في قلب القاهرة القديمة، بجوار مسجد ابن طولون العريق، يقف شاهداً على عصورٍ خلت، متحف “جاير أندرسون” أو بيت الكريتلية.
ليس منزلاً واحداً، بل اثنان منفصلان، يرويان حكاية معمارية فريدة من نوعها. بُني الأول عام 1540 على يد المعلم عبدالقادر الحداد، بينما شيده الثاني الحاج محمد بن سالم بن جلمام الجزار عام 1631. تعاقبت على عيشه عائلات كثيرة، حتى سكنته سيدة من جزيرة كريت، فاشتهر باسمها “بيت الكريتلية”. وفي زمن الاحتلال الإنجليزي، حظي هذا المنزل بضيف مميز، هو الضابط “جاير أندرسون”. أُعجب “أندرسون” بجمال المكان، فجعله مقر إقامته، وأقام جسرًا يربط بين المنزلين. لم يكتفِ “أندرسون” بالسكن، بل عكف على جمع تحفٍ وقطعٍ أثريةٍ من مختلف الحضارات؛ الإسلامية والفرعونية والآسيوية. زخرف منزله بأثاثٍ عثماني أنيق، وقرر أن يهدي هذا الكنز للدولة المصرية بعد رحيله. وهكذا، تحول بيت الكريتلية إلى متحف فريد يضم مئات القطع النادرة، ويروي حكايةً عن التنوع الثقافي عبر العصور. يتجول الزائر في قاعات المتحف، فيستمتع بتنوع الطرز المعمارية؛ من الأندلسية والدمشقية إلى الصينية وغيرها. تزين الجدران لوحات فنية تجسد مشاهد من الحضارات القديمة، وتزين الأرضية بسجاد غني بالألوان والنقوش.في كل زاوية قطعة أثرية تروي حكاية، وتثير تساؤلاً.مثل تمثال فرعوني عريق، يحاكي ملامح إله قديمة، وزخرفة إسلامية بديعة، تنبض بروح الإيمان.وقطعة من خزف صيني نادرة، تحاكي مهارة صانعيها، وسجادة عثمانية غنية، تعبر عن ذوق رفيع.يمكن للزائر أن يتخيل نفسه في رحلة عبر الزمن، يتجول بين حضارات عريقة، وشعوب مختلفة، وثقافات متنوعة. ويري القطع الأثرية الفريدة مثل تمثال فرعوني للإلهة “ماعت”، إلهة الحق والعدالة، من الأسرة الثامنة عشرة، ولوحة فنية تجسد معركة قاديس، وهي معركة بحرية عظيمة انتصر فيها المسلمون على الروم، وسجادة عثمانية غنية بالنقوش الإسلامية، من القرن السادس عشر، ومجموعة من الأسلحة والدرع من مختلف الحضارات، بالإضافة إلى مجموعة من النقود والمجوهرات من مختلف العصور.لا عجب أن حظي هذا المكان بسحرٍ خاصٍ جذب إليه عدسات السينما، فظهر في أفلامٍ مصريةٍ خالدةٍ مثل “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية”.ومازال بيت الكريتلية وجهة ثقافية مميزة، يزوره محبو التاريخ والباحثون من مختلف أنحاء العالم.ففي كل زاوية من هذا المنزل، حكاية تنتظر أن تروى، وقصة تكتب بحروف من ذهب على صفحات التاريخ.