موسى الزعيم
تخوضُ رواية دويش في عوالمَ سحريّة خياليّة من خلال مقاربتها للسرديّات الشعبيّة واستلهامها متن الحكاية المُستلّة من ألسنة العامة، في البداية تبدو هذه الحكايات وكأنّها عاديّة، لكن الذائقة الجمعيّة، سعت إلى تضخيم هذه السرديات، إذ راحت تضيفُ إليها الكثير من قصص الخوارقِ وتُلبسها لبوس البطولة أو كرامات الأولياء، كي لا يشكّ القارئ أو السامع في مِصداقية تلك القصص، لأن أبطالها شخصيات اعتبارية، لها حصانتها في الذهنيّة العامة.
من جهة أخرى لعل اللجوء إلى المرويّات الشعبية وتضمينها في الرواية ربما بدافع الهرب من قسوة الموضوعات الطاغية والتي صارت الحرب وتبعاتها تشكّل المادة الرئيسة لها في هذه المرحلة!
و هنا يأتي أهميّة المُتخيل الحكائي إذا ما تمّ توظيفه بشكلٍ فنّي جيّد في متون السرد، إذ تتحققُ فيه العناصر الفنيّة والجمالية معاً، مما يُعين الراوي على إنتاج موضوعات مختلفة، تغذّي نهر السرد وتضيفُ إليه أبعاداً جديدة، أو بمعنى آخر؛ هو تأريخٌ فنّيّ للمجتمع بيد الروائي، لا بيد المؤرّخ، وهذا يحقق المُتعة الفنيّة والمعرفيّة من العمل الروائي.
وباعتبار الحكاية الشعبية هي الفنّ المروي الذي يتضمن الكثير من فنون القول، إذ تتضافر فيه عناصر القصّ والمسرح والأسطورة والشعر وغير ذلك، لكنّ هذه المرويات ليست لاستهلاك الوقت والتسلية بقدر ما تحمل خلاصة تجارب حياتيه إنسانية تعكسُ صورة المجتمع وتعزز منظومة قيمهِ.
وإذا تم توظيف ذلك بالشكل الأمثل، فأنه سيضيف أبعاداً جماليّة أخرى لبنية الرواية ويمنحها عمقاً، طبعا إذا ابتعدَ الساردُ عن سطحيّة النقل واستطاع بحرفيته توظيف هذه المرويات بالشكل الفني الأمثل فستكون الرواية هنا أمينة لذات المجتمع و هويته.
من جهة أخرى يتقاطع الواقعيّ مع المتخيّل في الرواية وتتناسل المرويات وفق آفاق وأشكال مختلفة هذه المرويات شكلت أرضيّة خصبة للعالم والإبداعي العربي، مثل حكايا عنترة، صقر قريش، زرقاء اليمامة، ألف ليلية وليلة وغيرها الكثير..
في الغالب تكتسب الحكاية مشروعيتها الفنيّة، من خلال دمجها وإدراجها في المتن الروائي بعد الاشتغال عليها فنياً.
وفي الغالب فإن للشخصية في المرويات الشعبية بعداً فنيّاً واحداً أحياناً يغدو وعظياً أو مدرسيّاً لكنّها حين تمتزج في النسيج الروائي وتتماهى الحدود بين الواقعي والمتخيل ستغدو ذات أبعاد نفسيّة أو سيكولوجية ومرجعيات رمزيّة من خلال من ما يضيفه الروائي إليها بحرفته وربما تكسب طابعاً فانتازيا وهذا ما تحقق في رواية درويش.
في متن الرواية
تغوص الرواية في المرويات الشعبية لمنطقة جغرافية يعرفُ السارد تفاصيلها تماماً وهي جنوب العراق، بالتحديد مدينة البصرة على حدود ايران، من خلال تفاعل الشخصيات مع الأمكنة بما فيها من غنى ثقافيّ وتنوّع ديني واجتماعي، عبر فترة زمنية طويلة، ومن خلال الشخصية الرئيسة “درويش ” التي تحضر على متن السرد دائماً، وعبر خط سير زماني، يتصاعد مع تأزم الأحداث التي تجري في اتجاهات متعددة، مع الحفاظ على الخيط الواصل بشخصية البطل على الصعيد الذاتي والعام.
في الرواية تبدو الجغرافيا حاضرة وبقوّة من خلال الكمّ الكبير من أسماء المدن والحواضر التي رصدتها الرواية ” البصرة النجف، عبادان، الأهواز، هي سجلّ توثيقي حافل بأسماء الأمكنة والجسور والنوادي الرياضية والمطاعم والخمارات والأسوق والأحياء ذات الخصوصية الاجتماعية، وغير ذلك الكثير. تنحاز الرواية لأن تكون توثيقاً للجغرافيا البشرية وخاصة تلك العلاقة بين عرب الأهواز و العراق، هذا التواشج الإنساني الجميل و الانتقال السلس بين ضفتي البلاد.
يسعى الراوي دائما في سرديته إلى توثيق انتماء الأسماء والألقاب والشخصيات الاعتبارية أو السياسية التي مرّت في فضاء ذاكرته و ذاكرة والده الذي يهديه الرواية ” إلى الحكواتي البارع والدي حسن الخطيب ” الذي لولاهُ ما وصلتنا كلّ هذه الحكايات الجميلة”
هنا يفصح السارد عن مصدر سردياته، وبالتالي يصير هو الراوي العليم بكلّ التفاصيل يدير دفّة الأحداث وهو شاهد عليها من خلال انتمائه الحقيقي للبيئة باعتباره ابنها الذي ينقل عنها بأمانة.
توزّعت الرواية على 26 مقطعاً، يفتتح الكاتب روايته في مشهد النهاية، حيث صراع درويش مع مَلك الموت، بعد أن خاتله لأكثر من مئة عام أو حتى بدأت تنبتُ له أسنان جديدة، بعد المئة! سيفه المغروس في الجدار دليلٌ على شدّة صراعه مع عزرائيل، لا بل محاولةٌ أكيدةٌ للتغلب عليه.
تسير أحداث الرواية وفق تسلسل زمن حكاية درويش، بالتوازي مع الواقع السياسي والتغير الديمغرافي والاجتماعي للمنطقة أثناء الحكم العثماني وطلائع الاحتلال البريطاني وهجرة اليهود والهنود من البصرة وغير ذلك من الأحداث، حتى تُغلق الدائرة بوفاة درويش.
تؤرخ الرواية للفترة منذ بداية نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، فالأحداث التي مرت في حياة درويش هي ذاتها فاعلية المجتمع، لتغدوا الرواية صورة مصغّرة عن الحياة السياسية والاجتماعية في تلك البقعة الجغرافية عن طريق المزج بين السيرة الذاتية وسيرة المجتمع العراقي في تلك الفترة.
في رواية درويش يستند الكاتب إلى الكثير من حكايا الخوارق والمرويات الشعبية، أحيانا تتقاطع مع سرديات دينية أو عقائديّة مثل ” ليلة الضفادع وتحدّي الرّب، وقد جاء التحدّي هنا من أنّ والد درويش بعد أن فُجِع بكثير من مواليده، يُخرجُ طفله الوليد “درويش” في ليلة ماطرة ويرفعه إلى السماء مخاطباً الرّب ” إذا كنت تريده خذهُ الآن لا تفجعني به بعد حين “
وكذلك حواريته مع حمار صالح زبّال الحيّ و محاولة استدعاء السرديّة التاريخية ” حمار بلعام” الناطق الذي يفهم وينطق بالحِكم.
وفي الغالب فإن درويش هو بطل تلك الحكايات مذ كان طفلاً ثم يافعاً فهو دائماً يحطّم المقولات المتكلّسة في الذهنيّة العامة ليتحوّل” إلى شمشون الجبّار ” يصرع أبطال المُدن الأخرى في لعبة المُصارعة التي تُقام لها نوادي رياضية ومباريات مثلما صرع زارا الإيراني في “الزورخانة”
كذلك الكثير من الحكايا والقصص السحريّة الجميلة والتي لها معزاها، إذ أن الذاكرة الجمعية لم تحفظ تلك الحكايا لترويها فقط وإنما لاستخلاص العبر منها وصناعة البطولة بجميع أشكالها وهي توّاقة إلى ذلك، ولعل من أجمل تلك الحكايات حكاية نعيمة “بياعة الغيم”
و حكاية الجنّ الذي يسكن في المسجد حيث تنسجُ حوله الأساطير وتقيمُ التحديات لمن يستطيع الدخول إليه في الليل، ببساطة يقبل درويش التحدّي وينام ليلة في المسجد، محققاً اختراقاً جديداً وبطولة تُضاف إلى سجله.
وكذلك فعل حين كشف سرّ “عبد المُسنسل” الذي كان يرهب الناس ويسلبهم ما لديهم، تجلّت شهامة درويش بإطلاق سراحه بعد أن عرف أنّ “عبد المسنسل” تأتي قوّته من الأساطير التي نُسجت حوله وبالتالي صنعت العامة من الحكي ما يُرهبها، أكثر مما يخيفها جسدُ عبدٍ بسيط عرفَ كيف يستثمرُ خوف الناس لتأمين لقمة عيشه.
أمّا حكاية درويش مع البطولة الحقيقية، فقد بدأت في “دكّة الميل” حين استولى على أموال القافلة النهريّة البريطانية بعد أن قفز إلى المركب في الليل وقتل من فيه من الإنكليز وأخذ صندوق الأموال ثم هرب إلى الأهواز، وبدل أن يُعاني في السجن، يصبح سميرَ سجّانه، كذلك هي حال أبطال الحكايات إذا توقفوا عن صنع البطولات، تصنعها لهم مخيّلة العامة!!
ففي كلّ معركة أو عقدة كان يُفتح لدرويش باب من أبواب البطولة، لعل العامة تجتهد في صنع تلك الشخصيات، فتنسب إليها حكايات الخوارق إمعاناً في أن يكسبَ راوي تلك الحكاية ختمَ تصديق السامعين إذا نسبها إلى شخصية مَحبوبةٍ مثل درويش الذي يوزّع الخبز في سنوات القحط ويحمي الأقليّات ويُنصف النساء والعجائز المظلومات ويخاف على الأطفال من النهر ويحمي شجر النخيل ويقاوم الذين يعتدون على حقوق الآخرين ” الفرهود” ويتحول مكتبه إلى مكان لاجتماع المثقفين والشعراء لتبادل الاخبار والمطارحات الشعرية، خاصّة وأنّه من أوائل الكَتبة في المنطقة ولديه مكتبه الخاص الذي يعمل فيه.
كذلك تؤرخ الرواية لعدد من الأحداث السياسية والقضايا الاجتماعية مثل أحداث 7 أيار 1941 وانتفاضة 1931 وغيرها التي مرت في تلك الحقبة.
من جهة ثانية كانت المرأة حاضرة وبقوّة على متن الرواية من خلال عددٍ من الشخصيات الفاعلة فيها.
في تنوّع أشكال السرد
في رواية درويش تتعددُ أشكال السرد من خلال مزج عددٍ من التقنيات السرديّة المختلفة التي تشكل في النهاية ” خلطة” لها خصوصيتها، فقد استخدم الكاتب المسرحية في إطار العمل الروائي من خلال ثلاثة فصول مسرحية موزّعة على مساحة الرواية.
وهي مسرحية جبرائيل من (ص 15 حتى ص 27 ) والتي تدور حول “ماهيّة الاسم” وتجري أحداث هذا الفصل في الخمّارة بعد ولادة درويش وفرح والده به.
حمار صالح أيضا نصّ مسرحي ساخر من (ص 32 حتى ص 44) وفيه يستند الراوي إلى حكاية النبي بلعام مع حماره الناطق كما وردت في العهد القديم، تدور أحداث المسرحية أمام أحد أبواب مدينة البصرة ويدور الحوار بين الزبّال وحماره.
الديرية والزهدية من (ص 230 حتى ص 243 ) وفي هذا الفصل حوار بين نخلتين، يؤنسن الراوي النخلتين، لتحكي كلّ واحدة عن همومها ومشاكلها ومشاعرها وتميّزها عن رفيقتها، وهنا أيضا يبرز، بالتأكيد هذا يعكس خبرة الخطيب في كتابة النص المسرحي إذا أن في جعبته عدداً لا بأس به من النصوص المسرحية المطبوعة.
لم تكن تلك الفصول المسرحية فائضاً أو اختراقا لمعمار الرواية، بقدر ما كانت تطعيماً للسرد بنكهةٍ مختلفةٍ، مما يطرح التساؤل هنا عن مدى تداخل الأجناس الأدبية و استفادة الرواية من المسرح؟!
على كلّ حال من يقرأ فصولَ المسرحيات ضمن الرواية يرى فيها اشتغال السارد على ذلك وبالتالي كأن صوته الداخلي يقول إنّ هذه المرويات الحكائية تصلح لأن تكون مسرحاً أيضاً، لما تحمله بين طياتها من مشهديّة وحوار وصراع وغير ذلك.
من جهة أخرى إذا افترضنا أنّ كلّ فصل من فصول الرواية هو فصل سرديّ مستقل، فهو بحكايته يشكّل قصّة قصيرة متكاملة العناصر و بالتالي نحن أمام مزيج سردي بين القصة والمسرحية والحكاية جمعه ماجد الخطيب في نص سردي واحدٍ سمّاه بكلمة صغيرة في أعلى غلاف الكتاب ” رواية”
درويش توثيق أنثروبولوجي
تعد رواية درويش سجلاً توثيقياً حافلاً بأسماء الأمكنة وخاصة الجسور وطريقة بناء البيوت على النهر مداخلها ومخارجها وطبيعة السكن فيها خلال المدّ والجذر وعمليات البيع والشراء والحديث عن النسيج الاجتماعي للبصرة وسكانها من عرب وهنود ويهود وغيرهم وطريقة ممارستهم لحياتهم وطقوس عبادتهم وتكاتفهم الاجتماعي في وجه الدخلاء بالإضافة إلى الكثير من القضايا المتعلقة بالأطفال وألعابهم وغير ذلك من الأعراف والتقاليد بحيث تغدو الرواية أو كتاب درويش شاهداً هاماً على مرحلة زمنية لها خصوصيتها وأهميتها في تاريخ العراق، هو رصد للمجتمع العراقي مع حفاظه على سمته الروحيّة وصبغته الدينية، درويش ذاكرة حيّة لمجتمع غني بتفصلاته الجميلة وبتعدديته، وليغدو البطل في النهاية واحدٌ في مُتعدد، يمكن أن تتكرر أو يمكن أن تصنع سرديات العامة الكثير منها.
في المحصلة تعدّ رواية درويش عملاً فنّيا إبداعيّا يختزن الكثير من التفصيلات الغرائبية المُدهشة
جاء قسم منها باللغة المحكيّة العراقية، كان ذلك توثيقاً من نوع آخر لما تنطق به، العامة ليضيف جمالية أخرى لكتاب درويش.
جاءت الرواية في 260 صفحة من القطع المتوسط صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت.
*ماجد الخطيب كاتب عراقي مقيم في المانيا.
.
أخبار متنوعةحوار مع الدكتور والباحث رشيد بوطيببيت خالتيمسرح القهر والمُداواة والتمرّدرواية الكعب الأبهرالمؤتلف والمختلف من قصيدة الشعر إلى قصيدة النثرحينَ تُكْسَرُ مِحْبَرة الشعراء في سمكريّ الهواء تقاسيم على وطن منفرد