وجد باحثون من جامعة تورنتو الكندية أن مرحلة حاسمة في تطور الأجنة المبكر لا تتحكم فيها الجينات البشرية نفسها، بل عناصر وراثية تُعرف باسم “الترانسبوزونات (transposons) أو “الجينات الأنانية”.
“الترانسبوزونات- transposons”، أو ما يُعرف أيضاً بعناصر “القفز الجيني”، هي قطع صغيرة من الحمض النووي قادرة على الانتقال من مكان لآخر داخل الجينوم، ولطالما اعتقد العلماء أن هذه العناصر هي بمثابة “طفيليات جينية”، أي أنها تتسبب في فوضى داخل الجينوم، وقد تؤدي إلى حدوث طفرات وأمراض، ولكن هذا الاكتشاف الجديد يغير نظرتنا إليها تماماً.
ويعتبر العلماء “الترانسبوزونات” من ضمن “النفايات الجينية” والتي تُعرف أيضاً باسم الحمض النووي غير المشفر أو الحمض النووي “الصامت”، والتي تمثل جزءاً كبيراً من الجينوم البشري، إذ تشير الأبحاث إلى أن حوالي 98% من الجينوم البشري يتكون من نفايات جينية، والتي لا تحتوي على التعليمات اللازمة لصنع البروتينات التي تُعد جزيئات حيوية تلعب دوراً كبيراً في الجسم، وتعتبر مسؤولة عن العديد من الوظائف الأساسية مثل بناء الخلايا، وتنظيم العمليات البيولوجية، ونقل الإشارات، والدفاع ضد الأمراض.
واكتشف الباحثون أن هذه العناصر المتنقلة تلعب دوراً حاسماً في المراحل المبكرة جداً من تطور الجنين البشري، وعلى عكس الاعتقاد السائد، فإنها لا تسبب الضرر فقط، بل إنها ضرورية لحدوث تغيرات مهمة في الخلايا الجنينية تسمح لها بالتطور بشكل طبيعي.
وتقول الدراسة المنشورة في دورية “سيل ديفيلوبمنت” إن الترانسبوزونات تعمل كنوع من “أزرار التشغيل والإيقاف” للجينات، فعندما تتحرك إلى موقع جديد على الجينوم، يمكنها أن تغير نشاط الجينات المجاورة، مما يؤثر على كيفية عمل الخلية، وهذا يعني أنها قد تضع نفسها بالقرب من جينات محددة، مما يؤثر على كيفية تنظيم تلك الجينات.
فعلى سبيل المثال، يمكن للترانسبوزونات أن تعزز أو تقمع تعبير جين معين بناءً على موقعها الجديد؛ وهو تأثير يمكن أن يكون له عواقب كبيرة على كيفية تطور الجنين، ويؤثر على مراحل مختلفة من النمو مثل تكوين الأنسجة وتمايز الخلايا، كما تساعد الترانسبوزونات في تشكيل بنية الجينوم ثلاثية الأبعاد، مما يؤثر على كيفية تفاعل الجينات مع بعضها البعض.
من المعروف أن الفترة المبكرة من تطور الإنسان تشمل سلسلة من التغيرات البيولوجية المعقدة، والتي تتطلب تنسيقاً دقيقاً بين الجينات المختلفة، وهنا يأتي دور الترانسبوزونات، إذ تساعد في تنظيم هذا التنسيق عن طريق تعديل كيفية تنشيط أو كبح الجينات المسؤولة عن هذه العمليات.
الخلايا الجنينية البشرية
ويرى الباحثون أن الترانسبوزونات قد تكون مسؤولة عن تحفيز التغيرات الجينية التي تساعد على تكوين أنسجة جديدة وتخصص وظائف الخلايا، ما يعني أنها تلعب دوراً أكبر بكثير مما كان يُعتقد سابقاً.
ويقول المؤلف الرئيسي للدراسة “ميغيل رامالو سانتوس” أستاذ في قسم الوراثة الجزيئية بجامعة تورنتو إن بعض الناس يميلون إلى التفكير في الترانسبوزونات على أنها أشبه بالفيروسات، إذ تستولي على خلايانا لغرض وحيد هو تكاثر نفسها “لكننا هنا اكتشفنا أن هذه العناصر ليست مجرد طفيليات جينومية، بل هي ضرورية للتطور المبكر”.
وتشير الدراسة إلى أن العناصر المتنقلة ضرورية لضمان تقدم الخلايا الجنينية البشرية بشكل طبيعي خلال التطور المبكر، بدلاً من العودة إلى الوراء؛ إذ تمنع الخلايا الجنينية من العودة إلى حالتها السابقة الأقل نضجاً بدلاً من التطور إلى خلايا أكثر تخصصاً.
في تلك الدراسة؛ ركز الباحثون على العناصر المتنقلة المعروفة باسم العنصر النووي المتناثر الطويل LINE-1، “long interspersed nuclear element-1” وعلى عكس جيناتنا الخاصة، التي تشكل أقل من 2% من جينومنا، تشكل عناصر LINE-1 وحدها نسبة مذهلة تبلغ 20% من المادة الوراثية في خلايانا.
يمكن لبعض عناصر LINE-1 أن تتضاعف وتتحرك حول الجينوم، وتدخل نفسها في مواقع جديدة، نظراً لأنها تنتشر من تلقاء نفسها بطريقة يمكن أن تعطل الوظائف الجينية العادية، لذا اكتسبت لقب “الحمض النووي الأناني”.
لطالما اعتقد العلماء أن هذه العناصر ضارة في الغالب، إذ تسبب الفوضى في الجينوم، وتساهم في مجموعة متنوعة من الأمراض، من الهيموفيليا إلى الاضطرابات العصبية والسرطان، لكن الباحثون في تلك الدراسة اكتشفوا أن تلك العناصر تساعد في تنظيم جينات مهمة من خلال ترتيب الحمض النووي في نواة الخلية، مما يسمح للجنين بالتقدم بشكل سليم.
فعندما تم قمع نشاط الـLINE-1 في الخلايا الجذعية الجنينية، عادت الخلايا إلى مرحلة بدائية، وهو ما يوضح دورها الحاسم في تطور الجنين بشكل طبيعي.
وعلى عكس المعروف عن “الجين الأناني” وسلوكه النموذجي في القفز إلى مواقع جينومية جديدة، وبالتالي التسبب في طفرات ضارة محتملة، عززت عناصر LINE-1 بشكل حصري التقدم التنموي الجنيني، وهو عمل فريد يبرز أهميتها في النمو البشري المبكر.
ويقول الباحثون إن لهذه النتائج آثاراً مهمة على علاجات الخصوبة واستخدام الخلايا الجذعية في الطب التجديدي، إذ تكشف عن أدوار جديدة لعناصر LINE1، والتي يمكن استكشافها الآن في سياقات المرض، من الاضطرابات العصبية إلى السرطان.