عقب إحرازه رابع أهداف خماسية المنتخب الألماني الأول لكرة القدم في إسكتلندا ضمن منافسات كأس أوروبا، وخطفه، بعدها بأيام، نقطة التعادل أمام سويسرا لحساب آخر جولات دور المجموعات، انفرج ثغر المهاجم نيكلاس فولكروج عن فلج واسع بين نابِه العلوي الأيمن، وسنّتيه المركزيَّتين، فسّر الهتاف بكلمة «لوكي» الذي انبعث بقوّة من المدرجات.
ولوكي، التي تعني فجوة بالألمانية، حوّلت ما يراه البعض تشوهًا يستوجب جراحة تجميلية لتقويم الأسنان، إلى لقب تهتف به الجماهير للمهاجم الدولي، بقصد تحيّته، لا تعييره.
وقبل نحو عامين فقط، لم يدر بخُلْد فولكروج، عندما كان يلعب في دوري القسم الثاني الألماني، سماع ذلك الهتاف من جماهير بلاده على مختلف ميولها، خلال بطولة دولية بحجم الـ «يورو»، وهو يرتدي قميص «المانشافت» ثقيل الوزن، وليس زيّ فريق فيردر بريمن الذي قاده، صيف 2022، إلى العودة لأحضان البوندسليجا من جديد.
في تلك الأثناء، كانت كشّافات الشهرة تجافي المهاجم، مثل جده «جيري»، لاعب أرمينيا هانوفر السابق، ووالده «أندرياس»، المدرب المجتهد، اللذين ضنّت عليهما كرة القدم بصيتها، وقضيا فصول مسيرتيهما خلف أستار النجومية.
ومن هذا الجِدّ ورث فولكروج موهبة أصقلها والده بتدريبات في نادي ريكلينجن، الذي ينتمي إلى مدينة هانوفر، معقل العائلة، وغذّى فيه الاثنان خصلة الالتزام، المعروفة عن لاعبين كثر من بني جلدته.
ولذلك لا يفرق اللاعب بين التدريب والمباريات، ويخوضهما بالروح ذاتها. ذات مرّة، خلال إحدى الحصص التدريبية لشباب نادي بريمن، نشب سنّ لأحد زملائه في رأسه بسبب التنافس بينهما على كرة عالية، ونُقِل إلى المستشفى حيث عكف الأطباء على تنظيف الجرح لوقايته من الإصابة بعدوى بكتيرية. وتحكي هذه الواقعة الكثير عن عقلية اللاعب.
في نادي ريكلينجن، عمل أندرياس على استثارة حماسة نجله ورفاقه، عبر تشغيل أغنية «آي أوف ذا تايجر»، التي أطلقتها فرقة الروك الأمريكية «سورفايفر» عام 1982م، وبمرور الوقت أصبحت إكسير الطاقة بالنسبة للمهاجم.
يقول عنها فولكروج: «إنها أكثر أغنية تحفيزية سمعتها على الإطلاق، وعندما كنّا نستمع إليها في غرفة تبديل الملابس، كانت تدفعنا بقوة».
كان اللاعب في الـ 13 من عمره وقتما ترك ريكلينجن وانتقل إلى بريمن، وهناك قضى نحو عقد كامل تخللته إعارة لجرويتر فورت شدّ بعدها الرحال إلى هانوفر، نادي مدينته.
واكتفى بـ 3 مواسم في هانوفر، وعاد مجددًا إلى ناديه الأول صيف 2019، وهذه المرة شابًا ناضجًا عمره 26 عامًا ينتظر وصول مولودته الأولى كي ينضم إلى جيل الآباء.
وعندما وُلِدت الطفلة، زوّدته بمصدر طاقة آخر غير أغنية سورفايفر، حفزه على الاجتهاد أكثر حتى يدفع مسيرته ويصل إلى آفاق عجز عن بلوغها كل من أبيه وجده.
تشقّ الطفلة صمت الليل ببكائها، أنين عالي النغمات، ليست مزعجة على صخبها، وإنما ملهمة كما وصفها خلال تصريح قال فيه: «تلهمني صغيرتنا.. أحصل منها على الكثير من الطاقة التي أقاتل بها في الملاعب».
في نهاية موسمه الأول بعد العودة إلى بريمن، بلغت حصيلة اللاعب 4 أهداف فقط، وحدّق شبح الهبوط بالفريق ونجا منه عبر ملحق، لكن في الصيف التالي انهارت مقاومته وسقط إلى غيابات القسم الثاني، وكان ذلك نقطة تحول بالنسبة لمسيرته.
استنفر فولكروج عقب الهبوط، وسجَّل 19 هدفًا، في حصيلة لم يسبق له الوصول إليها سوى موسم 2009ـ2010 فقط، وتُوِّجت جهوده بعودة الفريق مجددًا إلى دوري البوندسليجا.
وفي دوري الكبار، تواصل تجلِّيه، مسجّلًا 10 أهداف في أول 14 جولة، ما لفت إليه أنظار هانزي فليك، مدرب المنتخب الألماني، الذي كان يتأهب لتشكيل قائمة يخوض بها منافسات كأس العالم 2022.
آنذاك كان المهاجم يبلغ من العمر 29 عامًا، وبلا أي رصيد دولي، مع ذلك ضمه فليك إلى القائمة، بعدما اختبره في مباراة تجريبية أمام عمان قبل المونديال، سجّل فيها اللاعب هدف الفوز 1ـ0.
وكان المهاجم على قدر المخاطرة، وأحرز هدفين من أصل 6 لمنتخب بلاده في المحفل العالمي، ومثّل ما قدّمه نقطة إيجابية وسط ظلال كارثة الوداع من الدور الأول التي مهّدت للإطاحة لاحقًا بفليك وطاقمه الفني.
وبعد المونديال قطع خطوة أخرى للأمام بالانضمام إلى بوروسيا دورتموند، ووصل برفقته إلى نهائي دوري أبطال أوروبا، الذي خسره الفريق مطلع الشهر الجاري أمام ريال مدريد الإسباني، واستمرّت استدعاءاته الدولية وصولًا إلى اليورو، مجسِّدًا الحكمة القائلة «أن تصل متأخرًا خير من ألا تصل أبدًا».