ترسخت صورة إفريقيا في أذهان العالم على أنها قارة تعاني من الفقر والأوبئة والفوضى السياسية والاقتصادية، وأن التنمية فيها شبه مستحيل، لكن هناك نماذج مختلفة تؤسس نفوذاً لها عبر قوتها الناعمة. يتناول المؤلف في هذا الكتاب تجارب أربع دول، وأهميتها على المستوى الإفريقي والعالمي.
يبحث هذا الكتاب ( صادر باللغة الإنجليزية عن دار روتليدج بتاريخ 23 مايو 2021.) في الطرق التي تستخدم بها الدول الإفريقية القوة الناعمة للمساعدة في تأسيس نفوذها على المستوى العالمي. ويتعمق في تجارب أربعة بلدان أكثر ارتباطاً بالقوة الناعمة في جميع أنحاء القارة، من الدستور التقدمي لجنوب إفريقيا والشركات المتعددة الجنسيات المتوسعة فيها، إلى صناعة أفلام نوليوود النيجيرية والتطور التقني والدبلوماسية الرياضية، وصناعات الموضة والسياحة في كينيا، وأخيراً سمعة مصر باعتبارها مهد الحضارة.في السياق الإفريقي، الذي هو محور هذا الكتاب، تحاول الفلسفات الإفريقية (مثل «أومولوابي» (Omolúwàbí) في نيجيريا، و«أوبونتو» (Ubuntu) في جنوب إفريقيا، و«هارامبي» (Harambee) في كينيا، والفرعونية المصرية، إحداث تحول في الظروف الاجتماعية والاقتصادية المحلية والسلوك السياسي عبر جعل الأفراد والدول يتخلون عن المصالح الفردية الضيقة لصالح السلع الجماعية والأخلاق. يتساءل الكتاب كيف تستخدم هذه البلدان القوة الناعمة وما هي القيود والتناقضات التي تواجهها؟صور نمطية عن القارة السمراء يقول المؤلف: «منذ أن صاغ جوزيف ناي المصطلح في التسعينات، أصبح مفهوم القوة الناعمة كلمة رنانة بين صانعي السياسات والعلماء والصحفيين والمراقبين الحريصين على العلاقات الدولية في جميع أنحاء العالم»، ويضيف: «القوة الناعمة هي القدرة غير القسرية للدولة (من سياساتها الخارجية وقيمها السياسية إلى صادراتها الثقافية) على توليد جذب الدول الأخرى وإعجابها». ويرى أنه من الضروري وضع تصور أشمل للقوة الناعمة لاستيعاب السياق الإفريقي بشكل كافٍ، ويشير إلى أن هناك «القليل من الدراسات حول القوة الناعمة لإفريقيا، مع عدم وجود أي دراسات تقريباً عن مصر وكينيا، ولكن هناك مجموعة متزايدة من الأدبيات المتعلقة بنيجيريا وجنوب إفريقيا».
هناك صور إيجابية تخرج من إفريقيا، وحقيقة أن تجاهل هذه الجوانب الرائعة من القارة أو عدم إظهارها في وسائل الإعلام العالمية، لا تعني أنها غير موجودة. ومن المهم بالقدر نفسه أن نلاحظ أن العالم يدرك هذا الواقع، حيث إن التصورات عن إفريقيا كقارة متخلفة يتم تحديها بشكل متزايد. ضمن هذا السياق، يمكن للمرء أن يفهم فكرة «إفريقيا الصاعدة»، كأس العالم لكرة القدم 2010 الناجح الذي استضافته جنوب إفريقيا، دستور بريتوريا الليبرالي (يُعتبر واحداً من أكثر الدساتير التقدمية في العالم)، نوليوود النيجيري (ثاني أكبر صناعة سينما في العالم)، ونجاح كينيا في ألعاب القوى، ومكانة مصر باعتبارها مهد الحضارة، ووضع رواندا كبطل عالمي للمساواة بين الجنسين».أطلقت «ذا إيكونوميست» في عام 2011 مصطلح «إفريقيا الصاعدة»، بعد 11 عاماً من إطلاقها لقب «القارة اليائسة». يعلق الكاتب: «كان هذا التغيير الجوهري يعود إلى حد كبير إلى معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة والأداء الاقتصادي الملحوظ في جميع أنحاء القارة. في حين تم التشكيك في هذه الرواية مؤخراً (خاصة منذ عام 2015) بسبب الأداء الاقتصادي الضعيف للقوى الإقليمية، وخاصة نيجيريا وجنوب إفريقيا، إلا أنها لا تزال ذات صلة، حيث هيمنت البلدان الإفريقية على الاقتصادات العشرة الأولى الأسرع نمواً قبل ظهور وباء كورونا، مع كون رواندا الأسرع نمواً، حيث حققت معدل نمو بنسبة 7.7 في المئة.نزع الطابع الأمريكيفي الواقع مارست إفريقيا القوة الناعمة وقدمت للعالم نماذج على عدة مستويات.«فيما يتعلق بالحكم الرشيد، مع أكثر من 60 في المئة من تمثيل النساء في البرلمان، تقدم رواندا نموذجاً في مجال المساواة بين الجنسين، بينما يقدم دستور جنوب إفريقيا نموذجاً للدستورية. تتزايد الشعبية العالمية للصادرات الثقافية الإفريقية، بما في ذلك الأفلام والموسيقى والأدب والأزياء. فقد فازت رموز أدبية إفريقية مثل النيجيري وول سوينكا والمصري نجيب محفوظ وجون ماكسويل كوتزي من جنوب إفريقيا بجائزة نوبل للآداب. تعرّف فنانو الموسيقى الأفارقة المشهورون في الشتات، وخاصة السنغالي أيكون والنيجيري جيدنا، على جذور أجدادهم في كلماتهم وقواعد لباسهم. وتعاون كبار الفنانين الأفارقة مع كبار الفنانين الأمريكيين».لقد اجتاحت الموضة الإفريقية العالم أيضاً، حيث استوحى المصممون الغربيون مثل لويس فويتون وإيف سان لوران وبول سميث الإلهام من التصاميم والمطبوعات الإفريقية. ويرتديها أبرز المشاهير والشخصيات المؤثرة مثل ميشيل أوباما وبيونسيه وريهانا وأليشيا كيز وكيم كارداشيان وجوين ستيفاني ونيكي ميناج.يحتوي الكتاب على سبعة فصول. يقدّم الفصل الأول تعريفاً عملياً ونظرة عامة على الموضوعات الرئيسية للكتاب.
يحدد الفصل الثاني نزع الطابع الأمريكي عن مفهوم القوة الناعمة وإضفاء الطابع الإفريقي عليها. ويشرك مفهوم جوزيف ناي للمصطلح، ملاحظاً أنه منذ تفعيله لأول مرة في كتابه الصادر عام 1990 بعنوان «وثبة نحو القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية»، استخدم بنجاح هذا المفهوم لتصوير قدرة الولايات المتحدة الخفية في منشوراته العديدة حول هذا الموضوع.تكمن المهمة المباشرة لهذا الكتاب في إزالة الطابع الأمريكي وأفرقة المفهوم. في عملية نزع الطابع الأمريكي عن المصطلح، لفت الكتاب الانتباه إلى مصادر القوة الناعمة للدول غير الغربية، وتحديداً دول البريكس، محاولاً نزع الطابع الأمريكي عن المفهوم من خلال تحليل القوة الناعمة لدول البريكس التي لا تتناسب مواردها (الصين وروسيا على وجه الخصوص) تماماً مع تصور ناي المفاهيمي. ويرى أن هذه الدول غير الغربية نجحت في استخدام قوتها الناعمة لتحقيق بعض أهداف سياساتها الخارجية.قوة نيجيريا الناعمةيركز الفصل الثالث على قدرة القوة الناعمة لنيجيريا، ويحدد مصادر قوتها الناعمة التي تنبع من فلسفة أومولوابي الأخلاقية، وكذلك صادراتها الثقافية في شكل نوليوود، أفروبيتس، الشتات، والأدب؛ وسياساتها الخاصة بتعزيز الديمقراطية وصنع السلام والمساعدات التي تجد تعبيراً عملياً في أداة السياسة الخارجية، والاعتراف بها كصانع سلام رئيس في القارة والتمثيل اللاحق في الهيئات الدولية مثل كونها عضواً غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ودورها القيادي في المنظمات الإقليمية ودون الإقليمية بما في ذلك الاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.يمكن القول إن القوة الناعمة الأكثر وضوحاً لنيجيريا هي نــوليوود، التي أحـــدثت ثورة فـــي العالم، وهو ما يتجلى في تفوقها ومدى انتشارها في إفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي والأمريكتين وبدرجة أقل في بعض أجزاء أوروبا. وهكذا حققت نوليوود نجاحات في تحدي الصور النمطية السلبية التي يرتبط بها النيجيريون بما في ذلك الفساد والإرهاب والخداع عبر الإنترنت والاتّجار بالبشر والمخدرات؛ وقد جعل العديد من المشاهير النيجيريين مشهورين في جميع أنحاء العالم. بالإضافة إلى قيمتها الترفيهية، فهي بمثابة أداة حقيقية للترويج لسياسة نيجيريا الخارجية الاقتصادية والثقافية ودبلوماسية المواطن.مارست أبوجا أيضاً القوة الناعمة في مجال تعزيز الديمقراطية في دول مثل سيراليون وساو تومي وبرينسيبي وغامبيا وتوغو وليبيريا. على الرغم من نجاح الدولة في هذه الحالات، إلا أنها تفتقر إلى السلطة الأخلاقية لتعزيز الديمقراطية في ظل عجز الديمقراطية المحلية. يُنظر إلى نيجيريا كصانعة سلام في القارة بسبب جهود صنع وحفظ السلام كما هو الحال في ليبيريا وسيراليون. ومع ذلك، فإن حربها ضد بوكو حرام قد تحدى قدرتها العسكرية وصورتها كصانع سلام في إفريقيا. تشمل المصادر الأخرى للقوة الناعمة لنيجيريا المساعدات والتعددية. على الرغم من مخزون القوة الناعمة هذا، لا تزال نيجيريا دولة قوة ناعمة محتملة، حيث توجد فجوة واسعة بين موارد قوتها الناعمة وتأثيرها الفعلي، كما أنها لم تمارس بشكل كبير قوتها الناعمة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، بسبب العديد من القيود الداخلية والخارجية، بما في ذلك الفساد السياسي وانعدام الأمن، ولا يزال يتعين عليها بذل المزيد في تقديم رواية مضادة للمشاعر المعادية للنيجيريين في جميع أنحاء العالم والتي أدت إلى سجن وترحيل وقتل النيجيريين.جنوب إفريقيا ومصر وكينيايعاين الفصل الرابع القوة الناعمة لجنوب إفريقيا، ويتناول فلسفة أوبونتو، والمخرجات الثقـــافية للمسلـــسلات والجــــامعات؛ القـــيــم الدستورية والديمقـــراطية الليبرالية وحقوق الإنسان؛ والسياسات الخارجية لصنع السلام وتعزيز الديمقراطية كمصادر للقوة الناعمة. يوضح الفصل أن جنوب إفريقيا الدولة الأكثر نجاحاً في القارة من حيث استخدام قوتها الناعمة لتحقيق النتائج المرجوة. ويتجلى ذلك في استضافة البلاد لأحداث دولية كبرى مثل كأس العالم لكرة القدم 2010، ودورها كممثل إفريقيا الوحيد في المؤسسات الدولية الرئيسية مثل مجموعة البريكس ومجموعة العشرين. تفتخر جنوب إفريقيا أيضاً بزعماء سياسيين يتمتعون بالكاريزما. فقد كان نيلسون مانديلا الداعم القوي للقوة الناعمة، وهو ما يتجلى في نفوذه العالمي والاعتراف به كرمز للتحرر والمصالحة.على الرغم من مصادر قوتها الناعمة المثيرة للإعجاب، فإن جنوب إفريقيا مقيدة على عدة مستويات بما في ذلك قيودها الاقتصادية المتمثلة في الفقر وعدم المساواة والبطالة والقيود السياسية، الفساد السياسي والاستيلاء على الدولة؛ والتناقضات مثل ازدواجية المعايير في حقوق الإنسان وكره الأجانب الدائم. لقد شوهت هذه التحديات صورتها في جميع أنحاء العالم، ما أدى إلى تراجع القوة الناعمة لديها.فلسفة هارامبييستكشف الفصل السادس القوة الناعمة لكينيا، والتي تنبع من فلسفة هارامبي التي اعتمدت في البلاد سنة 1963 وتتخذ من العمل والتضامن الجماعي محوراً لها، ويتناول الصادرات الثقافية بما في ذلك الأقمشة، ونجاح الرياضيين في الأحداث الرياضية الدولية، والحياة البرية والجذب السياحي للمناظر الطبيعية، والمهرجانات الثقافية؛ وسياستها الخارجية السلمية ودبلوماسيتها الاقتصادية.يشير الفصل إلى أن كينيا قد استفادت من موقف قوتها الناعمة كما يتضح من جاذبيتها السياحية في جميع أنحاء العالم. وقد أدى ذلك إلى تعزيز هدف السياسة الخارجية لنيروبي المتمثل في الدبلوماسية الاقتصادية، حيث تساهم المواقع السياحية في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. بالإضافة إلى ذلك، أنشأت مؤسسات وشركات متعددة الجنسيات مثل شبكة التلفزيون العالمية الصينية (CGTN) وتويوتا، مكاتبها الإقليمية ومصانع التجميع في كينيا. ومع ذلك، فإن الفساد السياسي، والنزاع العرقي، والصراع مع المحكمة الجنائية الدولية، والمستويات العالية من العنف الانتخابي الذي ميز المشهد السياسي للدولة الواقعة في شرق إفريقيا، قد أفسد قدرات قوتها الناعمة.
مصر.. قوة داعمة
يحلل الفصل الخامس ملف القوة الناعمة لمصر، ويلفت الانتباه إلى فلسفتها الفرعونية؛ صادراتها الثقافية المتمثلــة فـــي حضارتهــا القــديمة وصناعة الترفيه والأدب؛ وسياستها الخارجية القائمة على القومية العربية وصورتها كعامل استقرار في منطقة الشرق الأوسط.يعلق الكاتب: «لقد أسفرت القوة الناعمة لمصر عن عوائد إيجابية بما في ذلك شراكتها الاستراتيجية مع الغرب في جهود إدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وصورتها كأول دولة عربية في المنطقة. وتظل النسخة المصرية من القومية العربية هي الأهم في العالم العربي».