رائحة الموت والبارود تُطارد الناس.
غزة كانت وستبقى..أشد ما يؤلمني عذابات حُّريتي المنقوصة.أكثر من أربعمائة لوحة من أعمالي تحت الركام.لم ولن نعتاد المشهد. تحت سماءٍ قاتمة، يملؤها أزيز الطائرات ودوي القنابل، تتوارى ملامح الحياة خلف دخان الدمار، ويظل الأمل معلقًا على خيطٍ رفيع ينظره من بعيد طائر سأم الترحال..محمد جحا فنان فلسطيني يحمل في المهجرهموم وطنه الجريح، ويطلق العنان لفرشاته كأنها سلاحه الأخير في معركةٍ لا تنتهي، ينسج فنه من رحم المعاناة. تتدفق أنامله على لوحاته لتروي للعالم قصصًا لا تسعها الكلمات، خطوطه وألوانه هي صرخات مدوية في وجه آلة الحرب التي تحاول خائبة طمس الهوية وسحق الروح. ولد جحا في غزة عام ١٩٧٨، لكنه يقيم ويعمل حاليا بين باريس ومدينة مارسيليا الفرنسية، وهو حاصل على درجة البكالوريوس من قسم التربية الفنية بجامعة الأقصى في غزّة عام ٢٠٠٣، فاز في عام ٢٠٠٤ بجائزة الفنان الشاب: جائزة “حسن الحوراني” بترشيح من مؤسسة عبدالمحسن القطّان، وحصل على لقب فنان العام ٢٠٠٤ حيث مُنح على إثرها إقامات فنية لأعوام ٢٠٠٥- ٢٠٠٧- ١٨/٢٠١٧، في المدينة الدولية للفنون في باريس والتي ألهمته لتطوير تجربته الفنية، بالإضافة إلى مُشاركته بالعديد من المعارض الفردية والجماعية في أوروبا والمنطقة العربية.لسنوات عمل الفنان الغزاوي في مجال الرسم وكون تجربة فنية متميزة بأسلوبه الذي يقدم مزجا مدهشا من العناصر والتكوينات في أعماله الفنية، لتقديم رسائل ملموسة من خلال تنوع التقنيات كالرسم والكولاج والتركيب ووسائط أخرى إلى جانب الأسلوب الأكثر عفوية وقدرة تعبيرية، فكان لبوابة روزاليوسف معه هذا الحوار الذي أرقته الشجون عن فنه المدافع عن عدالة القضية الفلسطينية وأحبائه الذين فرطت عقدهم آلة الحرب الصهيونية.. بداية كيف عايشت أحداث العدوان الإسرائيلي على غزة عقب السابع من أكتوبر ٢٠٢٣؟أستطيع القول بأنني عايشت حرب الإبادة على قطاع غزة ولكن عن بُعد، وبكثير من القلق والفزع والخوف على عائلتي التي تركتها آمنة وسافرت، والأن وهُم يُعانون الأمريّن، مرارة النزوح والتشريد ومرارة الخذلان والتعايش مع الواقع بشكله الحالي والمُظلم والمفروض علي قطاع غزة من قبلِ الاحتلال الإسرائيلي، وبمزيد من العذاب والرعب والقتل ورائحة الموت والبارود التي تُطارد الناس على مدار عامٍ كامل، وعلى الدوآم وأينما ذهبوا، وفي كل شبر من قطاع غزة المكلوم.كانت هُناك حياة في قطاع غزة، عامرة بالحب وبالتفاصيل وبالتناقضات كسائر البلاد، غزة كانت متطورة، وراقية، وقديمة ومتجددة وتضاهي أكثر المُدن حداثة وتطور عمراني وتكنولوجي وتعليمي، كان هناك جامعات وطالب مدارس ومقاهي ومرافق خاصة وعامة وحدائق وأشجار وورود وألوان وشوارع ومؤسسات وقصور وبيوت وسيارات وجيران وأفراح وأحزان ولحظات حلوة وأخرى سيئة وثراء وفقر…، غزة كانت وستبقى غزة. بحكم تواجدك في مرسيليا صف لي ما لا مسته من ردود الأفعال تجاهك بوصفك فنان فلسطيني؟هُنا وفي أوروبا لمستُ هذا كمّ من الحُب والدعم والتضامن الشعبي غير المسبوق ،تضامن العالم معنا من مشارق الأرض ومغاربها وبكل اللغات، ورفعوا علمنا، وتزينوا بالكوفية الفلسطينية، وحملوا صور شُهدائنا وأشلاء أطفالنا، وهبّوا ضد الهجمة الصهيونية الأمريكية الشرسة التي يُمارسها علينا وعلى المنطقة هذا العدو الإحلالي التوسعي بألتهُ الحربية الفتاكة.. ماهي أهم الصعوبات والتحديات التي واجهتها بسبب سياسات الاحتلال الإسرائيلية وتأثيرها على فنك ورسالتك؟من أكثر اللحظات إيلاما وتلازمني على الدوام هو أنني وخلال إقامتي الطويلة والممتدة لأكثر من ثمانية عشر عاماً في أوروبا وعلى الرغم من طول هذه الفترة الزمنية إلا أنني لم أستطع العودة إلى البلاد وممارسة حياتي كأي إنسان له وطن ويعود إليه إلا عبر فرص قليلة جدا سنحت لي بالعودة المؤقتة وكل عشرة سنوات أو أكثر ولمرة واحدة وفترة وجيزة فقط، وهذا المنع له أسباب كثيرة تتعلق بالبعد الجغرافي واليأس من الواقع، طالما لا يوجد سبيل للعودة الطبيعية، وأيضا اليأس المُزمن الذي يلازمنا كفلسطينيين من قطاع غزة خاصة وأينما كُنا وهو الحصار والإغلاق المفروض على حركة السفر والتنقُل من وإلى قطاع غزة لأكثر من 18 عاماً. أنا كفنان بإمكاني الأن السفر والتجول في العالم وبلا منع أو صعوبات أو حواجز وذلك نظرا لأنني حاصل على جواز السفر الأوروبي، ولكن أشد ما يؤلمني هو عذابات حُّريتي المنقوصة والتي وعلى الرغم من حصولي على جواز سفر “الحُّرية” بمفهوم الإنسان الفلسطيني، إلا أن الوطن قصيّاً عصيّاً علي، وكما قال الشاعر الكبير محمود درويش ” شمألتُ شّرقتُ غرّبتُ، أمّا الجنوب فكان قصيّاً عليّ لأن الجنوب بلادي”.كل ذلك ترك أثرٍاً عميقاً في نفسي وبشكل شخصي زودني بالتحدي والإصرار على مواصلة حياتي كإنسان، والتمسك بكامل حقوقي، وعلى الصعيد الفني أثرى تجربتي بالبحث عن مفهوم الهوية والذات وطرح قضايا إنسانيةُ أخرى.ماهي أهم مشاريعك الفنية التي تدعم القضية الفلسطينية وتعبر عن معاناة الشعب الفلسطيني تحت وطأة الاحتلال ؟مشروع عملي الحالي: “بدون عنوان – Houseless – 2017-2024… “لا أستطيع وصف هذا المشهد المُرعب ومآلاته، رُبما هو كابوسٍ ثقيل وعابر وسينتهي لاحقا، وسيعود كل شيءٍكما كان عليه !! أم هي بانوراما شاسعة من الوحشية التي أتت على المدينة بأكملها !،”غزّة “حيثُ تتجسّد كُّل أشكال ومعاني وصور الخراب التي لم يعهدُها أحد. أعجزُ عن فعل أيّ شيء وعن التعبير عن مدى شعوري المُتجذر بالألم الذي ينهك الروح والجسد، كما تنتهك طائرات المحتل تلك التفاصيل الصغيرة والكبيرة في جسد هذا المكون المسمى العائلة والبيتُ والمكان والشارع والحيّ، وتمحو الأثر، وتسحق الوجوه والأسماء والألوان والأيدي الصغيرة. وأنا أتساءل كمّ مرّة يجب علينا إعادة بناء مدينة غزّة، وكيف سيكون شكل خريطتها الجديدة، كفرد ليس بمقدوري فعل أي شيء أو أن أضع حلول عملية أو مُخيلة بصرية شاملة وذلك لعدم قدرة فرد واحد أو أكثر على إحداث تغيير واضح وملموس في هذا السياق، كُّل هذا الدمار وصور الخراب مُتعددة الأنماط والأشكال والتي قضت بشكل منهجى وسريع على عوالم الحياة والحضارة والجغرافيا والديموجرافية، حيث إن هذا التبدل القسري السافر والمفروض علينا عنوة وذلك برسم صور وخرائط جديدة للشوارع والبيوت والمرافق العامة يسعى إلى إرهاق وإضعاف وتمزيق النسيج الاجتماعي والجغرافي للإنسان الفلسطيني داخل، وخارج أرضه، وجعلها غير قابلة للحياة وإعادة البناء والقضاء على الذاكرة البصرية لأجيال قادمة، وفرض واقع سياسي وديموجرافي جديد يطرأ على المشهد المُتغير والمُتبدل باستمرار، وفي كُّل مرة يُعاد تكرار هذا السيناريو المُحتمل، يتنامى معهُ الشعور المُتزايد بعدم الأمان والاستقرار، وضغط العبء الجاسم على كاهل المدينة الصغيرة المُقتظة بالكثير من التفاصيل والكُتل الأسمنتية والبشرية. ولكنني كفنان أستطيع في هذا السياق ومن خلال مادة الكولاج “القص واللصق” أن أصنع مُخيلة أو “محاكاة ” وذلك بتقديم مشهد مُبتكر ولكنه محصور داخل حدود وإطار اللوحة التي أسعى من خلالها إلى إنشاء بُنية تحتية مُستدامة للمدينة الرمادية المنكوبة، بأشكال وألوان وأدوات ووسائل بسيطة وهشّة المحتوى بالأقمشة والأوراق الملونة، وموادُ أخرى قادرة على صياغة الصورة بشكل مقبول وواقعي بصرياً وفنياً، وذلك نظراً لتشابه خامة العمل المطروح مع المواد الفعلية المستخدمة في بناء الخيام القماشية المؤقتة كمأوى للسُكان على امتداد المدينة. هشاشة الأدوات والمواد المُستخدمة تأتي للدلالة على التمني بعدم استقرار واستدامة الحالة الراهنة لهذا المشهد، وأيضا إضفاء رمزية خاصّة للتعبير عن بدائيّة وشكل البناء بما يتلائم مع الواقع الحالي لجغرافيا المدينة التي تبدل بنائها من العمارة الخرسانية المُعاصرة والمتجددة إلى هذا الشكل المؤلم والمُفتعل والطارئ”. من أعمالي أيضا مجموعة “هش- صلب”Solidicity – 2021-2022 – ،مجموعة لوحات “رسم” مُنفذة باستخدام ألوان الأكريليك على القماش، والذي من خلاله أقول لا نهاية لأسئلة الهوية حينما يتعلق الأمر بالمكان الذي لطالما كان ومازال لهُ قُدسية خاصّة مُرتبطة بمعناه، وقيمتهُ، وتفاصيلهُ التي تهيّمن علينا. المكان مُستدام بصلابته، أما الحربُ فهي هشّة بالرغم من كونها تترك ندبات فاغرة بالروح، والجسد والاماكن وتعبث بالجغرافيا وشكل الخريطة، ويبقى أثرها لأجيال قادمة، وبالسؤال عن الفرق الشاسع بين مفهوميّ الهشاشة والصلابة: “القوة vs الضعف، الاستدامة vs المؤقت”. نجد أن هٓذين النقيضين بالمعنى المجازي والمادي يملُكان تصوراً نقياً عن طبيعة وقساوة المشهد الذي يجعلُنا نشعُر بالنظر إليه بعدم الإرتياح، كما يُشعرنا بسطوة فكرة الاستحواذ بالقوة على الأشياء والممتلكات، وإنتهاك المساحات بهذا القُبخ وهذا النهم الذي يُعزز متلازمة الإختناق والضيق ويشعرنا بضراوة وثِقل ٓالة القتل والدمار حين تنقضُّ على البيوت وتقضم الأسطُح الهشّة وتفترسها كوحشٍ وجد فريسته. ما هي أكثر لوحاتك التي كان لها عظيم الأثر في نفسك أو يكمن وراءها قصة مؤثرة؟ هناك لوحة رسمتها عام 2006 هذه اللوحة من أغلى الأعمال على قلبي واللوحة بعنوان “التوأم” وأقصد بها بشكل شخصي:”أنا، وأختي التوأم الشهيدة: “انتصار جحا” التي استشهدت مع عائلتها منذ عام في 26 أكتوبر 2023، بداية حرب الإبادة على قطاع غزة وذلك إثر قصف صهيوني همجي إجرامي على بيت العائلة حيث سقط كوكبة من الشهداء منهم أختي إنتصار، وزوجها الشهيد رائد البنّا، وبناتها الأربعة: نور، آية، خديجة “بيسان”، وإيمان البنت الصغرى، بالإضافة إلى ولدين هم حسن، ومحمد عبدالله، وأيضا طفل رضيع يبلغ من العمر ستة أشهر كان اسمه جود النديم، كان الابن الأول للشهيدة آية، عائلة كاملة تم شطبها من السجّل المدني في ثوانٍ معدودة، حالهم كحال أكثر من ألف وخمسمائة عائلة تم قتلهم بنفس طريقة الإبادة الممنهجة، وغيرهم كثر من شهداء العائلة الصغيرة المُقربة. The Twine – التوأم هذه اللوحة “التوأم” إنتهى بها الأمر تحت رُكام بيتنا الذي تم مسحه من الخريطة وبه ما يقارب أربعمائة لوحة من أعمالي التي عملت عليها لأكثر من خمسة عشر عاما، أتلفت جميعها تحت الركام، كل هذه الأعمال كانت عبارة عن جهد زمن جميل من العمل والبحث المتواصل، جميعهم قضوا أسفل البيت الذي قضى. أكثر مشاهد الحرب التي تركت في نفسك ألم عميق وسط هذا الدمار الهائل؟ أكثر المشاهد التي أثرت ومازالت تؤثر علّي هي مشاهد الأطفال الشهداء والأشلاء والأحياء والمصابين والذين أصبحوا بلا عائلات وهم كثر والعدد المُرجح حسب الإحصاء يتجاوز ثمانية عشر ألف طفل، جزء كبير منهم رُّضع، تم تبني بعضهم من قبل عائلات أخرى، والجزء الأخر من مجهولي الاسم والهوية ، ومنهم ممن قضوا شهداء تحت جبال الرُكام مع عائلاتهم، أيضا مشاهد المدينة المدمرة كلياً وكأن زلزال بقوة تسعة ريختر قد ضربها، مشاهد بكاء وقهر الرجال وعذابات الأمهات والبنات، مشاهد التجويع المتعمد كوسيلة قتل وتركيع، مشاهد الناس وهم يأكلون أعلاف الطيور والحيوانات، مشاهد الأطفال وهم يأكلون الحشائش والأعشاب البرية ويشربون مياه ملوثة، ومشاهد بتر أطراف الأطفال والنساء بدون تخدير وهو ما تسبب باستشهاد عدد كبير منهم بسبب عدم إحتمال ألم الجراح، كلها مشاهد دراماتيكية تخلع القلب وتتعب الروح والجسد، والتي لم ولن ننساها ما حيينا، لأنها تركت جرح غائر وألم مستمر وأثر عميق في النفس والروح، كل شيء هناك موسوم بالموت والقتل والجوع والقهر والمعاناة والألم الذي لم يشهد التاريخ مثيلا له، أستطيع القول بأننا لم ولن نعتاد المشهد، وأن من إعتاد عليه أن يُراجغ انتمائه وإنسانيته .أريد إلقاء الضوء على رسالتك كفنان في ظل ما يعانيه وطنك من سطوة احتلال غاشم؟ بشكل عام مجمل أعمالي الفنية وموضوعاتي التي أطرحها تتناول القضية الفلسطينية وقضايا الهوية واللجوء والحدود والجغرافيا السياسية التي يفرضها الصراع، بالإضافة لقضايا الأطفال وخصوصاً ممن هم تحت وطأة الاحتلال، البيت والمكان هم الثيمة الرئيسية التي أعمل عليها بمختلف الوسائل وتعدد الوسائط، ومنذ أن إبتدأت مشروعي الفني بشكل مهني، وتمكنت فيما بعد كفنان أن أوجد الفرص المواتية للعرض والعمل والمشاركة على مستوى دولي وعالمي مع باقي الفنانين العرب والفلسطينيين والأوروبيين، وتمكننا من خلق حالة فلسطينية ذات قضايا وموضوعات مبتكرة ومواكبة لمجمل الأحداث والقضايا العالمية والمحلية. “ A piece of tent – قطعة من خيمة ” textile, stitching, 106x68cm – 2021 ورسالتي كفنان فلسطيني: أدعوا جميع الفنانين العرب والفلسطينيين وكل من هم مهتمين بالقضايا الإنسانية بتكثيف الجهود الفردية والجمعية والمؤسساتية وإنتاج فن عربي يتناول مجمل القضايا الإنسانية بالعالم وأيضا التي تتعلق بفلسطين ولبنان والسودان المنكوب، وغيرهم لأن في ذلك رسالة مهمة وواضحة يستطيع أن يقدمها الفنان لمختلف الثقافات وبما أن الفن هو لغة بصرية لا تحتاج لأي وسيط تعريفي أو لغوي أو شرح ما، فبذلك تصل إلى الجميع بكامل الوضوح فيما يتعلق بالفكرة والموضوع المطروح.