يعد الجاحظ من أئمة الأدب في العصر العباسي الذين لا يُختلف بشأنهم، حتى من قِبل أولئك الذين يعترضون على فلسفته ومنهاجه المُعتزلي. فقد تأدب الجاحظ بآداب الفرس، وحكمة الهند، وفلسفة اليونان، ففصح لسانه، ووضح بيانه، وغزر علمه، وقويت حجته، وسلم منطقه بانتهاجه أسلوباً بحثياً علمياً، اعتمد فيه على: الشك والنقد، التجريب والمعاينة، تمييز الحلال من الحرام.
ويُوصف الجاحظ بأنهُ أكثر المولفين جموحاً، إذ يلُوح أن المسألة ليست عنده سوى للتبحّر والاستطراد، وهو لا يسأم من الانتقال من فكرة لأخرى، ولكنهُ يلهو ولا يملُّ، مع حفاظهِ على لُطفهِ وبداعته وفرادته.
اسمه ونسبه:-
الجاحظ؛ هو عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكِناني، كنيته أبو عثمان، ولقب ب”الجاحظ” و”الحدقي” لبروز عينيه، ولد في البصرة (159هـ)، وتوفي فيها (255هـ). اختلف الناس في تحديد أصله فمنهم من قال بأنه عربي من قبيلة كنانة، ومنهم من قال بأن أصله يعود للزنج، وأن جده كان مولى لرجل من بني كنانة، ولكن اشتهر عن الجاحظ قوله أنه عربي وليس زنجي حيث قال: “أنا رجل من بني كنانة، وللخلافة قرابة، ولي فيها شفعة، وهم بعد جنس وعصبة”.
شخصية الجاحظ الرائعة:-
من خلال التراث الهائل الذي خلفه الجاحظ نلمح
شخصيته العجيبة المشحونة بأعظم الطاقات الإنسانية وأكبرها، وتتراءى لنا نفسه
الضاحكة الساخرة، وروحه المرح الطروب، فقد استطاع الجاحظ بظرفه وخفته، وذكائه
وسرعة خاطره، التخلص من المآزق، وتحويل سخائم الصدور عند أعدائه إلى مودة وصفاء،
حيث كان الجاحظ خفيفاً، وروحاً طروباً، ونفساً طليقة، وسخرية هادئة، وابتسامة
مشرقة، لا تعرف العبوس. تغذي قلبك وعقلك، وتمتع إحساسك وجنانك، لأن شخصية الجاحظ
مزيج من القوة والدعة، والجد والهزل، والأنفة والتواضع، والعمق والتبسط، شخصية
عجيبة انفسحت لأعظم القيم الإنسانية، فأتيح لها على مر الأزمان المجد والخلود.
بحاثة وافر العقل:-
وتعرّض البارون كار دوفو في كتابه “مفكرو الإسلام”، إلى طبيعة شخصية ومعارف الأديب والفيلسوف المُعتزلي الجاحظ، الذي عاشَّ في مدينة البصرة خلال القرن التاسع الميلادي.
وقال:- هوَ وافرُّ العقل حتى في أغاليظه، وكان شديد الحرصِّ على إرفاق أسوأ فلتاته بأدلة لاذعة بالغة يُبديها بتمعق في غير علم، بحسب صاحب الكتاب المذكور.
ووصف كار دوفو؛ الجاحظُّ، بأنه كان بحّاثة للغاية، لطيف المعشر، حُلو الكلام، دميم الخليقة، قبيح المنظر، على ما وصفه إياه معاصروه.
ففي المدينة العراقية الجنوبية الشهيرة بالنخيل؛ ولِد ونشأ الجاحظُ فقيرا، ينفر منه من يصادفه لقُبح في سحنته وجحوظ في عينيه، بيد أن ذلك لم ينل من خِفة ظله وميله إلى الفكاهة والهزل، وهو من عكسه وجسّده في كتاباته التي تغُصُّ بالتهكم.
لم يَدَعْ الجَاحِظ عِلماً معروفاً في أيَّامه إلَّا نَظَرَ فيه، واطَّلَعَ عليه؛ فَقَد دَرَسَ الفَلسَفَةَ والمنطِق والطبيعيَّات والرِّياضِيَّات والتَّاريخِ والسِّياسةِ والأخلاقِ والفِراسةِ، فاكتَمَلَت آلتهُ، فإذا هُوَ فقيهٌ متكَلِّمٌ يتفَلسَف ويتمَنْطَق، مُحدِّثٌ وإن لمْ يؤمِن بالحديث، بارِعٌ في الأَدَبِ واللُّغة، رَاويةٌ للأخبارِ والأَشعَار، بحَّاثةٌ عن الحَيَوَان والنَّبَات، نَقَّادٌ للأخلاقِ والعَادات، عالمٌ بالفَلَكَ والموسيقى والغِنَاء.
— بطرس البستاني.
العوامل التي أثرت على الجاحظ في تكوينه العلمي:-
أحب الجاحظ الكلمة وسعى في سبيلها، يطلبها ويتعلمها، ويكد من أجلها، ليجد فيها ضالته إلى عالم الحقيقة، فقصد دكاكين الوراقين وانكب على ما فيها من المخطوطات، ونهل منها من غير ملل، وأم الجاحظ دور العلماء والكتاب وتتلمذ في اللغة والنحو، وفي علم الكلام والاعتزال، وانتظم المعتزلة فانفتحت له أبواب العقل والمعرفة والوجودية المسؤولة. ومن العوامل التي أثرت في تكوينه العلمي:-
- التردد على حلقات الدرس في الكُتاب.
- الاستماع لمحاضرات العلماء في المساجد.
- التردد على سوق المربد.
- حضور المجالس العلمية.
- استئجار دكاكين الوراقين.
- السفر والترحال.
- شيوخه، ومنهم (الأصمعي، أبو عبيدة، أبو زيد الأنصاري، يحيى بن نجيم، أبي مالك عمرو بن كركرة، الأخفش، محمد بن سلام، العتبي البصري، صالح بن جناح اللخمي، إبراهيم بن سيار البلخي، أبو إسحاق النظام، موسى بن سيار الأسواري،…).
تراثه وتعدد موضوعاته:-
عندما يذكر الجاحظ سرعان ما يتبادر إلى الذهن غزارة الإنتاج العلمي الذي خرج عنه، سواء في الأدب، السياسة، الاقتصاد، الصناعة، علم الاجتماع، الجغرافيا، التاريخ، الأخلاق، المفاخرات، الطعام والشراب، وغيرها، وقد ذكر ابن حجر أن عدد مؤلفاته يزيد على مائة وسبعين، كما أثبت ياقوت الحموي من هذه المصنفات مائة وثمانية وعشرين مصنفاً، ذكر الجاحظ منها في كتابه الحيوان أربعين مصنفاً. أما الأسباب التي أتاحت للجاحظ أن ينتج هذا العدد من الكتب هي:-
- الصلة التي انعقدت أواصرها بين الجاحظ ومجتمع عصره، فقد أتيح له أن يعاين أحوال الطوائف الاجتماعية، وأن يعايش قضاياها عن كثب.
- ارتباط الجاحظ بمدرسة الاعتزال وما يسودها من حوارات ومناقشات في شتى المعارف، هيأ له مادة تتسم بالوفرة والغزارة والتنوع.
- اشتداد المنافسة بين جمهرة العلماء والمتأدبين في المحيط العلمي الذي نبغ فيه الجاحظ.
- حب الجاحظ للعلم والانقطاع في سبيله.
- ذاكرة الجاحظ القوية، بالإضافة إلى صفاء القريحة ودقة الحس.
- طول عمره.
كتب الجاحظ فاتنة بعناوينها:-
عناوينُ كتبه فاتنة ومميزة أيضاً، وأشهر كتبه “البخلاء“، لكن مؤلفه المُمتع “الحيوان” كان الأشهرَّ على الإطلاق بين مؤلفاته، والذي أدرج فيه أيضاً موضوعات لا علاقة لها بالحيوان، إذ حرص على أن يبعث من خلاله برسائل تأملية وأدبية وشعرية. ونذكر له عدد من مؤلفاته:-
- كتاب سَلوك الحريف في المناظرة بين الربيع والخريف.
- كتاب الطُفيليين.
- كتاب التبصر بالتجارة.
- كتاب العثمانية.
- كتاب الرد على العثمانية.
- كتاب الشارب والمشروب.
- كتاب البلدان.
- فخر الجواري على الغلمان.
- كتاب الحيوان- ثمانية أجزاء.
- البيان والتبيين- أربعة أجزاء.
- المحاسن والأضداد.
- البرصان والعرجان.
- التاج في أخلاق الملوك.
- الآمل والمأمول.
- البغال.
- كتاب خلق القرآن
- كتاب الشطار.
- له عدة رسائل منها:- رسالة الحاسد والمحسود، رسالة النساء، رسالة النابتة، رسالة الوكلاء، رسالة القيان، رسالة القواد، رسالة مدح التجار وذم عمل السلطان، رسالة فضل السودان على البيضان.
وتناول الجاحظ موضوع الخطوط المشهورة في زمانه، وهو يأتي بفلسفتها من بعض الوجوه.
مواقف متفرقة من حياة الجاحظ:-
حينما قُدّمَ الجاحظ إلى الخليفة العباسي المتوكِّل كمرشّحٍ لتأديب ولدهِ، كرهَ الخليفة خلقةَ الجاحظ، فصرَفه مانحاً إياه عشرة الآف درهم، سخّرها الجاحظ الفيلسوف والأديب الدميم في سبيل المضي قدما في التأليف والكتابة، هذا المبلغ يُعتبر مغرياً بالنسبة لمن عاش طفولة فقيرة بائسة يائسة، وهي حياة اضطر معها لبيع السمك والخبز في أزقة البصرة، لكنه لم يكن مثل أقرانه من الصبيان متطلعاً إلى ملاهي الدنيا، بل كان ينفق حصيلة ما يجمعه في نهاره، لاستئجار دكاكين الورّاقين في ليله، ليتمكن من قراءة ما يُحب من المؤلفات التي يعشقها.
حكى عن نفسه قال:- ما أخجلني قط إلا امرأة، أخذت بيدي إلى نجار،
وقالت:- مثل هذا، ومضت. فعجبت، وسألت النجار عن قولها فقال:- أتت إلي وقالت:- أن
أصنع لها صورة تخوف بها أولادها، وأتت بك مثالاً.
ودخل عليه يوماً غلام، فرآه يجتهد في الدعاء، فقال:- ما بك يا مولاي؟ قال: وجدت نفسي أني صرت هزوءاً للناس، فأنا أدعو الله أن يصلح ما بي من العيوب. فقال: أيسر عليه أن يصنعك جديداً.
الجاحظ وأمه:-
حكى الجاحظ أنه في حداثته كانت أمه تعذله ولا يشتغل إلَّا بطلب العلم، فوضعت أمه ذات يوم كراريسه على طبقٍ وقدمته إليه.
فقال: ما هذا، فقالت: “ما تجيء إلَّا بهذا، فخرج مُغتمَّاً إلى الجامع، ومويس بن عمران جالس، فرءآه مغتماً، فقال: ما شأنك؟ فحدَّثه بالحديث، فأدخله المنزل وقرَّب منه الطعام، ثم أعطاه خمسين ديناراً، فدخل بها السوق، واشترى بها الدقيق الكثير وحمله على الحمالين إلى داره.
فما أدخلوها بيته؛ أنكرت الأم ذلك، وقالت لهم: غلطتُّم بالطريق، قالوا: أليس هذا منزل الجاحظ، قالت: بلى، قالوا: فهو بعَثَ بنا، قالت: فإنه لم يتغدَّ اليوم.
فتركت كُل ذلك أمَّه، إلى أن دخل الجاحظ، فقالت في ذلك: من أين لك ذلك؟، قال: من الكراريس التي قدمتيها!!.
رواية المسعودي:-
يتحدث الجغرافي والرحالة أبو الحسن المسعودي في كتابه الشهير “مروج الذهب” عن بعضِّ أقوالِّ الجاحظ والمواقف التي رافقته.
ومن ذلك؛ أن بعضهم جاءوا لزيارته بعدما شابَّ وأصابَّ من عُمره ما أصاب، فسألوه عن حاله، فأجابهم قائلاً: عليلٌّ في مكانين، من الأسقام والدِّين، ثم استأنف، “أنا في هذه العِلّة المُتناقضة التي يُتخوَّفُ من بعضها التلفُّ، وأعظمها نيّفٌ وسبعون سنة”. ولامَ الجاحظ قريباً له لإمضائه وقته في تلبية حوائج الناس، قائلاً له: “قد أتعبتَ بذلك بدنك، وأخلقتَ ثيابك، وأعجفتَ بِرذونك، وقتلتَ غُلامك، فما لكَ راحةٌ ولا قرارٌّ، فلو اقتصدت بعض الاقتصاد”، على ما رواه المسعودي.
وكُتب الجاحظ ، تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنهُ نظمها أحسن نَظم، وصفها أحسَن رصف، وكساها من كلامه أجزَل لَفظ، وكان إذا تخوَّف مَلَلَ القارئ وسآمة السامع؛ خرج من جدٍ إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة، بحسب المسعودي.
عبقرية الجاحظ:-
تعرَّض الدكتور رشيد خيون إلى مظاهر عبقرية الجاحظ وابداعه والتي أبقت ذكراه حيّةً إلى يومنا هذا كأحد أكبر الأدباء الذين أنجبتهم الحضارة العربية الإسلامية.
ويقول خيون في كتابه “معتزلة البصرة وبغداد”: إن أبا عثمان الجاحظ صاحب موهبة ما تزال تستهوي المستكشفين، كما بقيت نصائحه حيوية في نفوس المؤلفين والمترجمين، مشيراً إلى أن موهبة صاحب “البخلاء”، ما كانت لتحلِّق في عنان السماء في غير مضمار، لولا تفضيله الاعتزال سبيلاً.
ويزيد خيون بالقول: إنه، وفضلاً عن كلماته التي تدخل المسرة في النفوس؛ فقد نحل من مؤلفات الجاحظ معظم أولئك الذين طرقوا باب التأليف في كتب السَمر والمعلومات العامة من قبيل “العقد الفريد” و”المستطرف” و” الكشكول” و”الإمتاع والمؤآنسة”.
ويعتقد خيون بأن الجاحظ كان أوفر حظاً من سواه من حيث نصيبه في تسجيل أخباره وتناقل أفكاره ووصاياه، وذلك مرتبط بتوسع وتنوع اهتماماته، لأنك ستجده متكلِّما بين المتكلمين، ولغوي بين أصحاب اللغة، ناهيك عن كونه أديب وشاعر وباحث في البيئتين النباتية والحيوانية، ومواكب متابع للواقع.
وأضاف المفكر العراقي المعاصر، إن الجاحظ اتسم بالأمانة العلمية من خلال عدم تجاوزه على أفكار الآخرين، باعتباره نسيج وحده بين أهل الفكر، في السابق واللاحق، لكن ما جاد به قلمه، لم يجد ذات الصدى بين الجميع، ذلك لأنه وليد بيئته ومجتمعه الذي ينصف ويجحف بتطرُّف.
هذا المجتمع؛ أوجد للجاحظ من يحبه ومن يغتاظ منه ويكرهه، إذ عاصره من فضَّل كتبه على نعيم الجنة، في مقابل وجود آخرين شبهوه بالخنزير ووسموه بالجهل.
لكن هناك من أوفاه حقه ومنحه قدره، فقد قال أبو الحسن الفروزي عن الجاحظ: “وهو أشهر وأظهر في العامة والخاصة من أن يُرى، وكان إذا خلا بكتاب؛ أعطاه حقَّهُ”.
الجاحظ ووصوفه البديعة:-
يُعتبرُ الجاحظ أحد أكبر الأدباء في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، ولتقريب الصورة من كتاباته، سنسوقُ مثالين إثنين أحدهما يصِف فيه الحَسَد، والثاني يتناول أفضل الكَلام، فيقول:
- الحسَدُ -أبقاك الله- داءٌ يُنهِك الجسد، علاجه عسيرٌ وصاحبه ضَجِر، وهو بابٌ غامض، وما ظَهَرَ منه فلا يُداوى، وما بَطَنَ منه فمداويه في عناء، ولذلك قال النَّبي صلى الله عليه وسلَّم “دَب إليكم داءُ الأُمم من قبلكم، الحَسَدَ والبَغْضاءُ”، والحَسَدُ عقيدُ الكُّفر، وحليفُ الباطِل، وضِدّ الحَق، منه تتولَّد العداوةُ، وهو سببُ كل قطيعة، ومُفرِّق كل جماعة، وقاطع كُلّ رَحِم مِنَ الأقرِباء، ومُحدِثٌ للتفرُّق بين القُرَناء، ومُلقح الشرِّ بين الحُلَفاء.
- أفضلُ الكَلام ما كانَ قليله يُغني عن كثيره، ومعناهُ ظاهِراً في لفظِهِ، وكأن الله قد ألبَسَهُ من ثيابِ الجلالة، وغَشاه مِن نوُر الحِكمة، على حسب نِيَّةِ صاحبهِ وتقوى قائلهِ- فإذا كان المعنى شريفاً واللَّفظُ بليغاً صحيح الطَّبعِ، بعيداً من الاستكراه، مُنَزَّهاً عن الاختلال، مَصُوناً عن التكلُّف، صَنَعَ في القُلوبِ صنيع الغيث في التُّربةِ الكريمة، ومتى فُصَّلت الكَلِمة على هذه الشَّريطة، ونفذت مِن قائلها على هذه الصِّفة؛ كَسَاها اللهُ من التوفيق، وَمنَحَها من التأْييد ما لا يمتنعُ من تعظيمها به صدور الجبابرة، ولا يَذهَلُ عن فهمِها معهُ عُقولُ الجَهَلَة.
ميزة الصين الصِّناعة، فهُم أصحاب السبكِ والصياغةِ والإفراغِ، والإذابة، والأصباغِ العجيبة، وأصحاب الخَرطِ، والنَّحْت، والتَّصاوير، والنَّسْج، واليونانيون يعرفون العِللَ، ولا يُباشرون العَمَل، وميزتهم الحكم والآداب. والعَرَب لم يكونوا تجَّاراً ولا صناعاً، ولا أطباء، ولا حُسَّاباً، ولا أصحاب فِلاحَة، فيكونوا مَهَنة، ولا أصحاب زرعٍ لخوفهم من صغار الجزية.. ولا طلبوا المَعاش من ألسنة المكاييل، ورؤوس الموازين، ولا عرفوا الدَّوانيق، والقراريط، فحين حملوا حدَّهُم، ووجَّهوا قُواهم إلى قولِ الشِّعْر، وبلاغةِ المنطق، وتشقيق اللُّغة، وتصاريف الكلام وقيافة البَشَر، بعد قِيافةِ الأَثر، وحفظ النَّسب والاهتداء بالنُّجوم، والاستدلالِ بالآثار، وتعرِف بالأنواء، والبصر بالخيلِ، والسِّلاح، وآلة الحَرْب، والحِفْظَ لكلِّ مسموع، والاعتبار بكلِّ محسوسٍ، وإحكامِ شأن المناقب، والمثالب- بلغوا في ذلك الغاية… وميزة آل ساسان (الفُرس) في المُلْكِ والسَّياسة،،، والأتراك في الحُروب.. وليسَ في الأرض كُل تركيٍّ كما وصفنا، كما أنه ليس كل يوناني حكيماً، ولا كل صيني في غايةٍ من الحذق، ولا كُل أعرابي شاعراً، قائفاً. ولكِن هذه الأمور في هؤلاء أعمَّ وأتَمّ.
— من رسائل الجاحظ.
مصادر دخل الجاحظ:-
كان الجاحظ كغيره من الأدباء والنحويين وحتى الأطباء، يحصلون على مكافآت أو أتعاب من قِبَل الجهات التي يقدَّمون أعمالهم وخدماتهم لها.
وقد أورد الدكتور شوقي ضيف في كتابه “العصر العباسي الثاني”؛ القيم المالية التي تسلَّمها الجاحظ من الدولة نظير مؤلفاته، وهي على النحو الآتي:
- أهدى كتابه “الحيوان” إلى محمد بن عبد الملك الزيَّات (من رجال الدولة)؛ فأعطى الثاني للأول خمسة الآف دينار.
- أهدى كتابه “البيان والتبيين” إلى أحمد بن أبي داوود (من رجال الدولة)؛ فأعطاه أيضاً خمسة الآف دينار.
- أهدى كتابه “الزرع والنخيل” إلى إبراهيم بن العباس الصولي (من رجال الدولة)؛ فأعطاه مثلهما خمسة الآف دينار.
- صنَّف للفتح ابن خاقان وزير الخليفة المتوكل رسالته في فضائل الترك؛ فأجرى عليه راتباً شهرياً من خزانة الدولة ( معجم الأدباء لياقوت الحموي).
وفاته:-
توفّي الجاحظ في البصرة عام 255 هجرية، وكانَ قبل ذلك قد أصيب بالفالج (الشلل النصفي)، فكانَ يطلي نصفُ الأيمن بالصندل والكافور لشدّة حرارته، أما النصفُّ الآخر؛ فلو قُرِضَ بالمقاريض لما أحسَّ بها من خدَرِهِ وشدّة بَردهِ.
غادر الجاحظ حياته محاطاً بمؤلفاته وكتب الغير التي عثر عليها تحاصره، فقد سقطت مجلدات مكتبه على صدره وأطرافه، منهياً مسيرة أحد أبرز أعلام الأدب العربي.
وأخيراً؛ نختتم حديثنا بقولنا:- إن الجاحظ كان أمة ودائرة معارف، لا نزال حتى اليوم نتتلمذ على تراثه، وننهل من فيض أدبه وغزير علمه، ونمتع الروح والنفس برواية فكاهاته، والتحدث عن سخرياته، وكما يندر أن نجد أديباً، أو باحثاً في الأدب، أو ناقداً، أو صاحب مذهب ديني أو فكري، إلا وفي كتبه مقتبسات الجاحظ، واستشهاداً بآرائه.
المصادر:-
يعد الجاحظ من أئمة الأدب في العصر العباسي الذين لا يُختلف بشأنهم، حتى من قِبل أولئك الذين يعترضون على فلسفته ومنهاجه المُعتزلي. فقد تأدب الجاحظ بآداب الفرس، وحكمة الهند، وفلسفة اليونان، ففصح لسانه، ووضح بيانه، وغزر علمه، وقويت حجته، وسلم منطقه بانتهاجه أسلوباً بحثياً علمياً، اعتمد فيه على: الشك والنقد، التجريب والمعاينة، تمييز الحلال من الحرام.
ويُوصف الجاحظ بأنهُ أكثر المولفين جموحاً، إذ يلُوح أن المسألة ليست عنده سوى للتبحّر والاستطراد، وهو لا يسأم من الانتقال من فكرة لأخرى، ولكنهُ يلهو ولا يملُّ، مع حفاظهِ على لُطفهِ وبداعته وفرادته.
اسمه ونسبه:-
الجاحظ؛ هو عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكِناني، كنيته أبو عثمان، ولقب ب”الجاحظ” و”الحدقي” لبروز عينيه، ولد في البصرة (159هـ)، وتوفي فيها (255هـ). اختلف الناس في تحديد أصله فمنهم من قال بأنه عربي من قبيلة كنانة، ومنهم من قال بأن أصله يعود للزنج، وأن جده كان مولى لرجل من بني كنانة، ولكن اشتهر عن الجاحظ قوله أنه عربي وليس زنجي حيث قال: “أنا رجل من بني كنانة، وللخلافة قرابة، ولي فيها شفعة، وهم بعد جنس وعصبة”.
شخصية الجاحظ الرائعة:-
من خلال التراث الهائل الذي خلفه الجاحظ نلمح
شخصيته العجيبة المشحونة بأعظم الطاقات الإنسانية وأكبرها، وتتراءى لنا نفسه
الضاحكة الساخرة، وروحه المرح الطروب، فقد استطاع الجاحظ بظرفه وخفته، وذكائه
وسرعة خاطره، التخلص من المآزق، وتحويل سخائم الصدور عند أعدائه إلى مودة وصفاء،
حيث كان الجاحظ خفيفاً، وروحاً طروباً، ونفساً طليقة، وسخرية هادئة، وابتسامة
مشرقة، لا تعرف العبوس. تغذي قلبك وعقلك، وتمتع إحساسك وجنانك، لأن شخصية الجاحظ
مزيج من القوة والدعة، والجد والهزل، والأنفة والتواضع، والعمق والتبسط، شخصية
عجيبة انفسحت لأعظم القيم الإنسانية، فأتيح لها على مر الأزمان المجد والخلود.
بحاثة وافر العقل:-
وتعرّض البارون كار دوفو في كتابه “مفكرو الإسلام”، إلى طبيعة شخصية ومعارف الأديب والفيلسوف المُعتزلي الجاحظ، الذي عاشَّ في مدينة البصرة خلال القرن التاسع الميلادي.
وقال:- هوَ وافرُّ العقل حتى في أغاليظه، وكان شديد الحرصِّ على إرفاق أسوأ فلتاته بأدلة لاذعة بالغة يُبديها بتمعق في غير علم، بحسب صاحب الكتاب المذكور.
ووصف كار دوفو؛ الجاحظُّ، بأنه كان بحّاثة للغاية، لطيف المعشر، حُلو الكلام، دميم الخليقة، قبيح المنظر، على ما وصفه إياه معاصروه.
ففي المدينة العراقية الجنوبية الشهيرة بالنخيل؛ ولِد ونشأ الجاحظُ فقيرا، ينفر منه من يصادفه لقُبح في سحنته وجحوظ في عينيه، بيد أن ذلك لم ينل من خِفة ظله وميله إلى الفكاهة والهزل، وهو من عكسه وجسّده في كتاباته التي تغُصُّ بالتهكم.
لم يَدَعْ الجَاحِظ عِلماً معروفاً في أيَّامه إلَّا نَظَرَ فيه، واطَّلَعَ عليه؛ فَقَد دَرَسَ الفَلسَفَةَ والمنطِق والطبيعيَّات والرِّياضِيَّات والتَّاريخِ والسِّياسةِ والأخلاقِ والفِراسةِ، فاكتَمَلَت آلتهُ، فإذا هُوَ فقيهٌ متكَلِّمٌ يتفَلسَف ويتمَنْطَق، مُحدِّثٌ وإن لمْ يؤمِن بالحديث، بارِعٌ في الأَدَبِ واللُّغة، رَاويةٌ للأخبارِ والأَشعَار، بحَّاثةٌ عن الحَيَوَان والنَّبَات، نَقَّادٌ للأخلاقِ والعَادات، عالمٌ بالفَلَكَ والموسيقى والغِنَاء.
— بطرس البستاني.
العوامل التي أثرت على الجاحظ في تكوينه العلمي:-
أحب الجاحظ الكلمة وسعى في سبيلها، يطلبها ويتعلمها، ويكد من أجلها، ليجد فيها ضالته إلى عالم الحقيقة، فقصد دكاكين الوراقين وانكب على ما فيها من المخطوطات، ونهل منها من غير ملل، وأم الجاحظ دور العلماء والكتاب وتتلمذ في اللغة والنحو، وفي علم الكلام والاعتزال، وانتظم المعتزلة فانفتحت له أبواب العقل والمعرفة والوجودية المسؤولة. ومن العوامل التي أثرت في تكوينه العلمي:-
- التردد على حلقات الدرس في الكُتاب.
- الاستماع لمحاضرات العلماء في المساجد.
- التردد على سوق المربد.
- حضور المجالس العلمية.
- استئجار دكاكين الوراقين.
- السفر والترحال.
- شيوخه، ومنهم (الأصمعي، أبو عبيدة، أبو زيد الأنصاري، يحيى بن نجيم، أبي مالك عمرو بن كركرة، الأخفش، محمد بن سلام، العتبي البصري، صالح بن جناح اللخمي، إبراهيم بن سيار البلخي، أبو إسحاق النظام، موسى بن سيار الأسواري،…).
تراثه وتعدد موضوعاته:-
عندما يذكر الجاحظ سرعان ما يتبادر إلى الذهن غزارة الإنتاج العلمي الذي خرج عنه، سواء في الأدب، السياسة، الاقتصاد، الصناعة، علم الاجتماع، الجغرافيا، التاريخ، الأخلاق، المفاخرات، الطعام والشراب، وغيرها، وقد ذكر ابن حجر أن عدد مؤلفاته يزيد على مائة وسبعين، كما أثبت ياقوت الحموي من هذه المصنفات مائة وثمانية وعشرين مصنفاً، ذكر الجاحظ منها في كتابه الحيوان أربعين مصنفاً. أما الأسباب التي أتاحت للجاحظ أن ينتج هذا العدد من الكتب هي:-
- الصلة التي انعقدت أواصرها بين الجاحظ ومجتمع عصره، فقد أتيح له أن يعاين أحوال الطوائف الاجتماعية، وأن يعايش قضاياها عن كثب.
- ارتباط الجاحظ بمدرسة الاعتزال وما يسودها من حوارات ومناقشات في شتى المعارف، هيأ له مادة تتسم بالوفرة والغزارة والتنوع.
- اشتداد المنافسة بين جمهرة العلماء والمتأدبين في المحيط العلمي الذي نبغ فيه الجاحظ.
- حب الجاحظ للعلم والانقطاع في سبيله.
- ذاكرة الجاحظ القوية، بالإضافة إلى صفاء القريحة ودقة الحس.
- طول عمره.
كتب الجاحظ فاتنة بعناوينها:-
عناوينُ كتبه فاتنة ومميزة أيضاً، وأشهر كتبه “البخلاء“، لكن مؤلفه المُمتع “الحيوان” كان الأشهرَّ على الإطلاق بين مؤلفاته، والذي أدرج فيه أيضاً موضوعات لا علاقة لها بالحيوان، إذ حرص على أن يبعث من خلاله برسائل تأملية وأدبية وشعرية. ونذكر له عدد من مؤلفاته:-
- كتاب سَلوك الحريف في المناظرة بين الربيع والخريف.
- كتاب الطُفيليين.
- كتاب التبصر بالتجارة.
- كتاب العثمانية.
- كتاب الرد على العثمانية.
- كتاب الشارب والمشروب.
- كتاب البلدان.
- فخر الجواري على الغلمان.
- كتاب الحيوان- ثمانية أجزاء.
- البيان والتبيين- أربعة أجزاء.
- المحاسن والأضداد.
- البرصان والعرجان.
- التاج في أخلاق الملوك.
- الآمل والمأمول.
- البغال.
- كتاب خلق القرآن
- كتاب الشطار.
- له عدة رسائل منها:- رسالة الحاسد والمحسود، رسالة النساء، رسالة النابتة، رسالة الوكلاء، رسالة القيان، رسالة القواد، رسالة مدح التجار وذم عمل السلطان، رسالة فضل السودان على البيضان.
وتناول الجاحظ موضوع الخطوط المشهورة في زمانه، وهو يأتي بفلسفتها من بعض الوجوه.
مواقف متفرقة من حياة الجاحظ:-
حينما قُدّمَ الجاحظ إلى الخليفة العباسي المتوكِّل كمرشّحٍ لتأديب ولدهِ، كرهَ الخليفة خلقةَ الجاحظ، فصرَفه مانحاً إياه عشرة الآف درهم، سخّرها الجاحظ الفيلسوف والأديب الدميم في سبيل المضي قدما في التأليف والكتابة، هذا المبلغ يُعتبر مغرياً بالنسبة لمن عاش طفولة فقيرة بائسة يائسة، وهي حياة اضطر معها لبيع السمك والخبز في أزقة البصرة، لكنه لم يكن مثل أقرانه من الصبيان متطلعاً إلى ملاهي الدنيا، بل كان ينفق حصيلة ما يجمعه في نهاره، لاستئجار دكاكين الورّاقين في ليله، ليتمكن من قراءة ما يُحب من المؤلفات التي يعشقها.
حكى عن نفسه قال:- ما أخجلني قط إلا امرأة، أخذت بيدي إلى نجار،
وقالت:- مثل هذا، ومضت. فعجبت، وسألت النجار عن قولها فقال:- أتت إلي وقالت:- أن
أصنع لها صورة تخوف بها أولادها، وأتت بك مثالاً.
ودخل عليه يوماً غلام، فرآه يجتهد في الدعاء، فقال:- ما بك يا مولاي؟ قال: وجدت نفسي أني صرت هزوءاً للناس، فأنا أدعو الله أن يصلح ما بي من العيوب. فقال: أيسر عليه أن يصنعك جديداً.
الجاحظ وأمه:-
حكى الجاحظ أنه في حداثته كانت أمه تعذله ولا يشتغل إلَّا بطلب العلم، فوضعت أمه ذات يوم كراريسه على طبقٍ وقدمته إليه.
فقال: ما هذا، فقالت: “ما تجيء إلَّا بهذا، فخرج مُغتمَّاً إلى الجامع، ومويس بن عمران جالس، فرءآه مغتماً، فقال: ما شأنك؟ فحدَّثه بالحديث، فأدخله المنزل وقرَّب منه الطعام، ثم أعطاه خمسين ديناراً، فدخل بها السوق، واشترى بها الدقيق الكثير وحمله على الحمالين إلى داره.
فما أدخلوها بيته؛ أنكرت الأم ذلك، وقالت لهم: غلطتُّم بالطريق، قالوا: أليس هذا منزل الجاحظ، قالت: بلى، قالوا: فهو بعَثَ بنا، قالت: فإنه لم يتغدَّ اليوم.
فتركت كُل ذلك أمَّه، إلى أن دخل الجاحظ، فقالت في ذلك: من أين لك ذلك؟، قال: من الكراريس التي قدمتيها!!.
رواية المسعودي:-
يتحدث الجغرافي والرحالة أبو الحسن المسعودي في كتابه الشهير “مروج الذهب” عن بعضِّ أقوالِّ الجاحظ والمواقف التي رافقته.
ومن ذلك؛ أن بعضهم جاءوا لزيارته بعدما شابَّ وأصابَّ من عُمره ما أصاب، فسألوه عن حاله، فأجابهم قائلاً: عليلٌّ في مكانين، من الأسقام والدِّين، ثم استأنف، “أنا في هذه العِلّة المُتناقضة التي يُتخوَّفُ من بعضها التلفُّ، وأعظمها نيّفٌ وسبعون سنة”. ولامَ الجاحظ قريباً له لإمضائه وقته في تلبية حوائج الناس، قائلاً له: “قد أتعبتَ بذلك بدنك، وأخلقتَ ثيابك، وأعجفتَ بِرذونك، وقتلتَ غُلامك، فما لكَ راحةٌ ولا قرارٌّ، فلو اقتصدت بعض الاقتصاد”، على ما رواه المسعودي.
وكُتب الجاحظ ، تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنهُ نظمها أحسن نَظم، وصفها أحسَن رصف، وكساها من كلامه أجزَل لَفظ، وكان إذا تخوَّف مَلَلَ القارئ وسآمة السامع؛ خرج من جدٍ إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة، بحسب المسعودي.
عبقرية الجاحظ:-
تعرَّض الدكتور رشيد خيون إلى مظاهر عبقرية الجاحظ وابداعه والتي أبقت ذكراه حيّةً إلى يومنا هذا كأحد أكبر الأدباء الذين أنجبتهم الحضارة العربية الإسلامية.
ويقول خيون في كتابه “معتزلة البصرة وبغداد”: إن أبا عثمان الجاحظ صاحب موهبة ما تزال تستهوي المستكشفين، كما بقيت نصائحه حيوية في نفوس المؤلفين والمترجمين، مشيراً إلى أن موهبة صاحب “البخلاء”، ما كانت لتحلِّق في عنان السماء في غير مضمار، لولا تفضيله الاعتزال سبيلاً.
ويزيد خيون بالقول: إنه، وفضلاً عن كلماته التي تدخل المسرة في النفوس؛ فقد نحل من مؤلفات الجاحظ معظم أولئك الذين طرقوا باب التأليف في كتب السَمر والمعلومات العامة من قبيل “العقد الفريد” و”المستطرف” و” الكشكول” و”الإمتاع والمؤآنسة”.
ويعتقد خيون بأن الجاحظ كان أوفر حظاً من سواه من حيث نصيبه في تسجيل أخباره وتناقل أفكاره ووصاياه، وذلك مرتبط بتوسع وتنوع اهتماماته، لأنك ستجده متكلِّما بين المتكلمين، ولغوي بين أصحاب اللغة، ناهيك عن كونه أديب وشاعر وباحث في البيئتين النباتية والحيوانية، ومواكب متابع للواقع.
وأضاف المفكر العراقي المعاصر، إن الجاحظ اتسم بالأمانة العلمية من خلال عدم تجاوزه على أفكار الآخرين، باعتباره نسيج وحده بين أهل الفكر، في السابق واللاحق، لكن ما جاد به قلمه، لم يجد ذات الصدى بين الجميع، ذلك لأنه وليد بيئته ومجتمعه الذي ينصف ويجحف بتطرُّف.
هذا المجتمع؛ أوجد للجاحظ من يحبه ومن يغتاظ منه ويكرهه، إذ عاصره من فضَّل كتبه على نعيم الجنة، في مقابل وجود آخرين شبهوه بالخنزير ووسموه بالجهل.
لكن هناك من أوفاه حقه ومنحه قدره، فقد قال أبو الحسن الفروزي عن الجاحظ: “وهو أشهر وأظهر في العامة والخاصة من أن يُرى، وكان إذا خلا بكتاب؛ أعطاه حقَّهُ”.
الجاحظ ووصوفه البديعة:-
يُعتبرُ الجاحظ أحد أكبر الأدباء في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، ولتقريب الصورة من كتاباته، سنسوقُ مثالين إثنين أحدهما يصِف فيه الحَسَد، والثاني يتناول أفضل الكَلام، فيقول:
- الحسَدُ -أبقاك الله- داءٌ يُنهِك الجسد، علاجه عسيرٌ وصاحبه ضَجِر، وهو بابٌ غامض، وما ظَهَرَ منه فلا يُداوى، وما بَطَنَ منه فمداويه في عناء، ولذلك قال النَّبي صلى الله عليه وسلَّم “دَب إليكم داءُ الأُمم من قبلكم، الحَسَدَ والبَغْضاءُ”، والحَسَدُ عقيدُ الكُّفر، وحليفُ الباطِل، وضِدّ الحَق، منه تتولَّد العداوةُ، وهو سببُ كل قطيعة، ومُفرِّق كل جماعة، وقاطع كُلّ رَحِم مِنَ الأقرِباء، ومُحدِثٌ للتفرُّق بين القُرَناء، ومُلقح الشرِّ بين الحُلَفاء.
- أفضلُ الكَلام ما كانَ قليله يُغني عن كثيره، ومعناهُ ظاهِراً في لفظِهِ، وكأن الله قد ألبَسَهُ من ثيابِ الجلالة، وغَشاه مِن نوُر الحِكمة، على حسب نِيَّةِ صاحبهِ وتقوى قائلهِ- فإذا كان المعنى شريفاً واللَّفظُ بليغاً صحيح الطَّبعِ، بعيداً من الاستكراه، مُنَزَّهاً عن الاختلال، مَصُوناً عن التكلُّف، صَنَعَ في القُلوبِ صنيع الغيث في التُّربةِ الكريمة، ومتى فُصَّلت الكَلِمة على هذه الشَّريطة، ونفذت مِن قائلها على هذه الصِّفة؛ كَسَاها اللهُ من التوفيق، وَمنَحَها من التأْييد ما لا يمتنعُ من تعظيمها به صدور الجبابرة، ولا يَذهَلُ عن فهمِها معهُ عُقولُ الجَهَلَة.
ميزة الصين الصِّناعة، فهُم أصحاب السبكِ والصياغةِ والإفراغِ، والإذابة، والأصباغِ العجيبة، وأصحاب الخَرطِ، والنَّحْت، والتَّصاوير، والنَّسْج، واليونانيون يعرفون العِللَ، ولا يُباشرون العَمَل، وميزتهم الحكم والآداب. والعَرَب لم يكونوا تجَّاراً ولا صناعاً، ولا أطباء، ولا حُسَّاباً، ولا أصحاب فِلاحَة، فيكونوا مَهَنة، ولا أصحاب زرعٍ لخوفهم من صغار الجزية.. ولا طلبوا المَعاش من ألسنة المكاييل، ورؤوس الموازين، ولا عرفوا الدَّوانيق، والقراريط، فحين حملوا حدَّهُم، ووجَّهوا قُواهم إلى قولِ الشِّعْر، وبلاغةِ المنطق، وتشقيق اللُّغة، وتصاريف الكلام وقيافة البَشَر، بعد قِيافةِ الأَثر، وحفظ النَّسب والاهتداء بالنُّجوم، والاستدلالِ بالآثار، وتعرِف بالأنواء، والبصر بالخيلِ، والسِّلاح، وآلة الحَرْب، والحِفْظَ لكلِّ مسموع، والاعتبار بكلِّ محسوسٍ، وإحكامِ شأن المناقب، والمثالب- بلغوا في ذلك الغاية… وميزة آل ساسان (الفُرس) في المُلْكِ والسَّياسة،،، والأتراك في الحُروب.. وليسَ في الأرض كُل تركيٍّ كما وصفنا، كما أنه ليس كل يوناني حكيماً، ولا كل صيني في غايةٍ من الحذق، ولا كُل أعرابي شاعراً، قائفاً. ولكِن هذه الأمور في هؤلاء أعمَّ وأتَمّ.
— من رسائل الجاحظ.
مصادر دخل الجاحظ:-
كان الجاحظ كغيره من الأدباء والنحويين وحتى الأطباء، يحصلون على مكافآت أو أتعاب من قِبَل الجهات التي يقدَّمون أعمالهم وخدماتهم لها.
وقد أورد الدكتور شوقي ضيف في كتابه “العصر العباسي الثاني”؛ القيم المالية التي تسلَّمها الجاحظ من الدولة نظير مؤلفاته، وهي على النحو الآتي:
- أهدى كتابه “الحيوان” إلى محمد بن عبد الملك الزيَّات (من رجال الدولة)؛ فأعطى الثاني للأول خمسة الآف دينار.
- أهدى كتابه “البيان والتبيين” إلى أحمد بن أبي داوود (من رجال الدولة)؛ فأعطاه أيضاً خمسة الآف دينار.
- أهدى كتابه “الزرع والنخيل” إلى إبراهيم بن العباس الصولي (من رجال الدولة)؛ فأعطاه مثلهما خمسة الآف دينار.
- صنَّف للفتح ابن خاقان وزير الخليفة المتوكل رسالته في فضائل الترك؛ فأجرى عليه راتباً شهرياً من خزانة الدولة ( معجم الأدباء لياقوت الحموي).
وفاته:-
توفّي الجاحظ في البصرة عام 255 هجرية، وكانَ قبل ذلك قد أصيب بالفالج (الشلل النصفي)، فكانَ يطلي نصفُ الأيمن بالصندل والكافور لشدّة حرارته، أما النصفُّ الآخر؛ فلو قُرِضَ بالمقاريض لما أحسَّ بها من خدَرِهِ وشدّة بَردهِ.
غادر الجاحظ حياته محاطاً بمؤلفاته وكتب الغير التي عثر عليها تحاصره، فقد سقطت مجلدات مكتبه على صدره وأطرافه، منهياً مسيرة أحد أبرز أعلام الأدب العربي.
وأخيراً؛ نختتم حديثنا بقولنا:- إن الجاحظ كان أمة ودائرة معارف، لا نزال حتى اليوم نتتلمذ على تراثه، وننهل من فيض أدبه وغزير علمه، ونمتع الروح والنفس برواية فكاهاته، والتحدث عن سخرياته، وكما يندر أن نجد أديباً، أو باحثاً في الأدب، أو ناقداً، أو صاحب مذهب ديني أو فكري، إلا وفي كتبه مقتبسات الجاحظ، واستشهاداً بآرائه.
المصادر:-