“مش هخلي الدبان الأزرق يعرف طريقك” مثل شعبي له أساس علمي.
بعض أنواع الجروح قد تجعل الجثة أقل جاذبية لبعض أنواع الحشرات. الذباب والخنافس من أشهر الحشرات ذات الأهمية الجنائية.في دياجير عالم الجريمة، حيث تتعاقب الألغاز وتتلاشى الحقيقة في سُحب الشك والريب، تتجلى الأدلة من خلال كائنات صغيرة تحوم في الخفاء، لتصبح شهودًا على أحداث لم ترها العيون، وتحمل أجنحتها الرقيقة رسائل خفية تُحل بها أقوى الألغاز الجنائية، وتقرأ مسرح الجريمة بدقة مدهشة، هنا يبرز دور علم الحشرات الجنائي، ليستنطق الصمت ويكشف الأسرار الدفينة.كيف يمكن لهذه المخلوقات الصغيرة أن تلعب دورًا محوريًا في حل ألغاز قد تبدو مستعصية؟للإجابة عن هذا السؤال تأخذكم بوابة “روزاليوسف” في رحلة استكشافية إلى هذا المجال الرائد، لنحاور الدكتور عبد الوهاب خليل، المدرس بكلية العلوم جامعة بني سويف، وعضو اللجنة الوطنية للسموم بأكاديمية البحث العلمي، استشاري صناعة الأمصال و أبحاث السموم، والمتخصص في استخدام المفصليات في الطب الجنائي ومسرح الجريمة.ليفتح لنا أبواب هذا العلم الفريد، ويضيء زواياه الغامضة، سنغوص معًا في تفاصيل مثيرة حول كيفية استخدام الحشرات كأدلة في مسرح الجريمة.حدثني في البداية عن ماهية علم الحشرات الجنائيعلم الحشرات الجنائي (Forensic Entomology) هو العلم الذي يدرس استخدام الحشرات ومراحل نموها لتحديد المعلومات المهمة في التحقيقات الجنائية. وهذا الفرع من فروع علم الحشرات هو علم من الأدوات الأساسية في علوم الطب الشرعي، حيث يمكن للحشرات أن تقدم أدلة دقيقة حول توقيت الوفاة، ظروفها، ومكانها، كما تسهم في حل العديد من الجرائم.يعتمد هذا العلم بشكل أساسي على دراسة الحشرات التي تنجذب للجثث، سواء أثناء تحللها أو بعدها، وتحديد المراحل التي تمر بها الحشرات أثناء دورة حياتها على الجسم. توجد الحشرات عادة على الجثث بعد فترة قصيرة من الوفاة، ويُعتبر وجودها وتطورها مؤشرًا هامًا لتحديد توقيت الوفاة (Post-Mortem Interval – PMI).فيما يستخدم علم الحشرات الجنائي وما هي أوجه الاستفادة منه؟هناك عدة أوجه لاستخدام علم الحشرات الجنائي وهي:1- تحديد توقيت الوفاة (PMI): تعتمد هذه العملية على دراسة الأنواع الحشرية التي توجد على الجثة ومراحل تطورها. يتم قياس وقت الظهور والنمو وفقًا لدرجات الحرارة والظروف البيئية.2- تحديد مكان الوفاة: بعض أنواع الحشرات تكون محلية، مما قد يساعد المحققين على تحديد مكان الوفاة أو نقل الجثة.3- تحديد ظروف الوفاة: بعض أنواع الحشرات لا توجد إلا في ظروف معينة مثل المناطق الرطبة أو الجافة أو في الأماكن المغلقة أو المفتوحة، مما قد يساعد في تحديد ظروف الوفاة.4- الكشف عن السموم: يمكن أن تحتوي الحشرات المتغذية على الأنسجة البشرية على سموم أو عقاقير، مما يساعد في التحقيقات حول التسمم.5- الكشف عن إساءة معاملة الجثث: يمكن من خلال دراسة توزيع الحشرات وسلوكها على الجسم اكتشاف ما إذا تم تحريك الجثة بعد الوفاة أو إذا تعرضت للإساءة.ما هي أشهر الحشرات ذات الأهمية الجنائية وكيف تساعد في تقدير وقت الوفاة؟ من أشهر هذه الحشرات ذات الأهمية الجنائية : الذباب من رتبة ثنائية الأجنحة (Diptera): إذ يعتبر الذباب من أوائل الحشرات التي تصل إلى الجثة، خاصة الذباب الأزرق والأسود. تمر يرقات الذباب بمراحل نمو سريعة، يمكن استخدامها لحساب مدة الوفاة. الخنافس من رتبة غمدية الأجنحة (Coleoptera): حيث تظهر الخنافس لاحقًا بعد أن يبدأ التحلل، وهي تسهم في تفكيك الجثة بشكل أعمق. الفراشات والنمل: وهذه الحشرات قد تُستخدم في بعض الأحيان لكن بدرجة أقل مقارنة بالذباب والخنافس. هل هناك عوامل يمكنها أن تمنع أو تبطئ من استعمال الحشرات في التحقيق الجنائي؟ هناك العديد من العوامل التي قد تمنع أو تبطئ نمو الحشرات أو حتى تمنع وصولها إلى الجثث في التحقيقات الجنائية، حيث إن فهم هذه العوامل يساعد في تحسين دقة التحليل وتقدير التوقيت الصحيح للوفاة. بعض هذه العوامل تشمل:1- العوامل البيئية والمناخية درجات الحرارة: درجة الحرارة تؤثر بشكل كبير على نشاط الحشرات وسرعة تطورها.الرطوبة: الحشرات تحتاج إلى مستويات معينة من الرطوبة للنمو. الأمطار والرياح: قد تمنع الأمطار الغزيرة والرياح العاتية وصول الحشرات إلى الجثة. 2- الوصول المحدود للجثةالجثث المدفونة أو المخفية: قد تؤخر أو تمنع وصول الحشرات إليها. يزداد التأثير كلما كانت الجثة أكثر إحكامًا وإغلاقًا.البيئات المغلقة: إذا وُضعت الجثة في غرفة مغلقة أو سيارة لفترة طويلة، فإن الحشرات قد تجد صعوبة في الوصول إليها أو قد يتأخر وصولها. 3- العلاجات الكيميائية أو السميةالمواد الكيميائية أو السموم: قد تؤثر بعض المواد الكيميائية على الحشرات، مما يؤدي إلى إبطاء أو منع نموها. التسمم: إذا تعرضت الجثة لسموم معينة، فإن الحشرات التي تتغذى على الجثة قد تتأثر أيضًا، مما يؤثر على دورات حياتها وقدرتها على التطور بشكل طبيعي.4- التغيرات الجسدية للجثةالتحلل المتأخر: في بعض الحالات، قد يكون التحلل متأخرًا بسبب عوامل مثل التبريد أو التجفيف الطبيعي للجثة. هذا يؤخر انجذاب الحشرات للجثة وبدء دورة حياتها.تضرر الجسم أو الجروح: بعض أنواع الجروح قد تجعل الجثة أقل جاذبية لبعض أنواع الحشرات التي تفضل الدخول من أماكن معينة مثل الفتحات الطبيعية (العينين، الفم، الأذنين).5- الموقع الجغرافيالتنوع البيولوجي: بعض المناطق الجغرافية قد لا تحتوي على أنواع الحشرات التي تنجذب إلى الجثث بنفس السرعة أو الكثافة كما في أماكن أخرى.التغيرات الموسمية: بعض الحشرات تكون أكثر نشاطًا في فصول معينة مثل الصيف أو الربيع، بينما تكون أقل نشاطًا في الشتاء، مما قد يؤثر على توقيت الوفاة المقدر.6- التدخل البشريالتنظيف أو التغطية: إذا قام الجاني بتنظيف مسرح الجريمة أو تغطية الجثة بمواد معينة، قد يمنع هذا وصول الحشرات أو يقلل من نشاطها.النقل بعد الوفاة: إذا تم نقل الجثة بعد الوفاة إلى مكان آخر، قد يؤدي ذلك إلى تأخير وصول الحشرات أو إرباك عملية تحليل الحشرات، حيث إن أنواع الحشرات قد تختلف بين الموقعين.7- العوامل الحيوانية الأخرىالتغذية بواسطة الحيوانات: إذا تعرضت الجثة للتغذية من قبل الحيوانات مثل القوارض أو الطيور، فقد يؤثر ذلك على توفر الحشرات وموعد وصولها، خاصة إذا كان هناك تلف كبير في الأنسجة.8- المياهالغرق: إذا كانت الجثة غارقة في الماء، سواء في الأنهار أو البحيرات، فإن الحشرات الطائرة لن تتمكن من الوصول إليها حتى تظهر على السطح أو تُخرج من الماء. وحتى بعد إخراج الجثة، قد تتأخر بعض أنواع الحشرات في الوصول إليها بسبب تأثير الماء على التحلل.ما هي العوامل الأساسية التي يجب توثيقها دائمًا في مسرح الجريمة والخطوات الواجب اتباعها لغاية التوثيق الصحيح للأدلة الحشرية وجمعها؟ عند التعامل مع مسرح الجريمة؛ بما في ذلك توثيق الأدلة الحشرية، يجب اتباع إجراءات صارمة لضمان الحفاظ على الأدلة وسلامة التحقيق. بالنسبة للعناصر الأساسية التي يجب توثيقها في مسرح الجريمة:1. موقع الجريمة: يجب توثيق الموقع الجغرافي بشكل دقيق باستخدام الخرائط أو الصور لتحديد المكان، سواء كان في الداخل أو الخارج، والمكان المحدد للجثة أو الأدلة الأخرى.2. الأحوال الجوية: توثيق درجات الحرارة، نسبة الرطوبة، الرياح، والظروف الجوية العامة عند العثور على الجثة. هذه العوامل تؤثر بشكل مباشر على تطور الحشرات.3. وصف الحالة العامة للجثة: تسجيل موقع الجثة بالنسبة لمسرح الجريمة، وضعية الجثة، وجود أو عدم وجود إصابات، حالة التحلل، وأي عوامل تشير إلى العوامل البيئية التي قد تؤثر على نشاط الحشرات.4. نوعية الأدلة الحشرية: توثيق أنواع الحشرات الموجودة على الجثة أو بالقرب منها، بما في ذلك وجود البيض، اليرقات، الخادرات أو الحشرات البالغة.5. الحالة الزمنية: توثيق التوقيت الذي تم العثور فيه على الجثة، مع الإشارة إلى الوقت الذي يُعتقد أن الوفاة قد وقعت فيه. هذا يسهم في تحديد إطار زمني لتطور الحشرات.6. الحواجز أو العوائق: تسجيل أي مواد أو عوائق قد تمنع وصول الحشرات إلى الجثة، مثل الأغطية، الأكياس، الأقمشة، أو وجود الجثة في بيئة مغلقة.7. العوامل البيئية المحيطة: تسجيل أي مصدر للرائحة أو المواد العضوية الأخرى التي قد تؤثر على وجود الحشرات، مثل الأطعمة أو الحيوانات الميتة في المكان. أما الخطوات الواجب اتباعها لتوثيق الأدلة الحشرية:1. الحفاظ على مسرح الجريمة:يجب عدم تحريك الجثة أو أي دليل حشري حتى يتم توثيق الوضع الأصلي لها ويجب التعامل مع الأدلة بحذر لتجنب تدمير أو إتلاف الحشرات أو البيض.2. جمع العينات بشكل صحيح: يتم جمع العينات الحشرية المختلفة (بيض، يرقات، خادرات، وحشرات بالغة) باستخدام أدوات نظيفة مثل الملاقط أو الأنابيب وتوضع في حاويات منفصلة وموسومة مع تحديد مكان وتوقيت جمعها.3. قياس درجات الحرارة: يجب قياس درجات الحرارة في مناطق مختلفة من مسرح الجريمة؛ بما في ذلك تحت الجثة، في التربة أو السطح المحيط، ودرجة حرارة الهواء المحيط.4. تصوير الأدلة الحشرية: يجب تصوير الحشرات في موقعها الطبيعي على الجثة قبل جمعها. تُعتبر الصور أداة توثيق مهمة تُظهر تفاصيل دقيقة حول مراحل نمو الحشرات ومكانها. يمكن استخدام عدسة ماكرو لتصوير التفاصيل الدقيقة مثل البيض أو اليرقات.5. وضع العلامات الزمنية: يتم توثيق التوقيت بدقة عند جمع كل عينة من الحشرات، بالإضافة إلى أي ملاحظات حول الحالة البيئية أو المناخية في ذلك الوقت. في حالة وجود الحشرات في مراحل متعددة من النمو (بيض، يرقات، خادرات)، يتم توثيق مراحل النمو المختلفة بدقة.6. حفظ العينات بطريقة صحيحة: بعض العينات (مثل اليرقات) يتم حفظها في كحول الإيثانول بنسبة 70% للحفاظ على أنسجتها. يمكن الاحتفاظ بعينات أخرى حية (مثل اليرقات المتقدمة أو الخادرات) في حاويات خاصة للتربية، لتتطور إلى حشرات بالغة، مما يساعد في التعرف على الأنواع.7. توثيق الأنواع الحشرية: يتم تحديد الأنواع الحشرية التي تم العثور عليها في المختبر باستخدام مفاتيح تحديد الحشرات أو أساليب الحمض النووي. تحديد النوع الحشري يمكن أن يساعد في تقدير توقيت الوفاة.8. تحليل العينات في المختبر: تُرسل العينات إلى مختبرات متخصصة لدراستها بشكل أكثر تفصيلًا، حيث يتم تحليل مراحل نمو الحشرات في سياق الظروف البيئية المُسجلة في مسرح الجريمة.9. إعداد التقارير: يتم إعداد تقرير تفصيلي يشمل وصفًا لمسرح الجريمة، الظروف البيئية، العينات الحشرية التي تم جمعها، وتحليل البيانات الحشرية. يُعد هذا التقرير أداةً مهمة في المحاكم لتقديم الأدلة.في أمثالنا الشعبية هناك مثل قائل “مش هخلى الدبان الأزرق يعرف طريقك” فهل هذا المثل مبني بالفعل على أدلة جنائية؟ وما هو سر ارتباط الذباب الأزرق بالجثث؟نعم، المثل القائل “مش هخلي الدبان الأزرق يعرف طريقك” له ارتباط مجازي بما يحدث في الواقع عند إخفاء الجثث، ويعكس فهمًا شعبيًا لإحدى الظواهر الطبيعية المرتبطة بالحشرات والجثث. الذباب الأزرق، والذي ينتمي لعائلة تسمي Calliphoridae، هو أحد أنواع الذباب الأولية التي تنجذب إلى الجثث بعد وقت قصير من الوفاة، وتحديدًا في مراحل التحلل المبكرة. لذلك يُستخدم الذباب الأزرق في علم الحشرات الجنائي لتقدير توقيت الوفاة والمساعدة في التحقيقات الجنائية.والمثل له أساس جنائي يتمثل في أن الذباب الأزرق يوجد بشكل ملحوظ حول الجثث لأنه يتغذى على الأنسجة المتحللة ويضع بيضه على الجثث. اليرقات التي تخرج من البيض تمر بمراحل تطور يمكن للمحققين استخدامها لتحديد متى مات الشخص. وجود الذباب الأزرق يشير بشكل واضح إلى بداية التحلل، ولذلك فإن إخفاء الجثة بطريقة تجعل الذباب لا يستطيع الوصول إليها يعني أنه سيكون من الصعب على المحققين العثور على الأدلة الحشرية.و جانب مجازي: في الثقافة الشعبية، حيث يُستخدم المثل للإشارة إلى نية إخفاء شخص أو شيء بشكل لا يُمكن لأحد اكتشافه، حتى “الذباب الأزرق” الذي يتميز بقدرته على اكتشاف الجثث. الفكرة هنا هي إخفاء الأمر بطريقة متقنة تجعل حتى الذباب، الذي يُعتبر رمزيًا لقدرة الطبيعة على الكشف عن الأشياء المخفية، غير قادر على الوصول. ماهو مدى نطاق استخدام علم الحشرات الجنائي في مصر و الوطن العربي؟ في مصر يعتبر علم الحشرات الجنائي من العلوم الحديثة نسبيًا، فهو لم يصل بعد إلى مرحلة واسعة من الاستخدام كما هو الحال في بعض الدول المتقدمة. ومع ذلك، هناك اهتمام متزايد به في الجامعات ومراكز البحث المصرية..أما في الوطن العربي لا يزال في طور التطور، ويواجه عدة تحديات تتعلق بالوعي والتدريب ونقص الموارد. على الرغم من ذلك، هناك فرص كبيرة لتوسيع استخدامه مع زيادة الاهتمام الأكاديمي والدعم الحكومي لتطوير العلوم الجنائية بشكل عام. ومع التدريب المتخصص وتطوير الموارد، يمكن أن يصبح هذا العلم جزءًا أكثر شيوعًا وفاعلية في التحقيقات الجنائية في المنطقة.