توطئة:-
محمد آل محمد الإدريسي القرطبي الحسني السبتي (1099-1166م)، المعروف بإسم «الشريف الإدريسي»، ولد في مدينة سبتة في المغرب.
و الإدريسي يعتبر أعظم جغرافي وراسم للخرائط خلال القرون الوسطى، كما قدم أيضا مساهمات أصيلة في علم النباتات الطبية، وقد تجلت أكبر إنجازاته في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، الذي ألّفهُ وهو في صقلية.
خارطة محمد الإدريسي الشهيرة مركزها مكة المكرمة:-
العديد من خرائط العالم المتوافرة خلال العصور الوسطى كانت لا تتسم بالعملية أو العلمية، فضلاً عن كونها اكتسبت الطابع الخيالي، فقد عرضت آنذاك العديد من الخرائط الأوروبية، كلا من أوروبا، وآسيا، وإفريقيا بحجم ومساحة واحدة، كما وضعت مدينة القدس الشريف في قلبها، هذا وقد انطوت تلك الخرائط على مخلوقات أسطورية تعيش في مناطق غير محددة.
وضع الإدريسي حداً لذلك العمل غير المهني، وذلك من خلال العمل الفذ الذي أنجزه في صقلية.
الملك روجر الثاني والإدريسي:-
سافر الإدريسي من الأندلس إلى صقلية، بهدف العمل مع الملك النورماني روجر الثاني Ruggero المسيحي ( 1095- 1154م)، وذلك في العام 1138م، حيث كلفه الملك بتأليف كتاب عن الجغرافيا، يحتوي جميع البيانات المتاحة عن موقع ومناخ المراكز السكانية الرئيسية في العالم القديم آنذاك.
وكان الملك روجر متحمساً لهذا المشروع، فقام بتشكيل مجموعة تتألف من اثنا عشر عالماً جغرافيا، من بينهم عشرة من المسلمين، كما وضع نفسه رئيساً لهذا المشروع، واختار الإدريسي نائباً له.
توليفة المجموعة تظهر مدى تفوق المسلمين على نظرائهم في أوروبا في علوم الجغرافيا، وذلك بسبب تراكم أعمالهم العلمية في هذا المضمار.
كما استفاد المسلمون من عدم انقسام بلادهم مقارنة بأوروبا،
الأمر الذي مكنهم من تأدية عملهم على أتم وجه ممكن، حيث ساهمت كتبهم التي وصفت
الطرق والمدن والمعلومات اللازمة للمسافر؛ في إزدهار تجارة بلادهم وأقاليمهم، وهو
أمر لم يتيسر لأوروبا المتشظية.
ومن هنا؛ أوفد روجر الوكلاء والرسامين لجمع المواد الجغرافية من سائر الأمصار والأقاليم الإسلامية، وهي عملية استمرت لنحو عقد ونصف من الزمن.
وفي العام 1154م؛ أي قبل أسابيع قليلة من وفاة الملك، أنجز الإدريسي كتابه الشهير، موظِفاً سائر المعلومات والبيانات التي قدمتها مجموعة العمل بالمشروع، كما استمد الكثير من المعارف من الجغرافي الإغريقي الشهير بطليموس ، والذي اعتمد منهاج التقسيم القائم على المناطق المناخية.
كتاب محمد الإدريسي نزهة المشتاق في اختراق الآفاق:-
أنهى أبو عبد الله الإدريسي كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق المكتوب باللغتين العربية واللاتينية مصحوباً بالخرائط، حيث قدم خارطة للعالم على شكل كروي. حُسبت المساحة المحيطة بـ 37.000 كيلومتر مربع – أي بهامش خطأ يقل عن 10% – وألمح إلى مفهوم الجاذبية الذي قدمه العالم الإنجليزي اسحق نيوتن (1642-1727 م) بعد قرون طويلة.
تمتع الكتاب بالشمولية والعمق، ما أهَّلهُ ليحتل مكانة كبيرة جعلته المرجع الأول لتوثيق وتأريخ أعمال الجغرافيين والرحَّالة المسلمين الذين تبعوه، وكثيرون اعتبروا الكتاب بأنه أفضل رسالة جغرافية في عالم العصور الوسطى.
وقد اعتبر هذا المؤلَّف بمثابة تجلٍ لاحتكاك الحضارتين الإسلامية والمسيحية، ليجعلوا من صاحبه مؤسساً للمدرسة العربية النورمانية.
التقليد الكلاسيكي:-
وفقًا للتقليد اليوناني الكلاسيكي؛ فقد قام الشريف الإدريسي بتقسيم العالم إلى سبعة مناطق مناخية كبرى وكل منها مقسم إلى عشرة أقسام.
واحتوى عمله على خرائط توضح القارة الأوروبية الآسيوية (أوراسيا) بالكامل، ولكنه أدرج فقط الجزء الشمالي للقارة الأفريقية، أي أنه رسم منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط ومنطقة البلقان، ليُنتج أخيراً 70 خريطة مقطعية طولية، يمكن دمجها معًا لصُنع خارطة مستطيلة للعالم المعروف آنذاك.
وقد استكمل ذلك العمل بخارطة دائرية أصغر حجمًا، حيث رسم الجنوب من الأعلى، وقد أقدم على تصوير شبه الجزيرة العربية في الوسط، باعتبار مركزية موقع مكة المكرمة، وبقيت خريطته للعالم الأدق من نوعها طيلة ثلاثة قرون لاحقة.
دور محمد الإدريسي وكتبه في تطوير علم الجغرافيا عند الغرب:-
أصبح كتاب الإدريسي معروفًا لدى الغرب بمؤلف كتاب روجار (The Tabula Rogeriana)، ووضِعت خريطة العالم الدائرية التي أنجزها على لوحٍ فضي، وزنه 400 كلغ.
لكن يبدو أن الكتاب والخريطة الفضية لحق بهما الضرر أثناء الاضطرابات المدنية في أوروبا بعد ذلك بفترة وجيزة، أي في العام 1160 م، وهكذا فإن فهمنا اليوم لكتاب الإدريسي الأصلي مبني على نسخة مختصرة من كتابه الى ابن روجر وليام الثاني، وفي الوقت الراهن؛ يتوافر نسخ منها باسم (Little Idrisi) في عدد من المكتبات الأوروبية .
وبهذا؛ تعد خريطة الإدريسي من بين أهم الإنجازات الحضارية
الإسلامية، وبالنسبة له شخصياً، فقد حظي بشهرة في أوروبا أكثر من نظرائه الجغرافيين
المسلمين، ذلك لأن السفن والملاحين من المحيط الأطلسي والبحر المتوسط كثيرو
التردد على جزيرة صقلية، الواقعة بمنتصف البحر المتوسط.
لقد كانَ الجُغرافي العربي الإدريسي هو الذي مثَّلَ في قصر ملك صِقِلية دور المُعلِّم للغرب، وليس بطليموس كما يدَّعِي بعضهم، وبقيت خريطةَ الإدريسي ثلاثة قُرون تسدُّ الفَرَاغَ في الغَرْب، وتخدِم مُحاولاتهم الخاصَّة في هذا المَجَال كنموذج يهتدي به.
— زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب.
تُرجمت العديد من كتب الإدريسي إلى اللاتينية، فقد نُشرت
ترجمة أحد كتبه عام 1619م في مدينة روما، وتعتبر هذه الترجمة نسخة مختصرة، لكن
المفاجئء فيها أن صاحب الترجمة تجاهل تقديم العرفان والفضل للإدريسي في عمله
الجغرافي السابق لمن تبعه في هذا العلم.
من المثير للاهتمام معرفة أن أوروبا أستفادت لقرون عدة من خريطة محمد الإدريسي للعالم المترجمة في روما، حيث استند إليها كريستوفر كولومبوس في مغامراته ورحلاته الاستكشافية البحرية الشهيرة.
جغرافية بلاد الشام:-
تناول الإدريسي بالوصف الدقيق جغرافية مدن وتضاريس بلاد الشام وطبيعة أهلها، وقد صادف زيارته لها؛ خضوع بعض أجزائها للاحتلال الصليبي، لذا؛ فهو يعتبر من بين أهم المؤرخين الذين تناولوا تلك الحقبة المهمة والحرجة، وفيما يلي مجموعة من الأمثلة التي تناولها:
- صيداء: فهي على ساحل البحر الملح، وعليها سور حجارة، وهي تُنسَب إلى إمراة كانت في الجاهلية، وهي مدينة كبيرة عامرة الأسواق، رخيصة الأسعار، محدِّقة البساتين والأشجار، غزيرة الماء، واسعة الكور، لها أربعة أقاليم، وهي متصلة بجبل لبنان..
- صور: مدينة حسنة على ضفة البحر وبها للمراكب إرساءً وإقلاعاً، وهو بلد حصين قديم والبحر قد أحاط به من ثلاثة أركانه، ولهذه المدينة ربض كبير، ويُعمل بها جيد الزُّجاج والفخَّار، وقد يُعمل بها من الثياب البيض المحمولة إلى كل الآفاق كل شيء حسن عالي الصفة والصنعة ثمين القيمة وقليلاً ما كان يُصنع مثله في سائر البلاد المحيطة بها هواءً وماءً.
- حيفا: تحت طرف الكرمل وهو طرف خارج في البحر وبه مرسى حسن لإرساء الأساطيل وغيرها، ومدينة حيفا هي فرضة لطبرية، وبينهما ثلاثة مراحل خفاف.
- عكَّا: وهي من المدن الصليبية الرئيسية على السَّاحل، مدينة كبيرة ذات أرجاء متَّسِعة، وضياعها كثيرة، ولها ميناء مأمون من ناحية رسو السُّفُن.
مؤلفات الإدريسي:-
وفرة وتنوع مؤلفات الإدريسي في عدد من العلوم؛ تعكس ما حازه من عقلية موسوعية، وفيما يلي أبرز الكُتُب التي ألَّفها والتي لا تتوافر جميعها في الوقت الراهن، وذلك نظراً لفقدان بعضها.
- نزهة المشتاق في ذكر الأقطار والبلدان والجُزُر والمدائن والآفاق (الكتاب الروجاري) وهو الأكثر شهرة بين سائر مؤلفاته، وقد أمدَّ الكتاب بسبعين خريطة، حيث اعتبرت خرائطه من بين أدق الأعمال التي طرحها الجغرافيون المسلمون في العصر الوسيط، إذ بدا أنها حقيقية تمنح الناظر لها تصوراً واضحاً عن المواضع التي تصوِّرها.
- روض الأنس.
- نزهة النَّفس.
- أنس المهَج وروض الفرج.
- جني الأزهار من الروض المعطار في عجائب الأقطار.
- الجامع لصفات أشتات النبات.
فضلاً عن كونه جغرافي وفلكي وفيلسوف؛ فقد تميز الإدريسي في كتاباته في علم النبات، وقد تجلَّى ذلك في كتبه الثلاثة (الأدوية المفردة، والجامع لصفات أشتات النبات، وكتاب الصيدلة).
أما كتابه “الجامع لصفات النبات وضروب أنواع المفردات من الأشجار والثِّمار، والأصول، والأزهار، وأعضاء الحيوان، والمعادن، والأطيار”؛ فقد ذكر فيه جميع ما تمكَّن من حصره من عالميّ النبات بالدرجة الأولى والحيوان بدرجة أقل، لا بل وأدرج المفردات بأسمائها العربية، والفارسية، واليونانية، واللاتينية، والسريانية، والعبرانية، والهندية، والكردية، والتركية، والأفرنجية (الإسبانية)، والبربرية، وأحياناً القبطية.
وقد تناول بالذِّكر منافع كل مُفرد، وما يُستفاد منه وما يُستخرج من صُمُوغ وزيوت ويُتَّخَذُ من أصول وقشور، وفوائدها في العلاج والتَّداوي.
وقد اعتمد الإدريسي في كتابه على ما ورد في مؤلَّفات أبي جريج، والكندي، وديسقوريدس، وابن مسارجويه، وابن جلجل، وزهر بن زهر، وأبي بكر بن وحشية، وحنين بن إسحاق، وابن سرافيون، وسواهم الكثير.
وفاة الإدريسي:-
يعتقد أن وفاة الإدريسي حصلت في العام 516 هجري/1122 ميلادي، وذلك بحسب ما أورده الحسن الوزَّان (944 هجري/1537 ميلادي)، بيد أن البارون دي سلام يرى أن التاريخ المذكور ليس منطقياً وذلك نظراً لأن تاريخ ولادة الجغرافي الكبير كانت في (499 هجري/1100 ميلادي)، لذا؛ فمن غير المنطقي أن يكون الإدريسي قد قام بكل هذه الرِّحلات والأسفار البعيدة عن موطنه خلال تلك الفترة الزمنية القصيرة، مرجِّحاً وفاته في سنة (560 هجرية/ 1164 ميلادية).
المصادر:
توطئة:-
محمد آل محمد الإدريسي القرطبي الحسني السبتي (1099-1166م)، المعروف بإسم «الشريف الإدريسي»، ولد في مدينة سبتة في المغرب.
و الإدريسي يعتبر أعظم جغرافي وراسم للخرائط خلال القرون الوسطى، كما قدم أيضا مساهمات أصيلة في علم النباتات الطبية، وقد تجلت أكبر إنجازاته في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، الذي ألّفهُ وهو في صقلية.
خارطة محمد الإدريسي الشهيرة مركزها مكة المكرمة:-
العديد من خرائط العالم المتوافرة خلال العصور الوسطى كانت لا تتسم بالعملية أو العلمية، فضلاً عن كونها اكتسبت الطابع الخيالي، فقد عرضت آنذاك العديد من الخرائط الأوروبية، كلا من أوروبا، وآسيا، وإفريقيا بحجم ومساحة واحدة، كما وضعت مدينة القدس الشريف في قلبها، هذا وقد انطوت تلك الخرائط على مخلوقات أسطورية تعيش في مناطق غير محددة.
وضع الإدريسي حداً لذلك العمل غير المهني، وذلك من خلال العمل الفذ الذي أنجزه في صقلية.
الملك روجر الثاني والإدريسي:-
سافر الإدريسي من الأندلس إلى صقلية، بهدف العمل مع الملك النورماني روجر الثاني Ruggero المسيحي ( 1095- 1154م)، وذلك في العام 1138م، حيث كلفه الملك بتأليف كتاب عن الجغرافيا، يحتوي جميع البيانات المتاحة عن موقع ومناخ المراكز السكانية الرئيسية في العالم القديم آنذاك.
وكان الملك روجر متحمساً لهذا المشروع، فقام بتشكيل مجموعة تتألف من اثنا عشر عالماً جغرافيا، من بينهم عشرة من المسلمين، كما وضع نفسه رئيساً لهذا المشروع، واختار الإدريسي نائباً له.
توليفة المجموعة تظهر مدى تفوق المسلمين على نظرائهم في أوروبا في علوم الجغرافيا، وذلك بسبب تراكم أعمالهم العلمية في هذا المضمار.
كما استفاد المسلمون من عدم انقسام بلادهم مقارنة بأوروبا،
الأمر الذي مكنهم من تأدية عملهم على أتم وجه ممكن، حيث ساهمت كتبهم التي وصفت
الطرق والمدن والمعلومات اللازمة للمسافر؛ في إزدهار تجارة بلادهم وأقاليمهم، وهو
أمر لم يتيسر لأوروبا المتشظية.
ومن هنا؛ أوفد روجر الوكلاء والرسامين لجمع المواد الجغرافية من سائر الأمصار والأقاليم الإسلامية، وهي عملية استمرت لنحو عقد ونصف من الزمن.
وفي العام 1154م؛ أي قبل أسابيع قليلة من وفاة الملك، أنجز الإدريسي كتابه الشهير، موظِفاً سائر المعلومات والبيانات التي قدمتها مجموعة العمل بالمشروع، كما استمد الكثير من المعارف من الجغرافي الإغريقي الشهير بطليموس ، والذي اعتمد منهاج التقسيم القائم على المناطق المناخية.
كتاب محمد الإدريسي نزهة المشتاق في اختراق الآفاق:-
أنهى أبو عبد الله الإدريسي كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق المكتوب باللغتين العربية واللاتينية مصحوباً بالخرائط، حيث قدم خارطة للعالم على شكل كروي. حُسبت المساحة المحيطة بـ 37.000 كيلومتر مربع – أي بهامش خطأ يقل عن 10% – وألمح إلى مفهوم الجاذبية الذي قدمه العالم الإنجليزي اسحق نيوتن (1642-1727 م) بعد قرون طويلة.
تمتع الكتاب بالشمولية والعمق، ما أهَّلهُ ليحتل مكانة كبيرة جعلته المرجع الأول لتوثيق وتأريخ أعمال الجغرافيين والرحَّالة المسلمين الذين تبعوه، وكثيرون اعتبروا الكتاب بأنه أفضل رسالة جغرافية في عالم العصور الوسطى.
وقد اعتبر هذا المؤلَّف بمثابة تجلٍ لاحتكاك الحضارتين الإسلامية والمسيحية، ليجعلوا من صاحبه مؤسساً للمدرسة العربية النورمانية.
التقليد الكلاسيكي:-
وفقًا للتقليد اليوناني الكلاسيكي؛ فقد قام الشريف الإدريسي بتقسيم العالم إلى سبعة مناطق مناخية كبرى وكل منها مقسم إلى عشرة أقسام.
واحتوى عمله على خرائط توضح القارة الأوروبية الآسيوية (أوراسيا) بالكامل، ولكنه أدرج فقط الجزء الشمالي للقارة الأفريقية، أي أنه رسم منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط ومنطقة البلقان، ليُنتج أخيراً 70 خريطة مقطعية طولية، يمكن دمجها معًا لصُنع خارطة مستطيلة للعالم المعروف آنذاك.
وقد استكمل ذلك العمل بخارطة دائرية أصغر حجمًا، حيث رسم الجنوب من الأعلى، وقد أقدم على تصوير شبه الجزيرة العربية في الوسط، باعتبار مركزية موقع مكة المكرمة، وبقيت خريطته للعالم الأدق من نوعها طيلة ثلاثة قرون لاحقة.
دور محمد الإدريسي وكتبه في تطوير علم الجغرافيا عند الغرب:-
أصبح كتاب الإدريسي معروفًا لدى الغرب بمؤلف كتاب روجار (The Tabula Rogeriana)، ووضِعت خريطة العالم الدائرية التي أنجزها على لوحٍ فضي، وزنه 400 كلغ.
لكن يبدو أن الكتاب والخريطة الفضية لحق بهما الضرر أثناء الاضطرابات المدنية في أوروبا بعد ذلك بفترة وجيزة، أي في العام 1160 م، وهكذا فإن فهمنا اليوم لكتاب الإدريسي الأصلي مبني على نسخة مختصرة من كتابه الى ابن روجر وليام الثاني، وفي الوقت الراهن؛ يتوافر نسخ منها باسم (Little Idrisi) في عدد من المكتبات الأوروبية .
وبهذا؛ تعد خريطة الإدريسي من بين أهم الإنجازات الحضارية
الإسلامية، وبالنسبة له شخصياً، فقد حظي بشهرة في أوروبا أكثر من نظرائه الجغرافيين
المسلمين، ذلك لأن السفن والملاحين من المحيط الأطلسي والبحر المتوسط كثيرو
التردد على جزيرة صقلية، الواقعة بمنتصف البحر المتوسط.
لقد كانَ الجُغرافي العربي الإدريسي هو الذي مثَّلَ في قصر ملك صِقِلية دور المُعلِّم للغرب، وليس بطليموس كما يدَّعِي بعضهم، وبقيت خريطةَ الإدريسي ثلاثة قُرون تسدُّ الفَرَاغَ في الغَرْب، وتخدِم مُحاولاتهم الخاصَّة في هذا المَجَال كنموذج يهتدي به.
— زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب.
تُرجمت العديد من كتب الإدريسي إلى اللاتينية، فقد نُشرت
ترجمة أحد كتبه عام 1619م في مدينة روما، وتعتبر هذه الترجمة نسخة مختصرة، لكن
المفاجئء فيها أن صاحب الترجمة تجاهل تقديم العرفان والفضل للإدريسي في عمله
الجغرافي السابق لمن تبعه في هذا العلم.
من المثير للاهتمام معرفة أن أوروبا أستفادت لقرون عدة من خريطة محمد الإدريسي للعالم المترجمة في روما، حيث استند إليها كريستوفر كولومبوس في مغامراته ورحلاته الاستكشافية البحرية الشهيرة.
جغرافية بلاد الشام:-
تناول الإدريسي بالوصف الدقيق جغرافية مدن وتضاريس بلاد الشام وطبيعة أهلها، وقد صادف زيارته لها؛ خضوع بعض أجزائها للاحتلال الصليبي، لذا؛ فهو يعتبر من بين أهم المؤرخين الذين تناولوا تلك الحقبة المهمة والحرجة، وفيما يلي مجموعة من الأمثلة التي تناولها:
- صيداء: فهي على ساحل البحر الملح، وعليها سور حجارة، وهي تُنسَب إلى إمراة كانت في الجاهلية، وهي مدينة كبيرة عامرة الأسواق، رخيصة الأسعار، محدِّقة البساتين والأشجار، غزيرة الماء، واسعة الكور، لها أربعة أقاليم، وهي متصلة بجبل لبنان..
- صور: مدينة حسنة على ضفة البحر وبها للمراكب إرساءً وإقلاعاً، وهو بلد حصين قديم والبحر قد أحاط به من ثلاثة أركانه، ولهذه المدينة ربض كبير، ويُعمل بها جيد الزُّجاج والفخَّار، وقد يُعمل بها من الثياب البيض المحمولة إلى كل الآفاق كل شيء حسن عالي الصفة والصنعة ثمين القيمة وقليلاً ما كان يُصنع مثله في سائر البلاد المحيطة بها هواءً وماءً.
- حيفا: تحت طرف الكرمل وهو طرف خارج في البحر وبه مرسى حسن لإرساء الأساطيل وغيرها، ومدينة حيفا هي فرضة لطبرية، وبينهما ثلاثة مراحل خفاف.
- عكَّا: وهي من المدن الصليبية الرئيسية على السَّاحل، مدينة كبيرة ذات أرجاء متَّسِعة، وضياعها كثيرة، ولها ميناء مأمون من ناحية رسو السُّفُن.
مؤلفات الإدريسي:-
وفرة وتنوع مؤلفات الإدريسي في عدد من العلوم؛ تعكس ما حازه من عقلية موسوعية، وفيما يلي أبرز الكُتُب التي ألَّفها والتي لا تتوافر جميعها في الوقت الراهن، وذلك نظراً لفقدان بعضها.
- نزهة المشتاق في ذكر الأقطار والبلدان والجُزُر والمدائن والآفاق (الكتاب الروجاري) وهو الأكثر شهرة بين سائر مؤلفاته، وقد أمدَّ الكتاب بسبعين خريطة، حيث اعتبرت خرائطه من بين أدق الأعمال التي طرحها الجغرافيون المسلمون في العصر الوسيط، إذ بدا أنها حقيقية تمنح الناظر لها تصوراً واضحاً عن المواضع التي تصوِّرها.
- روض الأنس.
- نزهة النَّفس.
- أنس المهَج وروض الفرج.
- جني الأزهار من الروض المعطار في عجائب الأقطار.
- الجامع لصفات أشتات النبات.
فضلاً عن كونه جغرافي وفلكي وفيلسوف؛ فقد تميز الإدريسي في كتاباته في علم النبات، وقد تجلَّى ذلك في كتبه الثلاثة (الأدوية المفردة، والجامع لصفات أشتات النبات، وكتاب الصيدلة).
أما كتابه “الجامع لصفات النبات وضروب أنواع المفردات من الأشجار والثِّمار، والأصول، والأزهار، وأعضاء الحيوان، والمعادن، والأطيار”؛ فقد ذكر فيه جميع ما تمكَّن من حصره من عالميّ النبات بالدرجة الأولى والحيوان بدرجة أقل، لا بل وأدرج المفردات بأسمائها العربية، والفارسية، واليونانية، واللاتينية، والسريانية، والعبرانية، والهندية، والكردية، والتركية، والأفرنجية (الإسبانية)، والبربرية، وأحياناً القبطية.
وقد تناول بالذِّكر منافع كل مُفرد، وما يُستفاد منه وما يُستخرج من صُمُوغ وزيوت ويُتَّخَذُ من أصول وقشور، وفوائدها في العلاج والتَّداوي.
وقد اعتمد الإدريسي في كتابه على ما ورد في مؤلَّفات أبي جريج، والكندي، وديسقوريدس، وابن مسارجويه، وابن جلجل، وزهر بن زهر، وأبي بكر بن وحشية، وحنين بن إسحاق، وابن سرافيون، وسواهم الكثير.
وفاة الإدريسي:-
يعتقد أن وفاة الإدريسي حصلت في العام 516 هجري/1122 ميلادي، وذلك بحسب ما أورده الحسن الوزَّان (944 هجري/1537 ميلادي)، بيد أن البارون دي سلام يرى أن التاريخ المذكور ليس منطقياً وذلك نظراً لأن تاريخ ولادة الجغرافي الكبير كانت في (499 هجري/1100 ميلادي)، لذا؛ فمن غير المنطقي أن يكون الإدريسي قد قام بكل هذه الرِّحلات والأسفار البعيدة عن موطنه خلال تلك الفترة الزمنية القصيرة، مرجِّحاً وفاته في سنة (560 هجرية/ 1164 ميلادية).
المصادر: