Site icon العربي الموحد الإخبارية

من يمول علاجات شافية لا جدوى اقتصادية من ورائها؟

استبشرت نيكول جونسون خيراً حين وعدتها شركة تقنية حيوية بأنها ستدرس علاجاً جديداً لعلة ابنتها، فقد كانت تستجلب المال لدعم البحوث حول علاجات محتملة لمتلازمة “فوكس جي 1” (FOXG1)، وهو اضطراب عصبي نادر حرم ابنتها المشي والنطق.
ووافقت شركة التقنية الحيوية “تايشا جين ثيرابيز” (Taysha Gene Therapies) ومقرّها دالاس، على التعاون مع جمعيتها التي لا تبغي الربح، بغرض تطوير علاج مورثات لحالة الطفلة.
لكن “تايشا” قررت قبل عامين التوقف عن تطوير أكثر من 12 علاجاً منها علاج ابنة جونسون، وهو قرار غير خارج عن المألوف، ومنذ 2021، تخلت شركات التقنية الحيوية عن أكثر من 50 علاج مورثات، ويثير هذا العدد المتزايد من العلاجات المهملة تساؤلاً عن الجدوى الاقتصادية لعلاجات قائمة على تعديل الحمض النووي لشفاء أمراض نادرة، وهذا حرض أسراً وعلماء ورواد أعمال على السعي لإنقاذ تلك الأدوية من الإقصاء. 
علاجات المورثات
قالت جونسون، التي تموّل منظمتها غير الربحية بحوثاً أخرى في جامعة بافالو: “أدركنا أن علينا استكشاف طريقنا بأنفسنا، وأن نمضي فيه لأبعد ما نستطيع.. لن تأتي شركة بحوث حيوية لتخلّصنا”.
تتيح علاجات المورثات إحداث تغيير دائم في الحمض النووي للإنسان، أي خريطته الوراثية، بهدف معالجة طفرات تسبب مجموعة اختلالات كثيرة. بعد أكثر من 30 عاماً من تلقي أول مريض لهذا النوع من العلاج، بلغ العلم مرحلة واعدةً جداً مع تزايد الأدلة التي تشير إلى أن علاجات لمرة واحدة قادرة على تغيير حياة المرضى. لكن كثيراً من شركات التقنية الحيوية وكذلك المستثمرين، تخلّوا عن طموحاتهم الواسعة السابقة في مجال معالجة المورثات. 

في سبتمبر، مثلاً، قالت شركة “برايم مديسين” (Prime Medicine) المتخصصة في التعديل الوراثي، التي كان في جعبتها 18 برنامجاً في السابق، إنها تركز الآن على خمسة منها فقط، فيما تواجه شركات أخرى طرحت علاجاتها في السوق صعوبات في العثور على زبائن. شركة “بلو بيرد” (Blue Bird)، التي لديها 3 منتجات معتمدة وجميعها علاجات مورثات، سرّحت ربع موظفيها الشهر الماضي، وقالت إن “شكوكاً قوية” تحيط بقدرتها على الاستمرار في العمل.
وقد انخفض تمويل رأس المال الاستثماري للشركات الناشئة في مجال معالجة المورثات من 3.3 مليار دولار في 2020 إلى 400 مليون دولار خلال ما انقضى من هذا العام، بحسب بيانات شركة “ديل فورما” (Deal Forma).
كما فترت حماسة وول ستريت تجاه القطاع وانخفضت القيمة الإجمالية لشركات الطب الوراثي المدرجة في البورصة 63% من ذروتها في أغسطس 2021، وهو انخفاض يقدّر بنحو 250 مليار دولار، وفقاً لبنك “شاردان” (Chardan) الاستثماري. 
تكاليف باهظة
أسدلت عوامل عديدة ظلالاً قاتمةً على القطاع، إذ أن إنتاج علاج مورثات، وهو عادة ما يكون بالاعتماد على استخدام غلاف فيروس لتوصيل نسخة عاملة من المورث إلى الخلية، قد يستغرق سنوات ويكلف مئات ملايين الدولارات.
صعّب ارتفاع أسعار الفائدة على شركات التقنية الحيوية استجرار الأموال من المستثمرين. بالإضافة إلى ما سبق، فشلت بعض التجارب السريرية لمعالجات المورثات. وحتى حين تحصل الشركات في النهاية على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية، يواجه بعضها رفضاً من شركات التأمين أو بطئاً في العثور على الزبائن. 
قال خورخي كوندي، الشريك العام في شركة “أندريسن هورويتز” (Andreesen Horowitz)، التي استثمرت في شركات العلاج الوراثي “الأمر أشبه بكارثة محققة تحيط بالشركات التي تعمل في هذا المجال.. وهذا أمر مؤسف، لأن القطاع واعدٌ جداً”.
تضم السوق الأميركية نحو 20 علاج مورثات أثبت بعضها نجاحه، ومنها علاج شركة “نوفارتيس” (Novartis) للضمور العضلي الشوكي، وعلاج شركة “ساريبتا ثيرابيوتيكس” (Sarepta Therapeutics) لحثل العضلات الدوشيني. حققت الشركتان مبيعات سريعة من خلال تلبية حاجات الأسر المتلهفة للعلاجات، نظراً لأن حياة أطفالها على المحك.

وعلى النقيض من ذلك، كان الإقبال ضعيفاً على العلاج الوراثي للهيموفيليا من شركة “بايومارين فارماسوتيكال” (BioMarin Pharmaceutical) ، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن المرضى الذين يعانون هذا الاضطراب النزيفي لديهم عدة أدوية فعالة أخرى.
في غضون ذلك، بدأت شركات التأمين وأصحاب العمل يمتنعون عن تغطية معالجات المورثات التي تصل تكاليف بعضها الأولية 3 ملايين دولار أو أكثر لجرعة واحدة.
فتور تجاه علاجات المورثات
ما يحدث هو تحول جذري على ما كان عليه الحال قبل بضع سنوات، عندما بلغ الحماس تجاه هذا الطب الثوريّ أوجه. في 2016، اشترت “فايزر” شركةً متخصصةً بعلاجات المورثات، وتعهدت بأن تكون رأس حربة هذا المجال. وفي مؤتمر عُقد في 2017 في بوسطن، عُرض على مجموعة من أطباء الأعصاب مقطع فيديو لأطفال مصابين بالضمور العضلي الشوكي، شاركوا في تجربة سريرية لعقار أصبح اسمه بعدها “زولغنزما” (Zolgensma).
كان الأطفال يجلسون منتصبين بلا مساعدة، وهو ما يعجز عنه الأطفال المصابون بالمرض عادةً، ما دفع بالجمهور إلى التصفيق. في العام التالي، اشترت “نوفارتيس” الشركة المطوِّرة لهذا العلاج الوراثي مقابل حوالي 9 مليارات دولار. نشأت بعدها عدة شركات جديدة مختصة بمعالجة المورثات وطُرِحَت للاكتتاب العام، وبحلول 2017، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية على أول علاج مورثات. 
استمرت عجلة العلم في التقدم، ولا سيما مع اكتشاف أشكال جديدة من التعديلات الوراثية التي تُحدث تغييرات دقيقة في الحمض النووي للمريض، وهو ما يفتح الباب أمام علاج مزيد من الأمراض.
لكن في السنوات القليلة الماضية، توجّهت حماسة كبار صانعي الأدوية والمستثمرين نحو الأدوية التي تستهدف أعداداً كبيرة من الناس، وخصوصاً أدوية السمنة، وفتر اهتمامهم بالأمراض النادرة التي تعدّ مرشحة جيدة لمعالجة المورثات.
تخارجت “فايزر” بقدر كبير من القطاع في العام الماضي، فقد باعت محفظتها من علاجات مورثات في مراحلها الأولية لشركة “أسترازينيكا” . أما “بلوبيرد بايو”، فقد انخفضت قيمتها السوقية اليوم إلى 100 مليون دولار، بعدما بلغت نحو 12 مليار دولار في 2018.

لم تنضب الأفكار حول كيفية توفير مزيد من العلاجات المحتملة للمرضى، كما تعدّ بعض شركات التأمين خططاً لجعل معالجة المورثات ميسورة التكلفة عبر منح أصحاب العمل إمكانية استخدام مجموعة منها لصالح موظفيهم عند الحاجة مقابل رسوم شهرية منخفضة، وهي خطة تشابه آلية عمل اشتراكات خدمة “نتفلكس”.
في العام الماضي، عرض معهد “إنوفايتف جينوميكس” (Innovative Genomics) غير الربحي، الذي أسسته الباحثة الرائدة في تعديل الجينات جنيفر دودنا، خطة لخفض أسعار علاجات المورثات إلى العشر، ومن مقوماتها خفض تكلفة التصنيع وإنشاء شركات منفعة عامة يتعين عليها تحقيق التوازن بين تحقيق الأرباح ومساعدة المجتمع.
نماذج عمل جديدة
كان هذا بالضبط ما فعله دونالد كون، إذ أعادت شركة “أوركارد ثيرابيوتيكس” (Orchard Therapeutics) قبل عامين حقوق علاج مورثات يتناول اضطراباً مناعياً شديد الندرة يدعى (ADA-SCID) وهو معروف أيضاً باسم “مرض فتى الفقاعة” إلى جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس.
يتولى كون، وهو الأستاذ في تلك الجامعة، حالياً معالجة الأطفال المصابين بهذه الحالة، بينما يبحث عن مستثمرين لشركته ذات المنفعة العامة، ويحدوه الأمل بأن يمكّنه نموذج العمل الجديد البعيد عن متطلبات تحقيق أقصى قدر من الأرباح، من تحديد سعر معقول.
لكن بانتظار ذلك، هو غير متأكد حيال أمد قدرته على الاستمرار بذلك، وأقرّ أن محاولته “هشة جداً.. إذا ما صدمتني حافلة غداً أو عجزت عن الحصول على المنحة الحكومية التالية، فقد يختفي هذا العلاج”.
كون واحد من مجموعة صغيرة من علماء وأسر ورجال أعمال يحاولون إنقاذ علاجات المورثات التي نبذتها الشركات.
في أغسطس، أنشأ رائد العلاج الوراثي جيم ويلسون، شركة “غيما بيوثيرابيوتكس” (Gemma Biotherapeutics)، بعدما حصل على تراخيص علاجات تخلت عنها شركة تقنية حيوية أخرى.
وفي وقت سابق من هذا العام، أنشأ كريج مارتن مؤسسة “أورفان ثيرابيوتكس أكسيليريتور” (Orphan Therapeutics Accelerator) للتقنية الحيوية. وتتمثل خطته في الحصول على حقوق العلاجات الوراثية للأمراض النادرة التي تخلت عنها الشركات بتكلفة قليلة أو مجاناً، والعمل على إكمال تطويرها. 
قال: “نأمل أن نتمكن من تقديم عشرات منها للمرضى, لكن الأمر قد يتطلّب مزيجاً من النماذج المختلفة لتغطية آلاف الأمراض النادرة التي ما تزال تنتظر العلاج”.
خيبة أمل الأهل
على نفس المنوال تمضي خطة تيري بيروفولاكيس في شركة “إلبيدا ثيرابيوتكس” (Elpida Therapeutics)، التي أقامها كشركة ذات غرض اجتماعي، وهي كيان يجمع بين رسالة اجتماعية وسعي للتربح.
يتلقى بيروفولاكيس اتصالاً كل أسبوع أو اثنين من شركة أو مؤسسة للتقنية الحيوية تسأله عما إذا كان يريد العمل على علاج وراثي باتت عاجزة عن تحمل تكاليف تطويره. قال: “لدينا علاجات للأطفال، ولكن لدينا مشكلة في التمويل… المشكلة الأساسية في علاجات المورثات هي تكلفة صنعها الباهظة”. 

قلّصت “تايشا” طموحاتها بما يفوق معظم نظيراتها، فقد كانت تعمل سابقاً على 18 علاجاً وراثياً، وباتت الآن تركّز على مرض واحد فقط هو متلازمة “ريت”، وهو اضطراب وراثي يضعف قدرة المصاب على الحركة والتواصل. قال رئيسها التنفيذي السابق آر إيه سيشن إنه كان يعتقد قبل بضع سنوات أن الشركة لديها “منصة” من شأنها أن تسهّل علاج كل تلك الأمراض بالطريقة نفسها، لكنها واجهت صعوبات في جمع التمويل.
عندما يستحضر مجريات الأحداث الآن، يندم على التعامل مع عدد كبير من الأمراض بالتزامن. قال إن الجزء الأصعب كان إبلاغ أسرة محبطة بأن “تايشا” توقفت عن العمل على علاج مورثات يخص مرض طفلها. قال: “كان ذلك جحيماً ولا أجد كلمةً أفضل لوصفه… مهما ذكرت من أسباب فلن يجدوا أياً منها مقنعاً، وهذا طبيعي”.
قالت كايسي وليبن، التي ولد ابنها ويل مصاباً باضطراب عصبي نادر يسمى متلازمة “إس يو أر إف 1 لي” (SURF1 Leigh) إن قرار “تايشا” التوقف عن العمل على علاج المورثات لحالة ولدها كان “ساحقاً للروح”.
ومنذ ذلك الحين، تحاول وليبن إقناع صانعي أدوية آخرين باستئناف العمل على العلاج الوراثي، لكنهم رفضوا وقالوا إنه لا طائل مادي من ذلك. 
جمعت المنظمة غير الربحية التي شارك في تأسيسها حوالي مليونَي دولار لمواصلة البحث، ولكنها ما تزال بحاجة إلى مثل ذلك لتصل إلى المبلغ المطلوب لصنع دواء يلبي المعايير والأنظمة. مع غياب المساعدات المالية من شركات التقنية الحيوية، يُترك أهل الأطفال المصابين بالمرض ليجمعوا الأموال بأنفسهم. قالت ووليبن: “يتوجب علينا أن نصبح نحن مصنّعي الأدوية”.
الأهل يتولون زمام الأمور
بعدما تخلّت “تايشا” عن علاجها لاضطراب عصبي نادر آخر، وهو “إس إل سي 6 إيه 1” (SLC6A1)، “توقف عملياً كلّ التقدم على هذا الصعيد”، حسب آمبر فريد، التي وُلد ابنها ماكسويل مصاباً بالمرض، وكانت مؤسستها غير الربحية قد موّلت البحث المبكر عن العلاج الوراثي لهذه الحالة، وتبرعت به لمركز ساوث ويسترن الطبي التابع لجامعة تكساس في دالاس.
لقد مرّ عامان على ذلك، لكن “تايشا” لم تُعِد بعد حقوق الدواء للجامعة، فعرقل هذا إجراء مزيد من البحوث. قالت فريد: “يمرض طفلك، ثم يتفاقم مرضه، ثم تشاهد التقنية وهي توضع على الرف فتنتظر إلى الأبد”. 
قال متحدث باسم “تايشا” إن الشركة “ملتزمة بإنصاف المرضى ومجموعات الدفاع عنهم” وهي تستكشف طرقاً لتطوير العلاجات التي أزالتها من قائمة أولوياتها.
تتعاون مؤسسة فريد الآن مع شركة جديدة تعمل في مجال التقنية الحيوية هي “جاليبرا نيوروساينس” (Galibra Neuroscience)، التي تٌعنى بتطوير علاجات مورثات لحالات مثل حالة ابنها. قالت: “أنا مقتنعة بأن العلاج الوراثي سيكون دواء المستقبل، سيكون هذا العلاج أقرب شيء إلى الدواء الشافي في حياة أطفالنا”.

وُلدت جوزي، ابنة جونسون في 2011، وكانت مصابةً بمتلازمة “إف أو إكس جي 1″، وتعاني الفتاة التي بلغت الثانية عشرة من عمرها، من نوبات متكررة وتعجز عن المشي والنطق والجلوس دون أن تقع بعدها.
بعد أن تخلت “تايشا”عن خططها لتطوير العلاج الوراثي، تملك الإحباط جونسون، لكنها تقول أيضاً إن الأمر كان شرارة “أشعلت ناراً”. فقد تحولت منظمتها غير الربحية إلى “شركة تقنية حيوية افتراضية” تموّل مختبراً يضمّ حوالي 20 باحثاً يدرسون المرض.
يقود البحوث فريق من عالمين في جامعة بوفالو هما زوج وزوجة يعاني طفلهما الاضطراب نفسه. أقامت الجامعة الشهر الماضي حفلاً لافتتاح مركز أبحاث جديد حول “إف أو إكس جي 1”. وتأمل جونسون أن تبدأ التجارب السريرية على علاج المورثات الذي يطوره المركز بحلول 2026. قالت: “سيكون رائعاً لو أن شركة تقنية حيوية تولت هذا، لكننا لن ننتظر ذلك”.
هذا المحتوى من “اقتصاد الشرق مع بلومبرغ”

Exit mobile version