في أحد كهوف سيبيريا، تعاقبت وتقاطعت أحياناً ثلاثة أجناس من البشر في غابر الزمان لفترة تقرب من 300 ألف عام.
وسلطت تحاليل للحمض النووي الضوء على تاريخ الموقع المسمى كهف دينيسوفا نسبة إلى جنس غامض لم يعد له أثر.واكتُشفت أولى بقايا البشر القدماء من نوع إنسان دينيسوفا القريب من جنس إنسان نياندرتال، سنة 2010 في كهف بجبال ألتاي الروسية.ومن جزء بسيط من سلامية خنصر، استخرج علماء الإحاثة حمضاً نووياً وتمكنوا من تحديد تسلسل وراثي لمجين كامل من هذا الجنس.
وباستثناء المتحجرات القليلة من الكهف وفك سفلي عُثر عليه في التبت، لم يعد لهذا النوع البشري أي أثر.لكن المؤكد هو أن إنسان دينيسوفا تزاوج مع إنسان نياندرتال، إذ عُثر على بقايا متحجرة لطفل مولود من هذا التزاوج.
وفيما اختفى إنسان نياندرتال عن سطح الأرض قبل حوالي 40 ألف سنة، لا يُعلم بعد تاريخ اندثار إنسان دينيسوفا أو ما كان شكله.
وقد تزاوج هذا الإنسان أيضاً مع أفراد من مجموعة الإنسان العاقل (هومو سابينس)، وهو الإنسان المعاصر، تاركاً جزءاً من مجينه لدى مجموعات سكانية يعيش أفرادها حالياً في شرق آسيا وبابوا-غينيا الجديدة.
لكن متى حصل ذلك؟ هنا أيضاً، لا معلومات دقيقة كما أن التواريخ المحددة لذلك لا تزال غامضة.
إلا أن دراسة جينية جديدة نشرتها أخيراً مجلة “نيتشر” تقدم بعض الإيضاحات في هذا المجال.
وفي ظل عدم وجود عظام، قرر فريق من العلماء تحليل تربة الكهف. وقد جمعوا أكثر من 700 عينة من رواسب في طبقات مختلفة، ونجحوا في استخراج الحمض النووي للميتوكوندريا (الموروث من الأم)، وهي بقايا مجهرية عن الاحتكاك البشري محفوظة بفعل البرد.
بطولة تكنولوجية
وسمحت هذه البيانات، مع ربطها ببحوث مناخية، بوضع تصور علمي لتاريخ العيش في هذا الموقع على مر الزمن.
وقد كان أول القاطنين في المكان من جنس إنسان دينيسوفا قبل حوالي 250 ألف سنة، “في فترة حارة نسبيا”، وفق ما أوضحت إيلينا زافالا من معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية، وهي معدة الدراسة.
وقبل حوالي 190 ألف سنة، أصبح المناخ أكثر برودة، وظهر إنسان نياندرتال. أما إنسان دينيسوفا فقد اختفى مؤقتاً ثم عاد للظهور لاحقاً وتزاوج مع إنسان نياندرتال.
وحصل تاليا هذا التمازج بين الجنسين القريبين على مر العصور، على ضوء التغيير في الأنظمة البيئية.لكن هل تعايش الجنسان حقاً، وإذا كان الأمر قد حصل فعلاً، كم استمر ذلك؟ “الجواب صعب على هذا السؤال نظراً إلى الفروق الزمنية الكبيرة” بين تواريخ تواجد هذين النوعين، وفق الباحثة.
وتشير الدراسة أيضاً إلى ظهور جنس ثالث هو الإنسان العاقل، قبل حوالي 45 ألف سنة. ولم يكن وجود هذا النوع البشري في الموقع سوى فرضية طرحها اكتشاف أدوات معقدة، من دون أي دليل وراثي مرتبط بذلك.
ومنذ ذلك الوقت، لم يعد الحمض النووي لإنسان دينيسوفا يظهر في طبقات الرواسب الأحدث عهداً.
وقالت سيلين بون وهي عالمة إحاثة وراثية في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في باريس “لدينا للمرة الأولى تاريخ لنهاية احتلال كهف إنسان دينيسوفا”.
كذلك يقدم ذلك فكرة عن الفترة التي زال فيها هذا الجنس من كل المناطق التي استوطنها، وفق الباحثة التي لم تشارك في الدراسة.
وقالت أستاذة علم الإناسة الوراثية في المتحف إيفلين إيير من جانبها “إنه اكتشاف مذهل، أشبه بفيلم يظهر من كان موجوداً وفي أي وقت في هذا الموقع العائد إلى 300 ألف سنة”.
وأشارت إلى أن “النجاح في رصد كل هذه الجزيئات من الحمص النووي في وسط كومة تراب يشكل بطولة تكنولوجية”، ما يفتح برأي إيير آفاقا بحثية واعدة.
ولفتت سيلين بون إلى أن بحوث الحمض النووي في التربة “تبعث الأمل” لأنها لا تؤدي إلى تلف أي شيء، خلافا للتحليل الجيني للعظام القديمة التي تتسم بهشاشة فائقة.