لماذا اتبعت طوكيو خلال الحرب الباردة استراتيجية الانعزالية الأمنية؟
اليابان نجحت في التغلب على عدم الثقة التاريخي بأنها قوة عسكرية
تجنبت الوقوع في شرك حروب أمريكا في عهد الصراع بين القطبين العالميين
مواقفها كانت رد فعل للضغط الأمريكي.. وليست استجابة لجيرانها
بعد الحرب حاولت أن تكون مهندساً رائداً في بناء مؤسسة أمنية إقليمية
شهدت اليابان تغيراً مفاجئاً في استراتيجيتها الأمنية في بداية التسعينات، فقد اضطلعت بدور بارز في الاتفاقات الأمنية متعددة الأطراف في منطقة شرق آسيا، بعد أن كانت معارضة لها. يسأل هذا الكتاب عن كيفية تجاوز اليابان الانعزالية، والسبب الذي جعلها تتراجع، في أعقاب الحرب الباردة، فجأة عن سنوات من المعارضة الصامدة للتعاون الأمني مع جيرانها؟ اقترحت اليابان التي بقيت لفترة طويلة معزولة ومعارضة للاتفاقات الأمنية متعددة الأطراف، أول منتدى أمني متعدد الأطراف لشرق آسيا في أوائل التسعينات؛ حيث ظهرت كزعيم إقليمي. يستكشف الكتاب (الصادر عن مطبعة جامعة ستانفورد في 2020 باللغة الإنجليزية ضمن 272 صفحة) كيفية تغلبت اليابان على الانعزالية وحدوث هذا التغيير المفاجئ، ويقدم تصحيحاً للتصور الخاطئ بأن استراتيجية اليابان الأمنية هي رد فعل للضغط الأمريكي وليس استجابة لجيرانها. يعتمد بول ميدفورد على الوثائق الرسمية الصادرة حديثاً والمقابلات المكثفة؛ للكشف عن ربع قرن من القيادة اليابانية في تعزيز التعاون الأمني الإقليمي. ويوضح أن لليابان علاقة أكثر دقة مع جيرانها، ولعبت دوراً قيادياً أكثر أهمية في تشكيل أمن شرق آسيا مما كان في السابق. يأتي هذا الكتاب استكمالاً لأعمال سابقة للمؤلف، لا سيما مقالة نشرت له في مجلة «باسيفيك ريفيو»، ركزت على اقتراح ناكاياما في يوليو/تموز 1991. جادل فيها بأن اليابان تبنت التعددية الأمنية الإقليمية كجزء من استراتيجية إعادة الطمأنينة الموجهة للدول الآسيوية التي غزتها اليابان قبل 1945. تأثر توقيت هذه المبادرة بظهور اليابان السابق كثاني أكبر اقتصاد في العالم (كان اقتصاداً أكبر من الصين وجميع اقتصادات شرق آسيا الأخرى مجتمعة)، ونهاية الحرب الباردة، وتزايد الاحتكاكات مع الولايات المتحدة، وقرار اليابان بأن تلعب دوراً أكبر في الأمن الدولي بعد نهاية الحرب الباردة (على سبيل المثال، إرسال قوات الدفاع الذاتي إلى الخارج؛ للمشاركة في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، بدءاً من الانتشار في كمبوديا في عام 1992، وهدف منع هذا الدور الموسع من إثارة التصورات الآسيوية لإحياء العدوانية اليابانية). يتسم الكتاب بأهمية كبيرة لثلاثة أسباب؛ أولاً، هذه هي الدراسة الأولى أو من بين الدراسات القليلة جداً عن نقطة التحول الحرجة في استراتيجية الأمن اليابانية؛ إذ تُظهر الدراسة الدوافع الكامنة وراء هذا التحول في السياسة، وتلقي الضوء على عملية صنع السياسة الخارجية لليابان، وتوضح الدور الذي لعبه رواد الأعمال السياسيون خارج اليابان وداخلها في عملية صنع السياسات. تتحدى هذه الدراسة الصورة النمطية للسياسة الأمنية اليابانية على أنها مجرد رد فعل، خاصة أمام الضغط الأمريكي. ثانياً، يقدم الكتاب فهماً أكثر شمولاً لدور اليابان الدولي وسياستها الخارجية، خاصة فيما يتعلق بجيرانها في شرق آسيا. يعلق الكاتب: «ركز المراقبون الغربيون الذين علقوا على علاقات اليابان مع دول شرق آسيا الأخرى بشكل كبير على الادعاءات بأن اليابان تسيء التعامل مع تاريخها في العدوان في زمن الحرب (على سبيل المثال، من خلال زيارات رؤساء الوزراء اليابانيين إلى ضريح ياسوكوني، ومن خلال التبييض المفترض لتاريخها في الكتب المدرسية)، وفي الأغلب وصفت سياسة اليابان الإقليمية بأنها تتطلع إلى الداخل وغير مكترثة لتصورات ومخاوف جيرانها». تختبر هذه الدراسة على نطاق واسع الحجة القائلة إن تخفيف الشكوك المتجذرة تاريخياً في اليابان من خلال التطمين العسكري كان أحد هدفين رئيسيين وراء تعزيز طوكيو للتعددية الأمنية في أوائل التسعينات، إلى جانب إبقاء الولايات المتحدة منخرطة عسكرياً في الأمن الإقليمي.أخيراً، جاء هذا الكتاب في الوقت المناسب؛ لأن الاهتمام بتعددية الأمن الإقليمي في شرق آسيا نادراً ما تضاءل منذ إنشاء المنتدى الإقليمي الأول، أول تجربة لشرق آسيا مع تعددية الأمن الإقليمي، في عام 1993. وشهدت هذه الفترة أيضاً إنشاء لقاءات وشراكات وتحالفات أخرى.
اقتراح ناكاياما يعالج الكتاب ثلاثة ألغاز شاملة حول دور اليابان في أمن شرق آسيا. أولاً، لماذا، خلال الحرب الباردة، اتبعت اليابان استراتيجية الانعزالية الأمنية الإقليمية، ونبذ كل تعاون مع دول أخرى (باستثناء الولايات المتحدة) ورفض التعددية الأمنية الإقليمية؟ ثانياً، لماذا، مع اقتراب نهاية الحرب الباردة، تغيرت اليابان فجأة سنوات من المعارضة الصامدة لتعددية الأمن الإقليمي، واقترحت عقد أول منتدى أمني متعدد الأطراف على مستوى المنطقة في شرق آسيا؟ ثالثاً، لماذا دافعت اليابان باستمرار عن تعددية الأمن الإقليمي منذ عام 1991؟يقول الكاتب في مقدمة هذا العمل: «في اندفاع مفاجئ وغير متوقع، لعبت اليابان بدءاً من اقتراح ناكاياما في يوليو/ تموز 1991 إلى 1992 و1993، دوراً قيادياً في العديد من المبادرات من قبل رئيس الوزراء آنذاك ميازاوا كيتشي، في عملية توجت بإنشاء المنتدى الإقليمي الأول لرابطة أمم جنوب شرق آسيا؛ وهو أول منتدى أمني متعدد الأطراف على مستوى المنطقة في شرق آسيا، في عام 1993. ومهد المنتدى الإقليمي، بدوره، الطريق لإنشاء مؤسسات أمنية متعددة الأطراف إضافية في السنوات اللاحقة، والمؤسسات التي لعبت فيها القيادة اليابانية دوراً حاسماً في كثير من الأحيان. يُنظر إلى اقتراح ناكاياما لعام 1991 (الذي سمي على اسم وزير الخارجية آنذاك ناكاياما تارو) على نطاق واسع من قبل العديد من نخب السياسة الخارجية اليابانية على أنه أول مبادرة أمنية إقليمية لليابان بعد الحرب. هذه المبادرة ومبادرات ميازاوا اللاحقة في 1992-1993 لإنشاء حوار أمني على مستوى المنطقة مثلت بالفعل أولى المبادرات الأمنية الدولية المستقلة لليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وأول محاولة للبلاد لتكون مهندساً رائداً في بناء مؤسسة أمنية إقليمية. كما شكلت هذه المبادرات سياسة اليابان في حقبة الحرب الباردة؛ المتمثلة في العزلة الأمنية الإقليمية، ودخلت حقبة جديدة من المشاركة الأمنية الثنائية والمتعددة الأطراف المتزايدة مع مجموعة متنامية من شركاء الأمن في شرق آسيا».ويضيف: «تمثل قيادة اليابان في تعزيز التعددية الأمنية الإقليمية نجاحاً مهماً؛ لكنه غير معترف به كثيراً في السياسة الخارجية اليابانية؛ وذلك لأن اقتراح ناكاياما في عام 1991 مهد الطريق لإنشاء أول المؤسسات الأمنية الإقليمية متعددة الأطراف في شرق آسيا، بدءاً من المنتدى الإقليمي الأول في عام 1993. وفي هذا السياق، أثبت دور اليابان في تجاوز معارضة الولايات المتحدة للتعددية الأمنية الإقليمية أنه محوري. وفقاً لكريستوفر هيوز: إن اليابان، مع اندفاعها المفاجئ للنشاط الدبلوماسي، قد اضطلعت بدور قيادي في إقامة حوار أمني متعدد الأطراف في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وقد تجلى ذلك من خلال استباقها للسياسة الخارجية الأمريكية ربما للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية». وهكذا يمثل اقتراح ناكاياما خروجاً جريئاً عن سياسة اليابان السابقة تجاه الأمن الإقليمي، والتي كانت انعزالية ورد فعل لمطالب الولايات المتحدة، وكانت المرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي تطلق فيها اليابان مبادرة أمنية إقليمية، ناهيك عن مواجهة معارضة أمريكية واضحة. كان دور طوكيو السابق مبنياً على الاعتماد الكلي تقريباً على تحالف الولايات المتحدة للأمن، وعلى الوعد المتجسد في عقيدة فوكودا، بأن اليابان لن تصبح قوة عسكرية مرة أخرى، وهو وعد يعني الامتناع الثابت عن أي تعاون عسكري مع الدول الأخرى في شرق آسيا. لقد رفضت اليابان حتى الحديث عن الأمن الإقليمي مع جيرانها. يرى الكاتب أن اقتراح ناكاياما أدى إلى تغييرين مهمين في استراتيجية الأمن الإقليمي لليابان. «أولاً، على الرغم من أن اليابان استمرت في إعادة تأكيد تعهد مبدأ فوكودا لعام 1977 بألا تصبح قوة عسكرية مرة أخرى، أعادت طوكيو تعريف هذا الوعد للسماح لها بمناقشة الأمن الإقليمي علناً مع جيرانها، على الصعيدين الثنائي والمتعدد الأطراف، والنظر في التعاون الأمني غير القتالي ما وراء الحوار من خلال الهياكل الإقليمية متعددة الأطراف. وهكذا كان اقتراح ناكاياما نهاية لسياسة الانعزالية الأمنية في حقبة الحرب الباردة لليابان تجاه جيرانها في شرق آسيا. ثانياً، مهد اقتراح ناكاياما الطريق لليابان لمتابعة القيادة النشطة في تعزيز التعددية الأمنية الإقليمية على مدى ربع القرن التالي، وهو نشاط يتتبعه هذا الكتاب، وبالتالي يكشف عن التحول من دولة انعزالية تفاعلية وأمنية إلى دولة تلعب دور زعيم إقليمي نشط».
التعددية الأمنية في شرق آسيا مقارنة مع أوروبا وحتى المناطق الأخرى، كانت منطقة شرق آسيا تاريخياً تدخل في علاقات ثنائية حصرية على الجانب الدبلوماسي. حتى خلال الحرب الباردة، انتهى الأمر بمعظم العلاقات الأمنية الإقليمية إلى أن تكون ثنائية، وكانت على شكل هيكل منبثق عن المعاهدات الأمنية مع الولايات المتحدة. كان هناك القليل جداً من التطور لحافة العجلة متعددة الأطراف (أو حتى ثلاثية الأطراف). عندما اقترحت الولايات المتحدة في البداية «معاهدة المحيط الهادئ» متعددة الأطراف على أساس نموذج الناتو في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، رفضت اليابان ودول أخرى الفكرة. بعد ذلك، أصبحت الولايات المتحدة تفضل هيكل المحاور، وتعارض جميع المقترحات الخاصة بتعددية الأمن الإقليمي، وخاصة التعددية غير المتشابهة في التفكير. خلال الحرب الباردة، تجنبت اليابان إلى حد كبير الاقتراحات الثلاثية أو متعددة الأطراف التي تربطها بحلفاء الولايات المتحدة، خوفاً من الوقوع في شرك حروب الولايات المتحدة. وبخلاف ذلك، اتبعت اليابان سياسة الولايات المتحدة من خلال رفض مقترحات للتعاون الأمني متعدد الأطراف باعتباره يعزز مصداقية الدعوات السوفييتية لآلية أمن جماعي إقليمي في شرق آسيا ومراقبة الأسلحة البحرية، وهي مقترحات اعتبرت غير مواتية لليابان والولايات المتحدة. كانت اليابان تخشى أيضاً أن تطوير آلية أمنية متعددة الأطراف تشبه عملية هلسنكي لعام 1975 قد يكون، كما كان الحال مع مجلس الأمن والتعاون في أوروبا الذي أعيد تسميته في أوائل التسعينات باسم منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وربما ذلك يستلزم تصديقاً ضمنياً على الوضع الإقليمي الراهن، وبالتالي تعزيز المطالبات السوفييتية بالأقاليم الشمالية المتنازع عليها. يوضح الكاتب سبب تحوّل اليابان من كونها سلبية تجاه التعددية الأمنية الإقليمية إلى أن تصبح مهندسها الرئيسي؛ إذ يرى أن في هذه العملية ما يدل على استقلال دبلوماسي غير مرئي حتى الآن، وتأثير ذلك على الأمن الإقليمي وعلاقة اليابان مع جيرانها.ويرى أن اليابان استخدمت التعددية الأمنية الإقليمية؛ لتحقيق هدفين آخرين. أولاً، استخدمت طوكيو التعددية الأمنية الإقليمية؛ للمساعدة في إدارة معضلة تحالفها الأمني مع واشنطن، وتحديداً لتخفيف المخاوف الجديدة بشأن التخلي الأمريكي الذي ظهر بعد الحرب الباردة، فضلاً عن خوفها على المدى الطويل من الوقوع في فخ التحالف مع قوة عظمى. ثانياً، سعت اليابان إلى تطوير مرافق أمنية جديدة لا يوفرها التحالف الأمريكي الياباني بشكل كافٍ، والتي لم تستطع اليابان توفيرها لنفسها، خاصة في المجالات الأمنية غير التقليدية مثل مكافحة القرصنة ومكافحة الإرهاب والإغاثة الإنسانية والكوارث. بنية الكتاببعد المقدمة، يتكون الكتاب من تسعة فصول. يعرض الفصل الأول الإطار التفسيري لفهم الأسباب الكامنة وراء ظهور تعددية الأمن الإقليمي في شرق آسيا من منظور مقارن، ولفهم تحول اليابان الحاد من معارضة تعددية الأمن الإقليمي إلى الاضطلاع بدور ريادي. يحلل الفصل الثاني ظهور العزلة الأمنية في استراتيجية الأمن الإقليمي لليابان في بداية الحرب الباردة في ضوء عدم ثقة جيرانها، وبلغت ذروتها في مبدأ فوكودا لعام 1977 الذي أضفى الطابع الرسمي على هذه الاستراتيجية الانعزالية.يتتبع الفصل الثالث إعادة تفكير اليابان في استراتيجيتها الخاصة بالعزلة الأمنية الإقليمية ومعارضتها للتعاون الأمني متعدد الأطراف، فضلاً عن الخلفية الفكرية لاقتراح ناكاياما. يحلل الفصل الرابع عملية تقديم اقتراح ناكاياما، بما في ذلك الدور الحاسم الذي لعبه مثقفو أمن «الآسيان». يعاين الخامس تسليم اقتراح ناكاياما نفسه ومحتوياته، وردود الفعل على الاقتراح، وجهود اليابان للدفاع عن المبادرة وتعزيزها. يتتبع الفصل السادس مبادرات المتابعة لاقتراح ناكاياما الذي قدمه رئيس الوزراء ميازاوا، إضافة إلى عملية التفاوض مع الآسيان وشركاء حوار الآسيان الآخرين التي أدت إلى قرار إنشاء المنتدى الإقليمي الأول متعدد الأطراف في شرق آسيا، في عام 1993. يحلل الفصلان السابع والثامن سلوك اليابان داخل المنتدى الإقليمي الأول، وقيادتها المستمرة في تعزيز مؤسسات أمنية إقليمية جديدة متعددة الأطراف. يستخلص الفصل الأخير استنتاجات تتعلق باقتراح ناكاياما، حول صنع السياسة الخارجية اليابانية بشكل عام؛ نجاح اليابان في التغلب على عدم الثقة التاريخي بأنها قوة عسكرية؛ المسار المستقبلي لاستراتيجية الأمن الإقليمي لليابان، بما في ذلك مستقبل القيادة اليابانية في تعددية الأمن الإقليمي؛ والآثار المترتبة على التحالف بين الولايات المتحدة واليابان.