لا شيء يقف أمام المرء عندما يأذن له الله بتغيير حياته برُمَّتِهَا، فمن خلال موقفٍ بسيطٍ واحدٍ تعتقد أنه جاءك صدفةَ؛ قد يلوح لك مستقبلٌ مشرقٌ لم يكُن ضمن حدود تطلُّعاتِك، وهذا ما حدث مع أبي الفرج اليبرودي الذي تغيَّرت حياته بأسِها من جرَّاء موقفٍ وحيد؛ ليصبح من بعد ذلك أحد أشهر الأطباء في عصره.
أبو الفرج اليبرودي – التعريف به:-
اسمه أبو الفرج جورجس بن يوحنا بن سهل بن إبراهيم اليبرودي، ولد في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، في يبرود التي تقع في محافظة دمشق، ويعود نسبه اليبرودي إليها، وهي ضيعةً كبيرة تقع بالقرب من صيدنايا وقد عمل غالبية أهاليها النصارى آنذاك في الفلاحة، وهو ذو أصلٍ سرياني ومذهبٍ يعقوبي، كان يعمل أولاً في جمع الشِّيح وبيعه، ولكنه تعرض لموقفٍ أظهر فيه ذكاءه وفطنته ليتجه بعد ذلك لتعلم الطب ويصبح طبيباً مشهوراً.
ما هي القصة التي غيرت حياة اليبرودي؟
نشأ أبو الفرج في أسرةٍ فقيرة وكان يعمل بجمع الشيح من جبال يبرود ليحمله بعد ذلك على دابته نحو دمشق ويبيعه كوقودٍ للمنازل والأفران، وفي أحد الأيام عندما كان يعبر باب توما وهو أحد بواب مدينة دمشق القديمة، ووجد بجانبه شيخاً من المطببين يقوم بفصد رجلٍ، فوقف أبو الفرج ينظر نحوه وسأل الشيخ عن فوائد ما يقوم به وعن هذا العلاج، ولكن الدم أخذ ينزف بشدة وبغزارة من شريان قدم الرجل، ولم يستطع المتطبب إيقاف النزيف، فخطرت على بال اليبرودي فكرةً مذهلةً وطلب من المتطبب أن يفتح شرياناً آخر ليخفف النزيف عن الشريان الأول، متبعاً طريقة والده في إيقاف فيضان ساقية الماء حيث يقوم بفتح مخرج آخر ليخفف عن المخرج الأول، ففعل المتطبب ذلك ونجح الأمر بالفعل واستطاع أن يوقف النزيف، وهكذا نظر الشيخ نحو بإعجابٍ ونصحه بتعلم الطب وممارسته، فما كان من اليبرودي إلا أن يعمل على نصيحته، واتجه نحو هذا العلم مع تردده بزيارة المتطبب الذي أخذ يعلمه عن المداواة.
وليزيد من علمه في الطب؛ توجه نحو دمشق تاركاً يبرود، ومن هناك قرر السفر إلى بغداد بعد أن حدَّثه الشيخ عن الكاتب والفيلسوف (أبي الفرج ابن الطيب) الذي لديه علم واسع في الطب، وكانت والدة اليبرودي قد أعطته سواراً ذهبياً لينفق ثمنه في رحلته نحو بغداد، وقد كان نعم التلميذ الذي أبحر في علم الطب وغيرها من العلوم كالمنطق أيضاً، لينهل من بحر العلوم ما يشاء ويعود إلى دمشق ليستقر بها ويعمل بالنسخ والتأليف ويحصل على الشهرة الذائعة ليطوف صيته في البلاد الأخرى أيضاً.
أهم إنجازات اليبرودي:-
- تأليف الكتب الطبية ككتب جالينوس وشرحها وجوامعها.
- كان أشهر الأطباء في مصر والعراق كالطبيب المشهور ابن رضوان يستشيرونه في بعض المسائل وينتفعون بعلمه، وهو كان يستشيرهم كذلك وينتفع بعلمهم أيضاً.
مواقف من حياته:-
- قال الفقيه المالكي المعروف أبو بكر الطرطوشي في كتابه “سراج الملوك”: حدثني بعض الشاميين أن رجلاً خبازاً بينما هو يخبز في تنوره بمدينة دمشق إذ عبر عليه رجل يبيع المشمش فاشترى منه وجعل يأكله بالخبز الحار فلما فرغ سقط مغشياً عليه فنظروا فإذا هو ميت فجعلوا يتربصون به ويحملون له الأطباء فيلتمسون دلائله ومواضع الحياة منه فلم يجدوا فقضوا بموته فغسل وكفن وصلي عليه وخرجوا به إلى الجبانة فبينما هم في الطريق على باب البلد فاستقبلهم رجل طبيب يقال له: اليبرودي وكان طبيباً ماهراً حاذقاً عارفاً بالطب فسمع الناس يلهجون بقضيته فاستخبرهم عن ذلك فقصوا عليه قصته فقال حطوه حتى أراه فحطوه فجعل يقلبه وينظر في أمارات الحياة التي يعرفها ثم فتح فمه وسقاه شيئاً أو قال حقنه فاندفع ما هنالك فسيل فإذا الرجل قد فتح عينيه وتكلم وعاد كما كان إلى حانوته.
- أثناء مروره بسوق جيرون الدمشقي؛ شاهد اليبرودي شخصاً يراهن النَّاس على أن يأكل أرطالاً من لحم فرس مسلوق، وقد فعل ذلك لا بل تناول أكثر مما تحتمله قواه، ثم أقدم على شرب فقاع كثير وماء بثلج، الأمر الذي تسبب باضطراب أحواله ليغمى عليه لدرجة أن الناس ظنوا بأنه ميت، فنُقِلَ لمنزله وتبعه أبو الفرج وهو يرى حالة الحزن التي تخيِّم على أهله ومحبيه، فنقله اليبرودي إلى الحمام وفتح فمه عنوة بأداة ثم سكب في حلقه ماءً مغلياً، وأسقاه أدوية مقيئة وتلطَّف في علاجه، ليستعيد الرجل عافيته وسط ذهول النَّاس.
أبو الفرج اليبرودي – نهاية مسيرة:-
توفي اليبرودي في مدينة دمشق عام 427 هـ، وقد تم دفنه بالقرب من باب توما في دمشق في كنيسة اليعاقبة، وظهَرَ في تركته ثلاثمائة مقطع رومي مجوم لباب واحد وخمسمائة قطعة فضة ألطفها ثلاثمائة درهم.