هذا الشغف يدفع نديم مستقبلاّ أن يصنع وشماً على الكعب الذي رسم حوله دائرة.
فهكذا يكبر المرء وتكبر أحدوثته معه. ويبقى لها تأثيرها المحفور في ذاته، يأنس لها في وحدته، فهي كنزه الحفيّ الذي لا يراهن على التفريط به.
مَسرحة الواقع
يبدع الكاتب في ربط التفاصيل الصغيرة بعضها ببعض من خلال العين الراصدة “لكل تفصيلة في محيطه ولم يكن ذلك فضفاضاً في السرد، ما يجعلك تشعر بمدى قرب تلك الأشياء منك، وأنت تقرأ، ردّة فعلك اتجاهها، و ما تخلّفه من صدى في النفس
( فإغلاق البوتغاز، حنفية الماء، إعادة الوسادة إلى مكانها، هل تجلي صحنك بعد الطعام مباشرة أم تؤجل ذلك؟ أعقاب السجائر والمنفضة، الطاولة ومكان تموضعها، الكنبة.. البكاء وخديعة النفس به).
تجلى ذلك أيضاً في موقف تدريب ريّا على سيناريو أتقنته بالتفصيل، لتدير حواراً تغدو الندّ الثقافي لحملة الشهادات الجامعية ولفئة تدّعي المعرفة، فالأمر لا يتعدى أن تكون شكلانياً، تُظهر لندّك أنّ هذا الوجه المعرفي الماثل أمامه.
لن يستطيع كشفه، أو بمعنى آخر أنّ ما نتقنه في حياتنا؛ ما هو إلاّ مهارات، قد يكون زيفاً أو تمثيلاً لأدوار نؤديها لتعزيز ثقتنا بذاتنا.
الغاية الأساسية من هذا الفعل هو إظهار هشاشة بعض الصور الإطارية للبشر، لكنه مع ذلك استطاع تعزيز ثقة ريّا بنفسها، لتفهم زيف هذا العالم وبالتالي أتقنت اللعبة، ولم تعد بحاجة إلى البروفات، والمرء رهين بما تعوّد عليه.
عَتبات موازية للنص
على متن السرد، كانت الأحداث تتشكّل وكأنها دوائر محيطة بكل شخصية، تتقاطع مع الآخرين و مع الراوي، تقترب منه، تتوهج ومن ثم تخبو، يعود نديم إلى شقته ينشغل بتحليل الفعل أو ردود الفعل، هو متحرك وفاعل مؤثّر ومُحلل لكل ما يظهر على ساحة الوعي في الرواية يحاول الإجابة من خلال التفسير البعيد لكلّ الأسئلة القلقة والباردة التي تزدحم بها الشخصيات، يعي هذه القشرة الهشّة التي تغلف الانسان وتدفعه للبوح بشكل مباشر أو من خلال إشارات استطاع تلقيها، فيحيل تلك التعليقات إلى راوٍ ثالث، هذا الراوي محايد يمتلك العين الخبيرة البصيرة في تحليل الأحداث..
فكثيرة هي المقولات والتعليقات في متون السرد والتي تشعر القارئ أنّ هناك صوتاً ثالثاً غير المؤلف أو الراوي هذا السارد يعطفُ السرد باتجاه بعيدٍ عميق و غالباً ما تبدأ مقولته
” بالمرء” مثلَ “.. فإفراغ المرء ما في جعبته عندما يكون ثمِلاً ما هو إلاّ إدراكه المسبق بأنّه اتفاق ما بينه وبين الآخرين…كذلك الاتفاق المتعلق بنظرات اللصوص أثناء توزيع المسروقات… أو ” لا نستطيع أن نقول أن الذين ماتوا باكراً كانت حياتهم قصيرة فالأمر سواء والمرء يدرك هذه الحقيقة لكنه يرفضها ويرغب بالعيش طويلاً ليرى أكبر قدر ممكن من الموت قبل موته”
هذا الاشتباك بين المؤلف والراوي والصوت الثالث، يفضي إلى تساؤل وإشارات في نهاية الرواية “لماذا لا يكتب نديم كلّ ما حدث؟ لماذا لا يكتب روايةَ؟
أما عن لغة السرد: فقد جاءت شفافة غنية بعيدة عن التعقيد فيها الكثير من الشحن العاطفي
اتسمت أحياناً بالدقّة والتفصيل بما يتعلق بشرح بعض القضايا العلمية كذلك لغة الحوار الشفاف من خلال استخدام الجمل القصيرة التي تساهم في الانتقال السلس من فكرة إلى أخرى دون إطالة أو إسهاب..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
راهيم حسامي كاتب سوري مقيم في برلين.
.
أخبار متنوعةالمؤتلف والمختلف من قصيدة الشعر إلى قصيدة النثرحينَ تُكْسَرُ مِحْبَرة الشعراء في سمكريّ الهواء تقاسيم على وطن منفردإعادة صناعة الطوائفالعرب في ألمانيانساءٌ مصرّيّات حديثات، الموضة والايمان، تمثّلات وخطابات”الحياة الثقافية في مملكة البحرين