توطئة – الفلسفة في العصر العباسي :-
ساهمت حركة الترجمة الدؤوبة والانفتاح على الأمم ذات العمق الحضاري، إلى جانب توفير البيئة الخصبة لإطلاق العنان لقدرات وطاقات المفكرين واجتذابهم إلى بغداد؛ في ارتقاء حركة الفلسفة في العصر العباسي.
فقد أفضى انتقال مقر الخلافة من دمشق إلى بغداد، وتضاعف نشاط التدوين وازدهار حرفة الوراقة، بالتزامن مع استقطاب أسماء لامعة للقيام بعمليات الترجمة عن اليونانية وسواها؛ في تعميق الأفكار المطروحة والطروقة على السَّاحة خلال العصر العباسي الأول، وهو الأمر الذي لم يكن متاحاً خلال العهد الأموي الذي كان لا يزال متأثراً بالطبيعة غير المعقدة التي حملها العرب معهم من جزيرتهم إلى مواضع ذات امتداد وإرث حضاري كبير.
وحينما احتك العرب مع تلك الأمم الوافدة حديثاً على الدِّين الإسلامي، فقد طرأت كثير من الأفكار والفرضيات والنظريات والفلسفات التي لم يعتدها العرب في المراحل المبكرة من دولتهم، ليحصل هناك تمازج أفضى إلى ولادة جدل ساهم في تبلور شكل جديد للثقافة العربية الإسلامية بشكل مغاير عما كانت عليه خلال فترة صدر الإسلام.
فوارق بين العصرين العباسي والأموي:-
كان الخلفاء الأمويون معنيون بالدَّرجة الأولى في توسيع وتوطيد دعائم البلاد التي كانوا يقومون على حكمها والتي امتدت على جغرافيا واسعة وصلت إلى الأندلس غرباً وأواسط آسيا شرقاً.
هذه الدولة – التي كان مركزها دمشق- لم تعمَّر إلَّا لفترة قصيرة، إذ دامت بين عامي 41 و 132 هجري (662-750 م)، وفي هذه الحقبة لم يكُن هناك مؤلفات أو كُتُب يعتدُّ بها في حقول الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، لكنها فترة شهدت بدايات ولادة علم الفقه واستمرار الميل نحو استقطاب وتعزيز مكانة الشُّعراء وإكرامهم، امتداداً للثقافة التي حملها العرب معهم من جزيرتهم.
كما أن هذه الحقبة لم تكُن مواتية لإشراك المسلمين المنتمين للأمم الأخرى في النشاط الثقافي في الدولة الأموية، لا بل أن ما يُطلق عليهم الموالي، لم يكونوا يتمتعون بمزايا في هذه الفترة، حيث ساهمت النزعة الشُّعوبية تجاه العِرق غير العربي، في تسريع الخطوات التي أدَّت إلى تفكك الإمبراطورية الأموية.
كما يمكن القول: إن هؤلاء العجم كانوا لا يزالون يتلمَّسون خطواتهم الأولى في فهم وهضم اللغة العربية أولاً، وما يترتب عليها من إنشاء حوار يؤدي إلى إحداث حراك فكري يسهم بإرساء وارتقاء الطروحات الفكرية والفلسفية، رغم أن هذه الثقافة كانت سائدة في بلاد فارس وآسيا الوسطى والشَّام ومصر وسواها، بيد أن الفلسفات لم تكُن مطروحة من حيث الأساس في الجزيرة العربية.
لا يمكن الإشارة بالبنان إلى أسماء فلسفية بارعة ظهرت خلال العصر الأموي، وهو الأمر الذي سيتغير بشكل جوهري مع انطلاقة الدولة العباسية.
انتقال الخلافة إلى العراق:-
مع انتقال عاصمة الخلافة من دمشق إلى بغداد، ودخول جيل جديد من العجم الذين تشربوا اللغة العربية بعد دخول آبائهم وأجدادهم للإسلام، تبلورت ثقافة جديدة خلال العصر العباسي وهو أمرٌ ساهم في تغذيته وجود تراث فكري تراثي كبير مطروح في العراق وبلاد فارس منذ عهد بعيد.
فالعراق هو البلد الأكثر عراقة ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل إنه شهد ولادة أكبر وأقدم الحضارات التي شهدها العالم برمته، وأدى هذا التراكم الحضاري بدءاً من العهد السومري مروراً بالبابليين والآشوريين والأكديين وليس انتهاء بالتواجد الفارسي فيها؛ في وجود مظاهر تراث فكري وأدبي وديني وعلمي زاخر.
فالعراق الذي شهد ولادة النقوش المسمارية لأول مرة وذلك على يد السومريين، هو الذي أنتج للعالم صناعة الدولاب، والتقويم الشمسي، الأدبيات المكتوبة (ملحمة جلجامش)، القوانين (مسلة حمورابي)، أول مكتبة في العالم (مكتبة آشور من خلال الملك آشور بانيبال)، كما أثبت العلماء بأن علم الفلك كان متقدِّماً للغاية في هذه الأحقاب المتتالية.
وبالتالي، فقد كان هناك فارق كبير بين طبيعة الأفكار المتداولة في العراق خلال تاريخه الطويل، وما بين الثقافة السائدة في الجزيرة العربية، والتي هيمن عليها الثقافة الشفهية التي ترافقت مع انتاجها لبدائع الشِّعر العربي البديع الذي ساهم مضمونه في حفظ تراث الجزيرة.
الفلسفة في العصر العباسي :-
كان لهذا التنوع في الثقافات السائدة في العراق ومحيطه في تطور الفلسفة في العصر العباسي ، وهو الذي جاء بفعل عدة عوامل، من بين أبرزها النظرة والفهم المتباين للتراث الديني وتفسيره وتأويله، وماهية النظرة لفلسفة الكون ونواميسه، كما كانت هناك عوامل جوهرية ساهمت في الارتقاء بهذه الطروحات، نذكر بعضها:
- اهتمام الخلفاء العباسيين بالعلوم بما يفوق ما فعله سلفهم الأمويين، مستفيدين من الأسس الإدارية والسياسية التي تم وضعها في دولة بني أميَّة.
- تقريب الخلفاء العباسيين لعدد كبير من المفكرين والفلاسفة، حيث لم يقتصر الأمر على الشُّعراء كما كان الحال عليه في العهد الأموي.
- تأسيس خزانة الحكمة التي تحولت إلى مكتبة بيت الحكمة التي بذل الخليفة هارون الرشيد ونجله المأمون كثيراً من الأموال لتغذيتها بالمؤلفات التي تم استقطابها من الإرث اليوناني والهندي والفارسي..
- ترافق تأسيس بيت الحكمة مع بذل مكافآت كبيرة لمن يتولى نشاط ترجمة الفلسفات والعلوم اليونانية، فتم نقل طروحات أفلاطون أرسطو الفلسفية، وإقليدس الهندسية، وأبقراط الطبية ، وفيثا غورس الفلسفية والرياضية، و كتاب “المجسطي” وهو مؤلَّف بطليموس الشَّهير في مجال الرياضيات.
- المترجمون البارزون لهذه الفلسفات والعلوم مثل حنين بن إسحاق ونجله إسحاق بن حنين، يوحنا بن ماسويه وسواهم.
- هذه المحفزات؛ أدت إلى انتقال كثير من المفكرين والفلاسفة من بلادهم إلى بغداد وما جاورها.
- سيادة الفقه الحنفي في العراق، وهو المذهب المنسوب لأبي حنيفة النعمان والذي كان يقدم الرأي على النقل باعتباره إماماً لأهل الرأي.
- ظهور مدارس فقهية متعددة، لجأت إلى تعميق طروحاتها وذلك لمواجهة مستجدات العصر.
- دخول العنصر الفارسي في مواقع حساسة من البلاط العباسي وبالتالي كان هؤلاء مهتمين بالطروحات الفلسفية والفكرية وكان لهم تأثير على قرار الخليفة في إكرام كثير من أعلام الفكر آنذاك، ومن بين الشخصيات المؤثرة، سهل بن هارون، الحسن بن سهل ، الفضل البرمكي..
- دعم الخليفة المأمون -وهو معتزلي من أم فارسية عاش بين عامي 170 و 218 هجري – للطرح المعتزلي الذي ساهم في الإضاءة على الكثير من المسائل التي أحدثت جدلاً واسعاً، قبل أن يضع الخليفة المتوكل على الله – عاش بين عامي 205-247 هـ) حداً لنشاطهم.
- وجود مجالس ومنتديات للجدل والنقاش بين أصحاب الأفكار المختلفة، فكان هناك هامشاً مقبولاً لتطوير الطُّروحات.
- عاش في ظلال الدولة العباسية أصحاب أديان أخرى ذات طبيعة فلسفية كان لأعلامها تأثير مهم في الطروحات المتداولة.
- أفكار فلسفية جديدة طُرحِت مع العهد البويهي المسيطر الفعلي على الخليفة العباسي، من قبيل عضد الدولة وركن الدولة وسواهما.
- طروحات جديدة جاءت مع العهد السلجوقي المسيطر على الخليفة العباسي وذلك بعد انتهاء الحضور البويهي، وقد قام نظام الملك الوزير باستقطاب العلماء وتأسيس المدرسة النظامية ودعم العقيدة الأشعرية التي تتجه نحو التأويل، وقد استقطب أسماءً كبيرة من العلماء من قبيل أبي حامد الغزالي (الذي هاجم الفلاسفة لكنه في المقابل قدَّم طروحات تعتبر فلسفية).
الفلسفة في العصر العباسي – أعلام كبيرة:-
أنتجت الحضارة العربية الإسلامية شخصيات موسوعية خاضت غمار الفقه والطب والعلوم الأخرى، مع دراستها وتعمُقها في الفلسفة، ومن بين أبرز تلك الأسماء التي سطع نجمها في مجال الفلسفة في العصر العباسي ( حتى في الفترة التي ظهرت فيها دول موازية مثل الفاطميين والحمدانيين والمرابطين والموحدين والأندلس…)، حيث يمكن اعتبار انتهاء هذا العصر وذلك مع اجتياح المغول لبغداد وذلك سنة 1258 م (656 هجرية).
- جابر بن حيان، فيلسوف كيميائي كبير ، وُلِدَ في طوس سنة 101هـ، وأصله من خراسان، وعاش معظم حياته في الكوفة التي توفي فيها سنة 199 هجرية، وهو تلميذ الإمام جعفر الصَّادق.
- أبو يوسف الكندي، فيلسوف العرب والإسلام في عصره، كان رأساً في الفلسفة، وعلم الحساب، والمنطق، والفلك، والطب، وله باع طويل في الهندسة والموسيقى وتأليف الألحان، وألَّف، وترجم، وشرح كتباً كثيرة، يزيد عددها عن ثلاثمائة، توفي بحدود سنة 250 هجرية.
- أبو نصر الفارابي، المولود سنة 260 هجرية، والذي سبق العديد من المذاهب الفلسفية الإسلامية في ذلك الوقت مثل مذهب ابن سينا وغيره، انتقل من الفاراب إلى بغداد سنة 310 هجرية، وقد درَّس علوماً أخرى ببغداد كالموسيقى، الرياضيات، العلوم، الطب، كما تلقن العلوم اللسانية العربية على يد النحوي الشهير ابن السراج، وتوفي الفارابي في دمشق عام 339 هجرية.
- ابن سينا ، الطبيب العظيم، والفيلسوف الكبير المتوفى في همذان سنة 428 هجرية.
وهذا العلم (الفلسفة)؛ هو أقدمُ العلوم وأكملها رئاسةً، وسائرُ العُلومِ الأُخَر الرئيسة تحت رئاسةِ هذا العِلم، إذ كانت هذه العلوم إنما تحتذي حَذوَ ذلك العِلم، وتستعمل ليكمُل الغرض بذلك العلم، وهو السَّعادة القُصوى والكمال الذي يبلغهُ الإنسان، وهذا العلم كما يُقال: إنه كانَ في القديم في الكلدانيين، وهُم أهلُ العِراق، ثمَّ صارَ إلى أهلِ مصر، ثمَّ انتقلَ إلى اليونانيين، ولم يزَل إلى أن انتَقَلَ إلى السريانييين، ثمَّ إلى العرب، وكانت العبارةُ عن جميع ما يحتوي عليه ذلك العِلم باللِّسان اليوناني ثم صارت باللسان العربي ثم باللِّسان العربي.
— الفارابي ، تحصيل السعادة.
- ابن باجة، كان يضرب به المثل في الذكاء، وآراء الأوائل، ومعرفة الأنساب، والطب، والموسيقى، ودقائق الفلسفة، توفي في مدينة فاس سنة 533 هجرية.
- ابن رشد، والذي اشتُهِر وعُرِف في الغرب باسم أفاروس، وُلِد في مدينة قرطبة الأندلسية في سنة 1126 للميلاد، ووافتهُ المنية في سنة 1198 م بمدينة مراكش، اشتهر بجهوده للتوفيق بين الفلسفة والدين، كما يعتبر أشهر شارحٍ لأفكار أرسطو.
- ابن سبعين، والذي يعتبر من زهَّاد الفلسفة القائلين بوحدة الوجود، له أتباع ومريدون يعرفون بالسبعينية، انتقل من المغرب للمشرق وتوفي في مكة المكرمة سنة (669 هـ-1272 م)
الخلاصة:-
تطور نشَّاط الفلسفة في العصر العباسي ارتبط إلى حدٍ بعيد بالتمازج الحضاري بين مختلف الأمم التي دخلت الإسلام، فضلاً عن انفتاح الدولة على ثقافات الأمم الأخرى، إلى جانب تطور نشاط الترجمة الذي خلق أفكاراً لم تكُن معهودة، دون أن نغفل ظهور حكَّام كان لديهم مشاريع للارتقاء بالعلوم والآداب والفلسفة.
اقرأ ايضا ابن ملكا البغدادي .. الطبيب والفيسلوف الأوحد في زمانه
توطئة – الفلسفة في العصر العباسي :-
ساهمت حركة الترجمة الدؤوبة والانفتاح على الأمم ذات العمق الحضاري، إلى جانب توفير البيئة الخصبة لإطلاق العنان لقدرات وطاقات المفكرين واجتذابهم إلى بغداد؛ في ارتقاء حركة الفلسفة في العصر العباسي.
فقد أفضى انتقال مقر الخلافة من دمشق إلى بغداد، وتضاعف نشاط التدوين وازدهار حرفة الوراقة، بالتزامن مع استقطاب أسماء لامعة للقيام بعمليات الترجمة عن اليونانية وسواها؛ في تعميق الأفكار المطروحة والطروقة على السَّاحة خلال العصر العباسي الأول، وهو الأمر الذي لم يكن متاحاً خلال العهد الأموي الذي كان لا يزال متأثراً بالطبيعة غير المعقدة التي حملها العرب معهم من جزيرتهم إلى مواضع ذات امتداد وإرث حضاري كبير.
وحينما احتك العرب مع تلك الأمم الوافدة حديثاً على الدِّين الإسلامي، فقد طرأت كثير من الأفكار والفرضيات والنظريات والفلسفات التي لم يعتدها العرب في المراحل المبكرة من دولتهم، ليحصل هناك تمازج أفضى إلى ولادة جدل ساهم في تبلور شكل جديد للثقافة العربية الإسلامية بشكل مغاير عما كانت عليه خلال فترة صدر الإسلام.
فوارق بين العصرين العباسي والأموي:-
كان الخلفاء الأمويون معنيون بالدَّرجة الأولى في توسيع وتوطيد دعائم البلاد التي كانوا يقومون على حكمها والتي امتدت على جغرافيا واسعة وصلت إلى الأندلس غرباً وأواسط آسيا شرقاً.
هذه الدولة – التي كان مركزها دمشق- لم تعمَّر إلَّا لفترة قصيرة، إذ دامت بين عامي 41 و 132 هجري (662-750 م)، وفي هذه الحقبة لم يكُن هناك مؤلفات أو كُتُب يعتدُّ بها في حقول الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، لكنها فترة شهدت بدايات ولادة علم الفقه واستمرار الميل نحو استقطاب وتعزيز مكانة الشُّعراء وإكرامهم، امتداداً للثقافة التي حملها العرب معهم من جزيرتهم.
كما أن هذه الحقبة لم تكُن مواتية لإشراك المسلمين المنتمين للأمم الأخرى في النشاط الثقافي في الدولة الأموية، لا بل أن ما يُطلق عليهم الموالي، لم يكونوا يتمتعون بمزايا في هذه الفترة، حيث ساهمت النزعة الشُّعوبية تجاه العِرق غير العربي، في تسريع الخطوات التي أدَّت إلى تفكك الإمبراطورية الأموية.
كما يمكن القول: إن هؤلاء العجم كانوا لا يزالون يتلمَّسون خطواتهم الأولى في فهم وهضم اللغة العربية أولاً، وما يترتب عليها من إنشاء حوار يؤدي إلى إحداث حراك فكري يسهم بإرساء وارتقاء الطروحات الفكرية والفلسفية، رغم أن هذه الثقافة كانت سائدة في بلاد فارس وآسيا الوسطى والشَّام ومصر وسواها، بيد أن الفلسفات لم تكُن مطروحة من حيث الأساس في الجزيرة العربية.
لا يمكن الإشارة بالبنان إلى أسماء فلسفية بارعة ظهرت خلال العصر الأموي، وهو الأمر الذي سيتغير بشكل جوهري مع انطلاقة الدولة العباسية.
انتقال الخلافة إلى العراق:-
مع انتقال عاصمة الخلافة من دمشق إلى بغداد، ودخول جيل جديد من العجم الذين تشربوا اللغة العربية بعد دخول آبائهم وأجدادهم للإسلام، تبلورت ثقافة جديدة خلال العصر العباسي وهو أمرٌ ساهم في تغذيته وجود تراث فكري تراثي كبير مطروح في العراق وبلاد فارس منذ عهد بعيد.
فالعراق هو البلد الأكثر عراقة ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل إنه شهد ولادة أكبر وأقدم الحضارات التي شهدها العالم برمته، وأدى هذا التراكم الحضاري بدءاً من العهد السومري مروراً بالبابليين والآشوريين والأكديين وليس انتهاء بالتواجد الفارسي فيها؛ في وجود مظاهر تراث فكري وأدبي وديني وعلمي زاخر.
فالعراق الذي شهد ولادة النقوش المسمارية لأول مرة وذلك على يد السومريين، هو الذي أنتج للعالم صناعة الدولاب، والتقويم الشمسي، الأدبيات المكتوبة (ملحمة جلجامش)، القوانين (مسلة حمورابي)، أول مكتبة في العالم (مكتبة آشور من خلال الملك آشور بانيبال)، كما أثبت العلماء بأن علم الفلك كان متقدِّماً للغاية في هذه الأحقاب المتتالية.
وبالتالي، فقد كان هناك فارق كبير بين طبيعة الأفكار المتداولة في العراق خلال تاريخه الطويل، وما بين الثقافة السائدة في الجزيرة العربية، والتي هيمن عليها الثقافة الشفهية التي ترافقت مع انتاجها لبدائع الشِّعر العربي البديع الذي ساهم مضمونه في حفظ تراث الجزيرة.
الفلسفة في العصر العباسي :-
كان لهذا التنوع في الثقافات السائدة في العراق ومحيطه في تطور الفلسفة في العصر العباسي ، وهو الذي جاء بفعل عدة عوامل، من بين أبرزها النظرة والفهم المتباين للتراث الديني وتفسيره وتأويله، وماهية النظرة لفلسفة الكون ونواميسه، كما كانت هناك عوامل جوهرية ساهمت في الارتقاء بهذه الطروحات، نذكر بعضها:
- اهتمام الخلفاء العباسيين بالعلوم بما يفوق ما فعله سلفهم الأمويين، مستفيدين من الأسس الإدارية والسياسية التي تم وضعها في دولة بني أميَّة.
- تقريب الخلفاء العباسيين لعدد كبير من المفكرين والفلاسفة، حيث لم يقتصر الأمر على الشُّعراء كما كان الحال عليه في العهد الأموي.
- تأسيس خزانة الحكمة التي تحولت إلى مكتبة بيت الحكمة التي بذل الخليفة هارون الرشيد ونجله المأمون كثيراً من الأموال لتغذيتها بالمؤلفات التي تم استقطابها من الإرث اليوناني والهندي والفارسي..
- ترافق تأسيس بيت الحكمة مع بذل مكافآت كبيرة لمن يتولى نشاط ترجمة الفلسفات والعلوم اليونانية، فتم نقل طروحات أفلاطون أرسطو الفلسفية، وإقليدس الهندسية، وأبقراط الطبية ، وفيثا غورس الفلسفية والرياضية، و كتاب “المجسطي” وهو مؤلَّف بطليموس الشَّهير في مجال الرياضيات.
- المترجمون البارزون لهذه الفلسفات والعلوم مثل حنين بن إسحاق ونجله إسحاق بن حنين، يوحنا بن ماسويه وسواهم.
- هذه المحفزات؛ أدت إلى انتقال كثير من المفكرين والفلاسفة من بلادهم إلى بغداد وما جاورها.
- سيادة الفقه الحنفي في العراق، وهو المذهب المنسوب لأبي حنيفة النعمان والذي كان يقدم الرأي على النقل باعتباره إماماً لأهل الرأي.
- ظهور مدارس فقهية متعددة، لجأت إلى تعميق طروحاتها وذلك لمواجهة مستجدات العصر.
- دخول العنصر الفارسي في مواقع حساسة من البلاط العباسي وبالتالي كان هؤلاء مهتمين بالطروحات الفلسفية والفكرية وكان لهم تأثير على قرار الخليفة في إكرام كثير من أعلام الفكر آنذاك، ومن بين الشخصيات المؤثرة، سهل بن هارون، الحسن بن سهل ، الفضل البرمكي..
- دعم الخليفة المأمون -وهو معتزلي من أم فارسية عاش بين عامي 170 و 218 هجري – للطرح المعتزلي الذي ساهم في الإضاءة على الكثير من المسائل التي أحدثت جدلاً واسعاً، قبل أن يضع الخليفة المتوكل على الله – عاش بين عامي 205-247 هـ) حداً لنشاطهم.
- وجود مجالس ومنتديات للجدل والنقاش بين أصحاب الأفكار المختلفة، فكان هناك هامشاً مقبولاً لتطوير الطُّروحات.
- عاش في ظلال الدولة العباسية أصحاب أديان أخرى ذات طبيعة فلسفية كان لأعلامها تأثير مهم في الطروحات المتداولة.
- أفكار فلسفية جديدة طُرحِت مع العهد البويهي المسيطر الفعلي على الخليفة العباسي، من قبيل عضد الدولة وركن الدولة وسواهما.
- طروحات جديدة جاءت مع العهد السلجوقي المسيطر على الخليفة العباسي وذلك بعد انتهاء الحضور البويهي، وقد قام نظام الملك الوزير باستقطاب العلماء وتأسيس المدرسة النظامية ودعم العقيدة الأشعرية التي تتجه نحو التأويل، وقد استقطب أسماءً كبيرة من العلماء من قبيل أبي حامد الغزالي (الذي هاجم الفلاسفة لكنه في المقابل قدَّم طروحات تعتبر فلسفية).
الفلسفة في العصر العباسي – أعلام كبيرة:-
أنتجت الحضارة العربية الإسلامية شخصيات موسوعية خاضت غمار الفقه والطب والعلوم الأخرى، مع دراستها وتعمُقها في الفلسفة، ومن بين أبرز تلك الأسماء التي سطع نجمها في مجال الفلسفة في العصر العباسي ( حتى في الفترة التي ظهرت فيها دول موازية مثل الفاطميين والحمدانيين والمرابطين والموحدين والأندلس…)، حيث يمكن اعتبار انتهاء هذا العصر وذلك مع اجتياح المغول لبغداد وذلك سنة 1258 م (656 هجرية).
- جابر بن حيان، فيلسوف كيميائي كبير ، وُلِدَ في طوس سنة 101هـ، وأصله من خراسان، وعاش معظم حياته في الكوفة التي توفي فيها سنة 199 هجرية، وهو تلميذ الإمام جعفر الصَّادق.
- أبو يوسف الكندي، فيلسوف العرب والإسلام في عصره، كان رأساً في الفلسفة، وعلم الحساب، والمنطق، والفلك، والطب، وله باع طويل في الهندسة والموسيقى وتأليف الألحان، وألَّف، وترجم، وشرح كتباً كثيرة، يزيد عددها عن ثلاثمائة، توفي بحدود سنة 250 هجرية.
- أبو نصر الفارابي، المولود سنة 260 هجرية، والذي سبق العديد من المذاهب الفلسفية الإسلامية في ذلك الوقت مثل مذهب ابن سينا وغيره، انتقل من الفاراب إلى بغداد سنة 310 هجرية، وقد درَّس علوماً أخرى ببغداد كالموسيقى، الرياضيات، العلوم، الطب، كما تلقن العلوم اللسانية العربية على يد النحوي الشهير ابن السراج، وتوفي الفارابي في دمشق عام 339 هجرية.
- ابن سينا ، الطبيب العظيم، والفيلسوف الكبير المتوفى في همذان سنة 428 هجرية.
وهذا العلم (الفلسفة)؛ هو أقدمُ العلوم وأكملها رئاسةً، وسائرُ العُلومِ الأُخَر الرئيسة تحت رئاسةِ هذا العِلم، إذ كانت هذه العلوم إنما تحتذي حَذوَ ذلك العِلم، وتستعمل ليكمُل الغرض بذلك العلم، وهو السَّعادة القُصوى والكمال الذي يبلغهُ الإنسان، وهذا العلم كما يُقال: إنه كانَ في القديم في الكلدانيين، وهُم أهلُ العِراق، ثمَّ صارَ إلى أهلِ مصر، ثمَّ انتقلَ إلى اليونانيين، ولم يزَل إلى أن انتَقَلَ إلى السريانييين، ثمَّ إلى العرب، وكانت العبارةُ عن جميع ما يحتوي عليه ذلك العِلم باللِّسان اليوناني ثم صارت باللسان العربي ثم باللِّسان العربي.
— الفارابي ، تحصيل السعادة.
- ابن باجة، كان يضرب به المثل في الذكاء، وآراء الأوائل، ومعرفة الأنساب، والطب، والموسيقى، ودقائق الفلسفة، توفي في مدينة فاس سنة 533 هجرية.
- ابن رشد، والذي اشتُهِر وعُرِف في الغرب باسم أفاروس، وُلِد في مدينة قرطبة الأندلسية في سنة 1126 للميلاد، ووافتهُ المنية في سنة 1198 م بمدينة مراكش، اشتهر بجهوده للتوفيق بين الفلسفة والدين، كما يعتبر أشهر شارحٍ لأفكار أرسطو.
- ابن سبعين، والذي يعتبر من زهَّاد الفلسفة القائلين بوحدة الوجود، له أتباع ومريدون يعرفون بالسبعينية، انتقل من المغرب للمشرق وتوفي في مكة المكرمة سنة (669 هـ-1272 م)
الخلاصة:-
تطور نشَّاط الفلسفة في العصر العباسي ارتبط إلى حدٍ بعيد بالتمازج الحضاري بين مختلف الأمم التي دخلت الإسلام، فضلاً عن انفتاح الدولة على ثقافات الأمم الأخرى، إلى جانب تطور نشاط الترجمة الذي خلق أفكاراً لم تكُن معهودة، دون أن نغفل ظهور حكَّام كان لديهم مشاريع للارتقاء بالعلوم والآداب والفلسفة.
اقرأ ايضا ابن ملكا البغدادي .. الطبيب والفيسلوف الأوحد في زمانه