مع وصول أزمة ملف سد النهضة الإثيوبي والمفاوضات حوله، إلى طريق مسدود، وإعلان السودان عدم ثقته في أديس أبابا، بدأ حديث مصري عن أنه لا خيار أمام دولتي المصب إلا اللجوء إلى محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن قبل بدء الملء الثاني للسد، في يوليو القادم، والذي سيكون له تداعيات سلبية خطيرة، بحسب ما عكسته مخاوف الخرطوم والقاهرة.
ومع تلويح مصري باستخدام القوة العسكرية، كان آخرها، الاثنين، من قبل الرئيس عبد الفتاح السيسي في حديثه مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، حيث شدد على أن “عدم حل قضية “سد النهضة” من شأنه أن يؤثر بالسلب على أمن واستقرار المنطقة بالكامل”، طُرح خيار آخر باللجوء إلى المنظمات الدولية.
وتستعد أديس أبابا للمرحلة الثانية من ملء السد بـ13.5 مليار متر مكعب من مياه نهر النيل ليصبح حجم المياه المتجمعة أمام السد 18.5 مليار متر مكعب.
وكانت إثيوبيا، قد أعلنت في 21 يوليو الماضي، إنجاز ملء المرحلة الأولى لسد النهضة، على الرغم من عدم توصلها لاتفاق دولتي المصب، مصر والسودان.
ويشكل “سد النهضة” المبني في شمال غرب إثيوبيا بالقرب من الحدود مع السودان على النيل الأزرق الذي يلتقي بالنيل الأبيض في الخرطوم، مصدر توتر بين الدول الثلاث منذ وضع حجر الأساس له في أبريل 2011.
تريد مصر والسودان التوصل إلى اتفاق ثلاثي بشأن تشغيل السد قبل ملئه، لكن إثيوبيا تقول إن هذه العملية جزء لا يتجزأ من بنائه ولا يمكن تأجيلها.
تهديد عسكري.. وسياسة حافة الهاوية
ويقول مدير معهد البحوث العربية والأفريقية في مصر، مجدي الجمال، إن “مصر قبل أن تلجأ إلى مجلس الأمن تلوح بالخيار العسكري، وفي المقابل إثيوبيا تتبع سياسة حافة الهاوية، بمعنى أن تصدر مبادرة أو تعلن قبولها بحل وسط عندما تصل الأمور إلى مداها الأخير لإحداث الفوضى”.
ويرى المستشار السابق بالبنك الدولي، حافظ الغويل، في حديثه مع موقع “الحرة” أن الذهاب إلى محكمة العدل الدولية أو مجلس الأمن أو كليهما معا هو أمر أفضل من ضرب السد الذي يهدد به بعض المصريين أو الدخول في حرب كما يحذر السيسي.
وأضاف “هي خطوة أعتقد أنها إيجابية وأفضل من التهديدات التي سمعناها بأننا سنضرب السد، على الأقل فيها تفكير سلمي، لأن التصعيد الكلامي سينتهي إلى مواجهات عسكرية لا يحمد عقباها لكل الأطراف، بل سيمتد إلى دول أخرى مثل إريتريا وتنزانيا”.
وكان السيسي قد حذر أيضا، الأسبوع الماضي، من تأثر استقرار المنطقة برد فعل مصر على أي مساس بإمداداتها من المياه التي وصفها بـ”الخط الأحمر“.
في المقابل، يصف المحلل الإثيوبي، جمال بشير، في حديثه مع موقع “الحرة” حديث السيسي بـ”الخطير جدا”، ويرى أن “المجتمع الدولي لن يسكت عنه، لأن التعامل مع القضية بالقوة هو أمر مرفوض دوليا”.
“تأخر” في اللجوء إلى المنظمات الدولية
ويقر الجمال بوجود ضغوط دولية على مصر بعد التهديدات العسكرية، “خاصة من جانب الولايات المتحدة التي تغير موقفها بعد الإدارة الجديدة والتي أصبحت في موقف الحياد بين الطرفين بعد أن كانت تقف إلى جانب القاهرة”.
ولذلك يرى الغويل أن القاهرة والخرطوم “تأخرتا في اللجوء إلى المنظمات الدولية حتى أصبح الملء الثاني قاب قوسين أو أدنى، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن محكمة العدل الدولية قد تصدر قرار بعدم حدوث الملء الثاني إذا وجدت فيه ضررا كبيرا على دولتي المصب، حتى الفصل في القضية”.
لكن الجمال عزا التأخر في اللجوء إلى المنظمات الدولية بسبب موقف السودان الذي وصفه بأنه “كان متخاذلا”.
وأضاف أن “السودان لم يغير موقفه إلا منذ نحو ثلاثة أشهر فقط، وحتى الآن لا يزال هناك بعض من الجناح المدني في السودان موال لإثيوبيا، لكن التعنت الإثيوبي وأزمة الحدود جعلتهم يتراجعون”.
فعلى خلاف العشر سنوات الماضية، سرعت مصر والسودان تحركاتهما في ملف سد النهضة، فضلا عن تقارب في ملفات سياسية والاتفاق على مشاريع اقتصادية وإجراء مناورات عسكرية خلال الأشهر القليلة الماضية، قبل بدء إثيوبيا في المرحلة الثانية من ملء السد.
لكن مع تكثيف مصر تحذيراتها بشأن “سد النهضة” في الأسابيع الأخيرة، استبعدت وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي، الخميس، “الخيار العسكري” لمنع إثيوبيا من مواصلة خططها بشأن السد.
ويرى الجمال أن “مصر تأخرت”، لأنها أيضا تريد حشد المجتمع الدولي أولا حول أمنها المائي، وتتأكد أنه سيكون إلى جانبها عندما تقف في مجلس الأمن للمطالبة بحقوقها المائية.
وبالرغم من الجهود المصرية في هذا الملف، فإن الجمال يعتقد أن “الصين ستقف مع إثيوبيا في مجلس الأمن بسبب استثماراتها في مشاريع حول سد النهضة، كما أن روسيا قد تمتنع عن التصويت، فضلا عن أن مصر لا تثق بشكل كامل في الموقف السوداني مع تدخل الإمارات لحل مشكلة الحدود مع إثيوبيا، ولذلك تفكر مصر في حل عسكري إذا لم تجد مخرجا، لأن قضية المياه بالنسبة لنا هي مسألة حياة أو موت”.
وزير الخارجية المصري، سامح شكري، بدوره قال إن اللجوء إلى المنظمات الدولية سيأتي في وقته وقال “اللجوء إلى المنظمات الدولية كلها يتم في إطار خطة موضوعة مسبقا ويتم تنفيذها وفق جداول وبرنامج زمني محدد”.
ويرجح الجمال أن تلجأ مصر مجددا إلى مجلس الأمن وقد لا تلجأ إلى محكمة العدل، التي قد تأخذ وقتا لإصدار قرار في القضية.
ويعتقد الغويل أن “مجلس الأمن بدوره سيكوّن لجنة لدفع التفاوض بين الدول الثلاث أو سيحدد مبعوثا خاصا، أما محكمة العدل فتستطيع أن تصدر قرارا قانونيا دوليا يجب احترامه من قبل الدول الثلاث”.
“أمل كبير”
لكن وزير الموارد المائية الأسبق للسودان، خضر قسم السيد، قال في حديثه مع موقع “الحرة” إنه لا يرى بأن المفاوضات بلغت طريقا مسدودا، مضيفا “لدي أمل كبير في الوصول إلى حل، خاصة أنه تم الاتفاق على 90 في المئة من القضايا الخلافية، ولم يبق إلا عشرة في المئة، وأهمها صياغة اتفاق قانوني ملزم لكل الأطراف”.
وزير الخارجية المصري، أكد أنه تمت صياغة اتفاق قانوني بالفعل في واشنطن برعاية أميركية العام الماضي، وبتوافق بين الدول الثلاث، “لكننا فوجئنا بعدم حضور أديس أبابا حين حان وقت التوقيع عليه”.
ولا يرى الوزير السوداني السابق ضرورة للذهاب إلى مجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية “لأنه ليس في يدهما الحل السحري للأزمة”، مشيرا إلى أن “الحل يكمن في التوصل إلى حلول وسطى بين الدول الثلاث”.
وأضاف “لدينا في السودان أكبر مشكلة هي تبادل المعلومات، والتخوف من الجفاف المستمر، وإثيوبيا أعربت عن استعدادها لتبادل المعلومات، لكننا نريد ذلك فقط في اتفاق ملزم”.
“مطالب خاصة”
في المقابل يقول بشير لموقع “الحرة” إن مجلس الأمن رد مصر قبل ذلك، وأحال الملف إلى الاتحاد الإفريقي، ولن يفعل لهم شيئا مجددا وسيرسل خبراء فقط إذا كان يرى أن السد فيه مشكلة”.
وأضاف “أكدنا مرارا وتكرارا بأن المشروع هدفه هو توليد الكهرباء، لكن يبدو أنهم يسيّسون الموضوع، وبدلا من أن يتعاملوا معه على أنه سد تنموي، يروجون بأن الهدف منه هو السيطرة على المياه”.
وأوضح “هناك مطالب سياسية خاصة لا علاقة لها بالأمور الفنية في سد النهضة، هم يطالبون بألا تبنى سدود أخرى في المستقبل، وأن تكون هناك ضمانات ألا يستخدم هذا السد في أشياء أخرى غير توليد الكهرباء مثل الزراعة، كما أنهم يطالبون بألا تنقص حصتهم حتى في أيام الجفاف، وهذا يعني أن إثيوبيا ستكون ملزمة بمنحهم المياه من خزان السد، بمعنى أنهم لا يريدون تقاسم المشكلة عند حدوثها وأن تتحملها أديس أبابا فقط، وهو أمر ظالم، لأنه في هذه الحالة سيتوقف السد عن إنتاج الكهرباء حتى توفر لهم هذه الحصة”.
ويرى بشير بأن “أكثر المطالب متعلقة بالمستقبل ولا تريد إثيوبيا أن توقع اتفاقا يكون ملزما عليها نيابة عن الجيل القادم”، مضيفا أن “عدد سكان إثيوبيا يبلغ نحو 120 مليون، وقد يبلغ 150 مليونا بعد 10 سنوات، ولذا يجب ألا نظلم الأجيال التي بعدنا”.
وفيما أكد وزير الخارجية المصري أن إثيوبيا خالفت اتفاق المبادئ الموقع في 2015 بين الدول الثلاث بأنها أقدمت على ملء أحداث للسد العام الماضي بدون إخطار دولتي المصب، قال بشير إن بناء السد وملئه لا يفترقان بحسب الاتفاق.
ونوه بأن الاتفاقية تشير إلى أن “إثيوبيا تخطر فقط الدولتين في حال وقوع ضرر عليهما، والملء الثاني لن يجلب الضرر، ولذلك هم لن يستطيعوا أن يوقفوه”.
لكن الجمال يرى أن موقف مصر سيصبح أكثر صعوبة إذا حدث الملء الثاني، وذلك لأن إثيوبيا ستملك السيطرة، “وقد تبيع لنا المياه في المستقبل”.
“نغمة جديدة”
ويشير الجمال إلى “نغمة جديدة لدى السلطات المصرية حاليا مفادها أن الملء الثاني لن يضر بشكل كبير لأن لدينا مخزونا في بحيرة ناصر يكفينا لمدة ثلاث سنوات حتى لو تدخل لمصر نقطة واحدة من المياه”.
واعتبر أن هذا “يوضح عدم لجوء مصر إلى المنظمات الدولية بقوة حتى الآن، لأنها غير ممسكة بكل الخيوط التي يؤكد على نجاحها في حين إحالة الملف إلى مجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية، كما أنها غير مطمئنة إلى موقف المجتمع الدولي خاصة الصين وروسيا والولايات المتحدة”.
مدير برنامج بناء السلام بمعهد حقوق الإنسان في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، ديفيد فيلبس، يرى في حديثه مع موقع “الحرة” أن الأفضل هو “إبقاء المفاوضات على المستوى الفني”.
ويوضح أن “إحالة الملف إلى مجلس الأمن الدولي أو محكمة العدل الدولية سيؤدي إلى تسييس القضية وقد يجعل من الصعب تحقيق حل بسبب انعدام الثقة بين الأطراف الثلاثة”.
ويقول وزير الموارد المائية السوداني الأسبق إنه “في نهاية المطاف، لا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يفرض على دولة ذات سيادة ما هو عكس توجهاتها أو مصالحها”.
لكن الغويل يقول إنه “إذا أصدرت محكمة العدل الدولية أو مجلس الأمن قرارات بعدم الملء الثاني فإن الشركات التي ستساهم في ذلك ستكون معرضة لعقوبات، كما أن مصر سيكون لديها الحق في مطالبة هذه الشركات بتعويضات، فضلا عن أن البنك الدولي، والذي هو جزء من المنظومة الدولية، سيكون ملزما حينها بأن يتبع القرارات الدولية ولا يقدم قروضا أو منح للحكومة، أما في حالة قصف السد ستصبح المشكلة ضد مصر، وستكون هي المعرضة للعقوبات حينها”.