إسحاق بن عمران هو طبيب من العراق، قَصَد القيروان في دولة زيادة الله بن الأغلب الثالث الذي حكم إفريقية (تونس) في القرن الثالث الهجري.
حمل ابن عمران – المولود في سامراء – لقَبَ ” ساعة ” ، وقد أقبل على تعلُّم الطب منذ وقت مبكر، مستفيداً من دخوله الدوائر العلمية المتصلة ببيت الحكمة، وهي المؤسسة العلمية والفلكية والثقافية التي كانت في مدينة بغداد.
وبعد أن نهل إسحاق بن عمران القدر الكافي من العلوم الطبية؛ قصَد مدينة القيروان وذلك سنة 224 هجرية (838 م) وذلك بناء على طلب من الأمير إبراهيم الأغلبي، ثمَّ تفرَّغ بعد ذلك لخدمة زيادة الله الثالث التميمي.
وكان زيادة الله بن الأغلب قد أغرى ابن إسحاق بالمجيء إليه حيث أرسل له راحلة تُقلُّه، وألف دينار لنفقته، وكتاب أمان بخطِّ يده وفيه أيضاً منحه الحرية الكاملة بالعودة إلى موطنه متى شاء، وهو الوعد الذي لم يفِ الحاكم به.
مكانة إسحاق بن عمران العلمية :-
قال المؤرخون وكاتبو السير الذاتية: إن العلم بصناعة الطب لم يدخل هذه البلاد قبل مجيء إسحاق بن عمران ، وهو الذي يُعتبر إلى جانب إسحاق بن سليمان الإسرائيلي وأبي جعفر أحمد بن الجزار، في طليعة الأطباء الذين ساهموا بإحداث تحول حقيقي في مجال الطب بالقيروان.
ويعتبر ابن إسحاق من أوائل من وصفوا بكل دراية تقريبا العديد من الحالات الاكتئابية البسيطة والمعقدة المعروفة حالياً.
- فقد قال عنه ابن أبي أصيبعة نقلاً عن ابن جلجل :” وبه ظَهَرَ الطِّب بالمغرب، وعُرِفَت الفلسفة، وكان طبيباً حاذقاً مميَّزاً بتأليف الأدوية المُركَّبة، بصيراً بتفرقة العلل، أشبهُ الأوائل في علمه وجودة قريحته”.
- وقال عنه الأستاذ الدكتور التونسي في مقالة: ” وترك ابن عمران أحد عشر مخطوطاً لم يصل إلينا منها إلا كتابه هذا في المالينخوليا، وقد اُعدِم ابن عمران في نهاية الأمر بإذن الله من زيادة الله الثالث لسبب تعلقه بالكرامة والشهامة وعزة النفس، وبمبادئ صناعة الطب السامية”، وزاد” تعرض إلى : أهمية التجسيد المرضى الذي يحدث في الملينوخوليا والحالات الاكتئابية المقنعة بأعراض جسدية، وهي كثيرة المشاهد في بلادنا في عصرنا الحالي.. ثمَّ إنَّهُ تعرَّض ألى أهمية الأحداث النفسية كالحُزن لفقدان محبوب ما، والقلق الشديد، فهذا العُنصران يُمثلان المحور الأساسي الذي يرتكز عليه التفسير السيكوباثولوجي الحديث لمرض الاكتئاب العصابي.. ثمَّ تعرَّض إلى الأصناف السريرية..، وكذلك لقد وصف الأصناف الهذيانية التي يصاحبها اضطراب في المحاكمة أو التمييز حتى يرى المريض الأشياء بخلاف ما هي عليه وهي تدور دائما حول مواضيع مؤلمة ومفزعة لا أساس كما، كما أنَّه وصف الأصناف الهلسية سمعية كانت أم ببصرية أم حسية باطنية أم حتى التي تشير إلى تناذر كوتار المتميز في شعور المريض بانعدام عضو أو حتى الجسد”.
مؤلفات إسحاق بن عمران :-
ترك الطبيب إسحاق بن عمران عدداً من الكتب والمؤلَّفات القيِّمة التي أكد في بعضها على أهمية الاعتناء بالصحة العامة وذلك بتنظيم الأسباب الاضطرارية الستة وهي: العمل والحركة السكون، والنوم واليقظة، الطعام والشراب، الهواء المتنسم والمستنشق، الاستفراغ والامتناع، وأخيراً الأحداث النفسية.. ومن بين أهم مؤلفاته:
- مقالة في علل القولنج وأنواعه وشرح أدويته التي كتبها إلى العباس وكيل إبراهيم بن الأغلب.
- مقالة وجيزة كتب بها إلى سعيد بن توفيل المتطبِّب في الإبانة عن الأشياء التي تشفي السِّقام.
- كتاب العروف بنزهة النفس.
- كتاب في الفصد.
- كتاب في النَّبض.
- كتاب تدبير الأمراض الحادة، وما ذُكِر فيها من الخمر.
- كتاب الأدوية المفردة.
- كتاب في البول من كلام أبقراط وجالينوس وغيرهما.
- كتاب له في بياض المعدة وروسب البول وبياض المني.
- كتاب جمع فيه أقاويل جالينوس في الشَّراب.
- مسائل مجموعة في الشراب على معنى ما ذهب إليه أبقراط وجالينوس.
- كتاب “العنصر والتمام” في المادة الطبية والذي استفاد منه لاحقاً ابن البيطار، واقتبس منه الأخير وذلك حينما أنشأ كتابه “الجامع في الأدوية المفردة”.
- كتاب “في داء المالنخوليا” الذي لم يسبق مثله، وهو الكتاب الوحيد الذي وصلنا من مؤلفاته، هو موجود في مكتبة ميونخ تحت رقم 805، والمالنخوليا، هي المرض المشهور بالسوداوي وبمرض الوسواس، ويرد اسمه في الكتب العربية على أشكال مختلفة من بينها “مالنخونية” و “مالنخوليا”.
وصفات إسحاق بن عمران :-
تحدَّث إسحاق بن عمران عن طبيعة النباتات وسُبُل الاستفادة منها في بناء الأدوية والعلاجات والترياقات المستخدمة لعلاج المرضى، ومن ذلك قوله:
- الكندس: عروق نبات داخله أصفر، وخارجُهُ أسود، ونباته يسمَّى الحرشف، ولون ورقه أرقط بياض وخضرة، والمستعمل منه العُروق.
- النسرين: نوَّار أبيض، وهو وردٌ بريٌّ يُشبه بياض الورد، وسمَّاه بعض الناس ورداً صينياً، وأكثر ما يوجد مع الورد الأبيض، وهو قريبٌ لقوَّة الياسمين.
- ريباس: بقلةٌ ذات عساليج غضَّة حمراء إلى الخُضرة، ولها ورقٌ كبار عراض مُدَوَّر، طعم عساليجها حلو بحُموضة، وهو باردٌ يابسٌ في الدرجة الثامية، ويدلُّ على ذلك حموضته وقبضه، فلذلك صار مقوِّياً للمعدة دابغاً لها، وقاطِعاً للعطش والقيء، ورُبّ الريباس؛ صالحٌ للخفقان، والقيء والإسهال الكائن من الصفراء، مقوٍ للمعدة، مُشَهٍّ للطعام، ورُبُّه فيه حلاوة وحموضة غير مُضرسة، وإنَّما يُستخرج من غسالة هذه البقلة، فإن تُدَق وتُطبَخ حتى يصير له قوام، وهوَ باردٌ يابسٌ.
- القرنفل: أصلٌ وعيدان، وثمرٌ يُؤتى به من بلاد الهند، وفيه العيدان، وفيه الرؤوس ذوات الشُّعَب وهو أجوده، وأجودهُ أصهبهُ، ومنه دِقاق وجلاك وجَلاكة، والمقطوع يقطع سلس البول، والتقطير عن برد ويُسخِّن أرحام النِّساء، وإن أرادت المرأة أن تحمِل شرِبَت في كُلِّ طُهْرٍ نصف درهم قرنفل، وإن أرادت ألا تحمِلَ تأخُذُ كُلَّ يومٍ حبة قُرُنفُل ذكر فتزدَردهَا، وإنْ شُربَ من القُرنفل نصف درهم مسحوقاً مع لبن حليب على الرِّيق، قوّى على الجِماع، ويُستعمل في الأدوية والطَّبيخ، وينفعُ أصحاب السَّوداء ويُطيّب النَّفس ويُفرِحُها، ويُنقِّي القيءَ والغثيان، ويُستعملُ في الأكحال التي تحدُّ البصر، ..ويُشجِّعُ القلب، ويقوِّي المعدة والكَبِد والأعضاء الباطنة..
نهاية ابن عمران ” ساعة ” :-
كانت نهاية ابن عمران ذات طبيعة مأساوية، تسبب فيها بطش ابن الأغلب من جهة، وطمع هذا الطَّبيب من جهة ثانية، وذلك وفقاً لما أورده الطبيب والمؤرِّخ الأندلسي ابن جلجل في كتابه “طبقات الأطباء والحكماء”.
فكما أشرنا سابقاً إلى أن إسحاق بن عمران ” ساعة ” ينتمي إلى العراق، وقد شدَّه الحنين إلى موطنه في الرَّغبة إلى العودة إليه، فتقدَّم مستأذناً طالباً من ابن الأغلب بالسَّماح له بالمغادرة، لكن الأخير رفض ذلك، وهو الأمر الذي أفضى إلى تردي العلاقة بينهما.
وبموازاة ذلك؛ تقرَّب طبيب آخر إلى ابن الأغلب ، وهو من يهود الأندلس، فأصبح يجيز له أكل ما نصحه ابن عمران ” ساعة ” بالابتعاد عنه مراعاة لما يُعاني منه ابن الأغلب من علَّة النسمة، أي ضيق التَّنفُس.
وحينما همَّ ابن الأغلب بتناول لبن رآه إسحاق مريباً ، فقد دعاه الأخير للامتناع عن أكله، بيد أن الطبيب اليهودي أجاز له ذلك، فأصيب الأول بضيق التنفُّس الذي كاد أن يزهق روحه.
وهنا أرسل ابن الأغلب أحد معاونيه إلى إسحاق ليسأله عن علاج ، فقال الأخير: “قد نهيته فلم يقبل مني، ليس عندي علاج”.
ومن باب الترغيب؛ قيل لإسحاق هذه خمسمائة مثقال وعالجه فرفض إلى أن وصل نحو ألف مثقال، فأخذها وأمر بإحضار الثلج وأمره بالأكل منه حتى تملأ، ثم قيأه فخرج جميع اللبن قد تجبن ببرد الثلج.
فقال إسحاق أيها الأمير لو دخل هذا اللبن إلى أنابيب رئتك ولحج فيها أهلكك بضيقة النفس، لكني أجهدته وأخرجته قبل وصوله.
فقال زيادة اللّه: باع إسحاق روحي في البدء اقطعوا رزقه، فلما قطع عنه الرزق خرج إلى وضع فسيح من رحاب القيروان، ووضع هنالك كُرسياً ودُواة وقراطيس فكان يكتب الصِّفات كل يوم بدنانير، فقيل: لزيادة اللّه عرضت لإسحاق الغني، فأمر بضمه إلى السجن، فتبعه الناس هنالك، ثم أخرجه بالليل إلى نفسه.
وكانت له معه حكايات ومعاتبات احنقته عليه لفرط جوره وسخف رأيه، فأمر بفصد إسحاق في ذراعيه جميعاً وسال دمه حتى مات ثم أمر به فصُلب وبقي مصلوباً زماناً طويلاً حتى عشَّش في جوفه طائر، وكان مما قال لزيادة اللّه في تلك الليلة: “واللّه أنك لتدعى بسيد العرب، وما أنت لها بسيد، ولقد سقيتك منذ دهر دواء ليفعلن في عقلك، وكان زيادة اللّه مجنوناً فتمخل ومات”.
وتقديراً لمساهمات هذا الطبيب الكبير؛ فقد أقدمت بعض المؤسَّسات على إطلاق اسمه على بعض أقسامها الطبية مثل قسم الأمراض النفسية في المستشفى الجامعي بتونس، وقسم الأمراض النفسية بالمصلحة الجامعية بالجزائر.
اقرأ أيضاً: البيمارستان النوري في دمشق .. أحد أبرز تجليات تقدم المسلمين في المجال الطبي
المصادر:-
- طبقات الأطباء، ابن أبي أصيبعة.
- طبقات الأطباء والحكماء، ابن جلجل.
- مقالة إسحاق بن عمران في المالينخوليا، د. سليم عمار.
- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، العمري.