اسمه ونشأته:-
أحمد بن سهل، أبو زيد البَلْخِيُّ ، أحد أعلام الإسلام الموسوعيين، وُلِدَ في قرية شامِسْتِيان من قرى بَلْخ سنة 235هـ-849م، ونشأ في أسرة فقيرة، وكان والده معلماً للصبيان.
مكانته العلمية:-
كان فاضلاً، قيماً بجميع العلوم القديمة والحديثة، جمع بين الشريعة والفلسفة والأدب والفنون والتاريخ، وقد تبوأ منزلة رفيعة بين علماء العرب المسلمين في القرنين الثالث والرابع الهجري، وبلغ رتبة الإمامة، وتراثه العلمي الذي خلَّفه يدل على ذلك، كما يدل على تضلعه في شتى العلوم والفنون.
قام برحلة طويلة دامت ثماني
سنوات جاب فيها البلاد، وزار فيها بغداد التي كانت مهد العلوم ومركز الإشعاع
العلمي والحضاري، ثم أعاده الحنين إلى مسقط رأسه في بَلْخ بعد أن أصبح عالماً
كبيراً يُشَار إليه بالبنان، وعلت شهرته فيها، فعرض عليها الحاكم الوزارة فرفض
ذلك، وعرض عليه الكتابة فوافق على ذلك، وكان يعيش منها إلى أن توفي.
برع في علوم عدة؛ ومن أشهر
هذه العلوم التي برع فيها:
- الفلك.
- الرياضيات والهندسة.
- الفلسفة والحكمة.
- الكيمياء.
- العلوم الإنسانية؛ كالتاريخ، والسير، والجغرافية، والسياسة، وأصول الدين والتفسير، وعلم الكلام، والنحو واللغة، والأدب والشعر.
وقد سبق علماء البلدان في
الإسلام كافة إلى استعمال رسم الأرض في كتابه «صور الأقاليم الإسلامية»، ويعد رائد
علم الجغرافية العربية، وقد اهتم العلماء كثيراً بكتابه «صور الأقاليم»؛ كابن حَوْقَل
وغيره.
أبو زيد البلخي عند الحموي:-
قال ياقوت الحموي: “كان فاضلاً قائماً بجميع العلوم القديمة والحديثة، يسلك في مصنفاته طريقة الفلاسفة، إلا أنه بأهل الأدب أشبه، وكان معلماً للصبيان، ثم رفعه العلم إلى مرتبة عَلِيَّةٍ”.
وقال ياقوت أيضاً عن أبي زيد : “..نفسه دعته في عنفوان شبابه إلى أن يرحل عن بلخ ويدخل أرض العراق ويجثو بين أيدي العلماء ويقتبس منهم العلوم، فتوجَّه إليها راحلاً مع الحاج، وأقام بها ثماني سنوات، فطوَّف البلاد المتاخمة لها، ولقيَ الكبار والأعيان، وتتلمذ لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، وحصَّل من عنده علوماً جمَّة، وتعمَّق في علم الفلسفة، وهَجَمَ على أسرار علم التنجيم والهيئة، وبرز في علوم الطب والطبائع وبحث في أصول الدين”.
روى الحموي قصَّةً حَصَلت لهُ مع أحِد كُتُب البلخي، حيث قال ياقوت: كُنتُ في سنة سبع وستمائة قد توجَّهتُ إلى الشَّام، وفي صُحبتي كُتُبٌ من كُتُبِ العِلم أتَّجِرُ فيها، وكان في جُملتها كتاب صُوَرِ الأقاليم للبلخي، نُسْخَةً رائقةً مَليحةَ الخَطِّ والتَّصوير، فقُلتُ في نفسي: لوكَانت هذهِ النُّسخة لِمن يجتَدي بها بعض الملوك ويكتُبُ معها هذه الأبيات – وقُلتها ارتجالاً- لكَانَ حَسَناً:
أقوال العلماء فيه:-
وقال أبو محمد الحسن الوزيري: “كان صموتاً، سكِّيتاً، ذا وقار وهيبة، وكان ضابطاً لنفسه، ذا وقار، وحسن، واستبصار”، وقال عنه أيضاً: “كان قويم اللسان جميل البيان، متثبتاً، نَزْر الشعر، قليل البديهة، واسع الكلام في الرسائل والتأليفات، إذا أخذ في الكلام أمطر اللآلئ المنثورة، وكان قليل المناظرة وحسن العبارة”.
أبو حيان التوحيدي وَصَفَ البلخي في كتابه “تقريظ الجاحظ” قائلاً: .. ” والثالث أبو زيد أحمد بن سَهل البلخي، فإنه لم يتقدم له شبيه في الأعصر الأول، ولا يُظن أنه يوجد له نظير في مستأنف الدهر”.
وزاد التوحيدي في سياق حديثه عن البلخي “ومن تصفُح كلامه في كتاب أقسام العلوم، وفي كتاب أخلاق الأمم، وفي كتاب نظم القرآن، وفي كتاب اختيار السيرة، وفي رسائله إلى إخوانه وجوابه عما يُسأل عنه ويبده به؛ علمٌ أنه بحر البحور، وأنه عالم معطاء، وما رؤي في النَّاس من جَمَعَ الحِكمة والشريعة سواه، وأن القول فيه لكثير”.
أبو زيد البَلْخِيُّ عند البيهقي:-
تحدث البيهقي عن البلخي وذلك في كتابه “تاريخ حكماء الإسلام” ، قائلاً : كان من حكماء الإسلام وفصحائه وبلغائه، وله تصانيف كثيرة في كُل فن، منها كتاب الأمد الأقصى، وكتاب وجوه الحكمة في الأوامر والنواهي الشرعية، وسمَّاه كتاب الإبانة عن علل الديانة، وكتاب في الأخلاق، وكُتُب أُخَر”… وروى بعض مقولاته وهي:
- للصدق أصل وفروع ونبات، من أكل من ثماره وجد حلاوة طعمه، والكذب عقيم لأ أصل له ولا ثمرة، فاحذره.
- إذا كَثُرَ الخُزَّان للأسرار زادت ضياعاً.
- إذا مدحك واحد بما ليس فيك؛ فلا تأمن أن يذمَّك أيضاً بما ليس فيك.
- من سرَّه ما ليس فيه من الفضائل؛ ساء ما فيه من الرذائل.
- الشريعة الفلسفة الكبرى، ولا يكون الرجل متفلسفاً؛ حتى يكون متعبِّداً مواظباً على أداء أوامر الشرع.
- الدواء الأكبر هو العلم.
تحمل مقولاته المذكورة أعلاه؛ طابعاً فلسفياً، وهنا يصفه ابن النديم في “الفهرست” قائلاً: “.. وكان رجلاً فاضلاً في سائر العلوم القديمة والحديثة، تلا في تصنيفاته وتأليفاته طريقة الفلاسفة، إلَّا أنه بأهل الأدب أشبه، وإليهم أقرب”.
أبو زيد البَلْخِيُّ وصحة النفس والبدن:-
لقد قرَّر البلخي بأن النفس الإنسانية تتعرض للمرض، كما تتعرَّض لها الأجسام، بل إن الأعراض النفسية أكثر ملازمة للإنسان، مشدداً على أهمية مراعاة مصالح هذه النفس الإنسانية ووقايتها من الاضطراب.
وقد درس البلخي وشرَّح العلاقة المتبادلة بين صحة النفس والبدن وطرح كلاماً نظرياً تفصيلياً وافياً يتحدث فيه عن تأثير كل منهما على الآخر.
كما نظر إلى الشخص من زاويته الجسمية والنفسية في الوقت ذاته، معتبراً أن حفظ صحته لا يتحقق دون النظر إليهما باعتبارهما وحدة متكاملة.
وقد اتضحت التداخلات النفسية الجسدية التي جاء البلخي على ذكرها تحت عدة عناوين، هي المساكن والمياه والأهوية والنوم والباه والسماع والغضب والخوف والحزن والوسواس.
وقد صرَّح البلخي عن التأثير المتبادل للصحة النفسية والجسدية أو البدنية بالقول: ” فإن الإنسان إنما قوامه بنفسه وبدنه، وليس يتوهَّم له بقاء إلا باجتماعهما، لتظهر منه الأفعال الإنسانية، فهما يشتركان في الأحداث النائبة، والآلام العارضة، وكما أن البدن إذ سقم وألم وعرضت له الأعراض المؤذية، منع قوى النفس من الفهم والمعرفة وغيرهما أن تفعل أفعالها على وجهها ويتفرع معها الإنسان للقيام بما يقلقها ويؤذيها كان في ذلك ما يشغل الإنسان من الاستمتاع باللذات البدنية وأخذ كل شيء منها على سبيله، ووجد عيشه مكدَّر، وحياته متنغصة عليه، بل ربما أداه تحمل الآلام النفسانية عليه إلى الأمراض البدنية”.
أي أن البلخي طرح مبكراً ؛ العوامل النفسية المسببة للاضطرابات العضوية.
أبو زيد البَلْخِيُّ الرائد في علم الصحة النفسية:-
لقد كشف البلخي في مقالة حفظ النفس، وهي الواردة في كتابه “مصالح الأبدان والأنفس”؛ النقاب عن تحليلات عميقة في علم الصحة النفسية، ليستحق عن جدارة أن يطلق عليك لقب الرائد في هذا المضمار، إذ أن طروحاته في هذا الصدد؛ جعلت الطب والصحة النفسية فرعاً مستقلاً متميزاً بشخصيته.
كما أن تحريره لعلم الصحة النفسية من علوم ما وراء الطبيعة، ووضعه في صف العلوم التطبيقية؛ بعتبر نقلة تاريخية في مسار هذا العلم، حيث جاء بنظرية متكاملة في تصنيف العوامل المسببة للاضطراب النفسي، يتفق مع ما هو مطروح في الوقت الراهن من حيث:
- أسباب نفسية وتطورية تقابل ما جاء على ذكره من تأثير الأعراض الداخلية للإنسان على قواه النفسية.
- أسباب اجتماعية وبيئية تناظر ما طرحه من تأثير الأعراض الخارجية المحيطة بالإنسان على قواه النفسية.
- أسباب حيوية تقابل إرجاعه بعض الاضطرابات النفسية إلى تأثيرات مادية في الجسم، كما هو الحال في حالات الحزن والوسواس.
مقولاته في مجال الصحة النفسية:-
للبلخي عدة مقولات في مجال الصحة النفسية وعلاقتها بصحة الجسد، فيما يلي بعضها:
- فكما أنه يجب أن يبدأ في باب مصلحة البدن بحفظ صحته عليه، ثم يتبع ذلك بإعادة صحته إليه إذا فقدت، كذلك يجب في مصلحة النفس أنه يبدأ بحفظ صحتها عليها إذا وجِدَت، وإذا كانت صحتها إنما هي في سكون قواها كما وصفنا، فينبغي لمن أراد حفظ الصحة؛ أن يجتهد في استدامة قوى نفسه، والَّا يهيج به منها هائج.
- كذلك النفس إنما تحفظ صحتها عليها من وجهين: أحدهما أن تصان عن الأعراض الخارجية التي هي ورود ما يرد عليها من الأشياء التي يسمعها الإنسان أو يبصرها، فتقلقه وتضجره، وتحرِّك منه قوة غضب أو فزع أو غم أو خوف وما أشبه ذلك، والآخر: أن تُصان عن الأعراض الداخلية التي هي التفكير فيما يؤديه إلى شيء مما وصفنا من هذه الأعراض، فيشغل قلبه وينقسم ضميره.
تلاميذه:-
- أبو جعفر الخازن.
- أبو الحسن العامري النيسابوري.
- أبو بكر الرازي.
- أبو محمد الوزيري.
- معن بن فرعون.
المؤلفات:-
لأبي زيد البلخي الكثير من
الكتب في شتى العلوم، فقد ألَّف في التاريخ والسير، والسياسة والملك، والشعر،
والنحو والصرف، والجغرافية، والرياضيات، وعلوم القرآن الكريم وتفسيره، والفلسفة
والحكمة، وقد ضاع أغلب هذه الكتب ولم يبقَ منها إلا القليل؛ ومن أشهر كتبه:
- أقسام العلوم.
- شرائع الأديان.
- اختيارات السير.
- السياسة الكبير.
- السياسة الصغير.
- كمال الدين.
- فضل صناعة الكتابة.
- مصالح الأبدان والأنفس، ويعرف بالمقالتين.
- أسماء الله تعالى وصفاته.
- صناعة الشعر.
- فضيلة علم الأخبار.
- الأسماء والكنى والألقاب.
- أسامي الأشياء.
- النحو والتصريف.
- الصورة والمصور.
- رسالته في حدود الفلسفة.
- ما يصح من أحكام النجوم.
- الرد على عبدة الأوثان.
- فضيلة علوم الرياضيات.
- أقسام علوم الفلسفة.
- كتاب القرابين والذبائح.
- عصمة الأنبياء.
- نظم القرآن.
- قوارع القرآن.
- الفتاك والنساك.
- ما أغلق من غريب القرآن.
- تفسير صور كتاب السماء والعالم لأبي جعفر الخازن.
- الشطرنج.
- فضائل مكة على سائر البقاع.
- مدح الوراقة.
- صفات الأمم.
- القرود.
- فضل الملك.
- المختصر في اللغة.
- تفسير الفاتحة والحروف المقطعة في أوائل السور.
- أخلاق الأمم.
نهاية مسيرة:-
توفي أبو زيد البَلْخِيُّ في بَلْخ، يوم السبت، 20 ذي القعدة، سنة 322هـ-934م، وقد عاش 87 سنة.
المصادر:–
- أبو زيد البلخي وسيرته العلمية – مجلة جامعة الأنبار للعلوم الإنسانية – العدد الثالث – أيلول – 2012م.
- العصر العباسي الثاني، شوقي ضيف.
- الوقاية من الأمراض النفسية وعلاجها في الطب العربي الإسلامي، محمود الحاج قاسم محمد.
- مصالح الأبدان والأنفُس للبلخي، دراسة مالك بدري ومصطفى عشوي.
- أخبار ونوادر من عالم الأدب والتراث، عبد الرحمن الفرحان.
- الأعلام (1/134).
- بغية الوعاة (1/311/رقم 581).
- معجم الأدباء (1/274).
https://jamestown.org/wp-content/uploads/2009/11/mazar-e-sharif.jpg?x82162
اسمه ونشأته:-
أحمد بن سهل، أبو زيد البَلْخِيُّ ، أحد أعلام الإسلام الموسوعيين، وُلِدَ في قرية شامِسْتِيان من قرى بَلْخ سنة 235هـ-849م، ونشأ في أسرة فقيرة، وكان والده معلماً للصبيان.
مكانته العلمية:-
كان فاضلاً، قيماً بجميع العلوم القديمة والحديثة، جمع بين الشريعة والفلسفة والأدب والفنون والتاريخ، وقد تبوأ منزلة رفيعة بين علماء العرب المسلمين في القرنين الثالث والرابع الهجري، وبلغ رتبة الإمامة، وتراثه العلمي الذي خلَّفه يدل على ذلك، كما يدل على تضلعه في شتى العلوم والفنون.
قام برحلة طويلة دامت ثماني
سنوات جاب فيها البلاد، وزار فيها بغداد التي كانت مهد العلوم ومركز الإشعاع
العلمي والحضاري، ثم أعاده الحنين إلى مسقط رأسه في بَلْخ بعد أن أصبح عالماً
كبيراً يُشَار إليه بالبنان، وعلت شهرته فيها، فعرض عليها الحاكم الوزارة فرفض
ذلك، وعرض عليه الكتابة فوافق على ذلك، وكان يعيش منها إلى أن توفي.
برع في علوم عدة؛ ومن أشهر
هذه العلوم التي برع فيها:
- الفلك.
- الرياضيات والهندسة.
- الفلسفة والحكمة.
- الكيمياء.
- العلوم الإنسانية؛ كالتاريخ، والسير، والجغرافية، والسياسة، وأصول الدين والتفسير، وعلم الكلام، والنحو واللغة، والأدب والشعر.
وقد سبق علماء البلدان في
الإسلام كافة إلى استعمال رسم الأرض في كتابه «صور الأقاليم الإسلامية»، ويعد رائد
علم الجغرافية العربية، وقد اهتم العلماء كثيراً بكتابه «صور الأقاليم»؛ كابن حَوْقَل
وغيره.
أبو زيد البلخي عند الحموي:-
قال ياقوت الحموي: “كان فاضلاً قائماً بجميع العلوم القديمة والحديثة، يسلك في مصنفاته طريقة الفلاسفة، إلا أنه بأهل الأدب أشبه، وكان معلماً للصبيان، ثم رفعه العلم إلى مرتبة عَلِيَّةٍ”.
وقال ياقوت أيضاً عن أبي زيد : “..نفسه دعته في عنفوان شبابه إلى أن يرحل عن بلخ ويدخل أرض العراق ويجثو بين أيدي العلماء ويقتبس منهم العلوم، فتوجَّه إليها راحلاً مع الحاج، وأقام بها ثماني سنوات، فطوَّف البلاد المتاخمة لها، ولقيَ الكبار والأعيان، وتتلمذ لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، وحصَّل من عنده علوماً جمَّة، وتعمَّق في علم الفلسفة، وهَجَمَ على أسرار علم التنجيم والهيئة، وبرز في علوم الطب والطبائع وبحث في أصول الدين”.
روى الحموي قصَّةً حَصَلت لهُ مع أحِد كُتُب البلخي، حيث قال ياقوت: كُنتُ في سنة سبع وستمائة قد توجَّهتُ إلى الشَّام، وفي صُحبتي كُتُبٌ من كُتُبِ العِلم أتَّجِرُ فيها، وكان في جُملتها كتاب صُوَرِ الأقاليم للبلخي، نُسْخَةً رائقةً مَليحةَ الخَطِّ والتَّصوير، فقُلتُ في نفسي: لوكَانت هذهِ النُّسخة لِمن يجتَدي بها بعض الملوك ويكتُبُ معها هذه الأبيات – وقُلتها ارتجالاً- لكَانَ حَسَناً:
أقوال العلماء فيه:-
وقال أبو محمد الحسن الوزيري: “كان صموتاً، سكِّيتاً، ذا وقار وهيبة، وكان ضابطاً لنفسه، ذا وقار، وحسن، واستبصار”، وقال عنه أيضاً: “كان قويم اللسان جميل البيان، متثبتاً، نَزْر الشعر، قليل البديهة، واسع الكلام في الرسائل والتأليفات، إذا أخذ في الكلام أمطر اللآلئ المنثورة، وكان قليل المناظرة وحسن العبارة”.
أبو حيان التوحيدي وَصَفَ البلخي في كتابه “تقريظ الجاحظ” قائلاً: .. ” والثالث أبو زيد أحمد بن سَهل البلخي، فإنه لم يتقدم له شبيه في الأعصر الأول، ولا يُظن أنه يوجد له نظير في مستأنف الدهر”.
وزاد التوحيدي في سياق حديثه عن البلخي “ومن تصفُح كلامه في كتاب أقسام العلوم، وفي كتاب أخلاق الأمم، وفي كتاب نظم القرآن، وفي كتاب اختيار السيرة، وفي رسائله إلى إخوانه وجوابه عما يُسأل عنه ويبده به؛ علمٌ أنه بحر البحور، وأنه عالم معطاء، وما رؤي في النَّاس من جَمَعَ الحِكمة والشريعة سواه، وأن القول فيه لكثير”.
أبو زيد البَلْخِيُّ عند البيهقي:-
تحدث البيهقي عن البلخي وذلك في كتابه “تاريخ حكماء الإسلام” ، قائلاً : كان من حكماء الإسلام وفصحائه وبلغائه، وله تصانيف كثيرة في كُل فن، منها كتاب الأمد الأقصى، وكتاب وجوه الحكمة في الأوامر والنواهي الشرعية، وسمَّاه كتاب الإبانة عن علل الديانة، وكتاب في الأخلاق، وكُتُب أُخَر”… وروى بعض مقولاته وهي:
- للصدق أصل وفروع ونبات، من أكل من ثماره وجد حلاوة طعمه، والكذب عقيم لأ أصل له ولا ثمرة، فاحذره.
- إذا كَثُرَ الخُزَّان للأسرار زادت ضياعاً.
- إذا مدحك واحد بما ليس فيك؛ فلا تأمن أن يذمَّك أيضاً بما ليس فيك.
- من سرَّه ما ليس فيه من الفضائل؛ ساء ما فيه من الرذائل.
- الشريعة الفلسفة الكبرى، ولا يكون الرجل متفلسفاً؛ حتى يكون متعبِّداً مواظباً على أداء أوامر الشرع.
- الدواء الأكبر هو العلم.
تحمل مقولاته المذكورة أعلاه؛ طابعاً فلسفياً، وهنا يصفه ابن النديم في “الفهرست” قائلاً: “.. وكان رجلاً فاضلاً في سائر العلوم القديمة والحديثة، تلا في تصنيفاته وتأليفاته طريقة الفلاسفة، إلَّا أنه بأهل الأدب أشبه، وإليهم أقرب”.
أبو زيد البَلْخِيُّ وصحة النفس والبدن:-
لقد قرَّر البلخي بأن النفس الإنسانية تتعرض للمرض، كما تتعرَّض لها الأجسام، بل إن الأعراض النفسية أكثر ملازمة للإنسان، مشدداً على أهمية مراعاة مصالح هذه النفس الإنسانية ووقايتها من الاضطراب.
وقد درس البلخي وشرَّح العلاقة المتبادلة بين صحة النفس والبدن وطرح كلاماً نظرياً تفصيلياً وافياً يتحدث فيه عن تأثير كل منهما على الآخر.
كما نظر إلى الشخص من زاويته الجسمية والنفسية في الوقت ذاته، معتبراً أن حفظ صحته لا يتحقق دون النظر إليهما باعتبارهما وحدة متكاملة.
وقد اتضحت التداخلات النفسية الجسدية التي جاء البلخي على ذكرها تحت عدة عناوين، هي المساكن والمياه والأهوية والنوم والباه والسماع والغضب والخوف والحزن والوسواس.
وقد صرَّح البلخي عن التأثير المتبادل للصحة النفسية والجسدية أو البدنية بالقول: ” فإن الإنسان إنما قوامه بنفسه وبدنه، وليس يتوهَّم له بقاء إلا باجتماعهما، لتظهر منه الأفعال الإنسانية، فهما يشتركان في الأحداث النائبة، والآلام العارضة، وكما أن البدن إذ سقم وألم وعرضت له الأعراض المؤذية، منع قوى النفس من الفهم والمعرفة وغيرهما أن تفعل أفعالها على وجهها ويتفرع معها الإنسان للقيام بما يقلقها ويؤذيها كان في ذلك ما يشغل الإنسان من الاستمتاع باللذات البدنية وأخذ كل شيء منها على سبيله، ووجد عيشه مكدَّر، وحياته متنغصة عليه، بل ربما أداه تحمل الآلام النفسانية عليه إلى الأمراض البدنية”.
أي أن البلخي طرح مبكراً ؛ العوامل النفسية المسببة للاضطرابات العضوية.
أبو زيد البَلْخِيُّ الرائد في علم الصحة النفسية:-
لقد كشف البلخي في مقالة حفظ النفس، وهي الواردة في كتابه “مصالح الأبدان والأنفس”؛ النقاب عن تحليلات عميقة في علم الصحة النفسية، ليستحق عن جدارة أن يطلق عليك لقب الرائد في هذا المضمار، إذ أن طروحاته في هذا الصدد؛ جعلت الطب والصحة النفسية فرعاً مستقلاً متميزاً بشخصيته.
كما أن تحريره لعلم الصحة النفسية من علوم ما وراء الطبيعة، ووضعه في صف العلوم التطبيقية؛ بعتبر نقلة تاريخية في مسار هذا العلم، حيث جاء بنظرية متكاملة في تصنيف العوامل المسببة للاضطراب النفسي، يتفق مع ما هو مطروح في الوقت الراهن من حيث:
- أسباب نفسية وتطورية تقابل ما جاء على ذكره من تأثير الأعراض الداخلية للإنسان على قواه النفسية.
- أسباب اجتماعية وبيئية تناظر ما طرحه من تأثير الأعراض الخارجية المحيطة بالإنسان على قواه النفسية.
- أسباب حيوية تقابل إرجاعه بعض الاضطرابات النفسية إلى تأثيرات مادية في الجسم، كما هو الحال في حالات الحزن والوسواس.
مقولاته في مجال الصحة النفسية:-
للبلخي عدة مقولات في مجال الصحة النفسية وعلاقتها بصحة الجسد، فيما يلي بعضها:
- فكما أنه يجب أن يبدأ في باب مصلحة البدن بحفظ صحته عليه، ثم يتبع ذلك بإعادة صحته إليه إذا فقدت، كذلك يجب في مصلحة النفس أنه يبدأ بحفظ صحتها عليها إذا وجِدَت، وإذا كانت صحتها إنما هي في سكون قواها كما وصفنا، فينبغي لمن أراد حفظ الصحة؛ أن يجتهد في استدامة قوى نفسه، والَّا يهيج به منها هائج.
- كذلك النفس إنما تحفظ صحتها عليها من وجهين: أحدهما أن تصان عن الأعراض الخارجية التي هي ورود ما يرد عليها من الأشياء التي يسمعها الإنسان أو يبصرها، فتقلقه وتضجره، وتحرِّك منه قوة غضب أو فزع أو غم أو خوف وما أشبه ذلك، والآخر: أن تُصان عن الأعراض الداخلية التي هي التفكير فيما يؤديه إلى شيء مما وصفنا من هذه الأعراض، فيشغل قلبه وينقسم ضميره.
تلاميذه:-
- أبو جعفر الخازن.
- أبو الحسن العامري النيسابوري.
- أبو بكر الرازي.
- أبو محمد الوزيري.
- معن بن فرعون.
المؤلفات:-
لأبي زيد البلخي الكثير من
الكتب في شتى العلوم، فقد ألَّف في التاريخ والسير، والسياسة والملك، والشعر،
والنحو والصرف، والجغرافية، والرياضيات، وعلوم القرآن الكريم وتفسيره، والفلسفة
والحكمة، وقد ضاع أغلب هذه الكتب ولم يبقَ منها إلا القليل؛ ومن أشهر كتبه:
- أقسام العلوم.
- شرائع الأديان.
- اختيارات السير.
- السياسة الكبير.
- السياسة الصغير.
- كمال الدين.
- فضل صناعة الكتابة.
- مصالح الأبدان والأنفس، ويعرف بالمقالتين.
- أسماء الله تعالى وصفاته.
- صناعة الشعر.
- فضيلة علم الأخبار.
- الأسماء والكنى والألقاب.
- أسامي الأشياء.
- النحو والتصريف.
- الصورة والمصور.
- رسالته في حدود الفلسفة.
- ما يصح من أحكام النجوم.
- الرد على عبدة الأوثان.
- فضيلة علوم الرياضيات.
- أقسام علوم الفلسفة.
- كتاب القرابين والذبائح.
- عصمة الأنبياء.
- نظم القرآن.
- قوارع القرآن.
- الفتاك والنساك.
- ما أغلق من غريب القرآن.
- تفسير صور كتاب السماء والعالم لأبي جعفر الخازن.
- الشطرنج.
- فضائل مكة على سائر البقاع.
- مدح الوراقة.
- صفات الأمم.
- القرود.
- فضل الملك.
- المختصر في اللغة.
- تفسير الفاتحة والحروف المقطعة في أوائل السور.
- أخلاق الأمم.
نهاية مسيرة:-
توفي أبو زيد البَلْخِيُّ في بَلْخ، يوم السبت، 20 ذي القعدة، سنة 322هـ-934م، وقد عاش 87 سنة.
المصادر:–
- أبو زيد البلخي وسيرته العلمية – مجلة جامعة الأنبار للعلوم الإنسانية – العدد الثالث – أيلول – 2012م.
- العصر العباسي الثاني، شوقي ضيف.
- الوقاية من الأمراض النفسية وعلاجها في الطب العربي الإسلامي، محمود الحاج قاسم محمد.
- مصالح الأبدان والأنفُس للبلخي، دراسة مالك بدري ومصطفى عشوي.
- أخبار ونوادر من عالم الأدب والتراث، عبد الرحمن الفرحان.
- الأعلام (1/134).
- بغية الوعاة (1/311/رقم 581).
- معجم الأدباء (1/274).