رشيد الدين أبو حليقة .. التعريف به :-
يعتبر الطبيب العربي رشيد الدين أبو حليقة ، أحد العلامات المضيئة في سماء الحضارة العربية الإسلامية، وذلك من خلال حرصه على رهْن العمل بالأخلاق والنزاهة.
وقد سُمِّيَ طبيبنا بأبي حليقة لأنَّهُ كانت في أذنه حليقة.
هو أبو الوحش ابن الفارس أبي الخير بن داود بن أبي المنى بن أبي فانة، والذي وُلِدَ في قرية جعبر المشهورة بقلعتها والواقعة بمنطقة الرقَّة السورية المجاورة لنهر الفُرات وذلك سنة 1195 م (591 هـ).
وبحسب ما أورده ياقوت الحموي في “معجم البلدان”؛ فقد كانت قلعة جعبر تسمى قديماً قلعة دوسر؛ نسبة إلى دوسر غلام النعمان بن المنذر ملك الحيرة، فتملَّكها رجلٌ أعمى من بني قشير يقال له جعبر بن مالك، وكان يقطع الطريق ويختبئ بها.
اقرأ أيضاً: قلعة جعبر .. شاهد عيان على أحداث الشرق العربي
أبو حليقة ومكانته المهنية :-
أجمع المؤرخون والمختصون على المكانة الرفيعة التي احتلَّها الطبيب رشيد الدين أبو حليقة، إذ قيل إنه كان: ” أوحَد زمانه في الطِّب والعلوم الفلسفية والأدب، حسن المعالجة، رؤوفاً بالمرضى، كثير العبادة، مُحافظاً على أوامر الشَّريعة”.
قال عنه ابن أبي أصيبعة: “ولقد اجتمعتُ به مَرَّات، ورأيتُ من حُسْنِ مُعالجتهِ وعشرتهِ، وكمال مروءته ما يفوقُ الوَصْف..”.
وبهذه الأوصاف؛ يكون رشيد الدين بن داود مشابهاً في منهجه وأخلاقه للطبيب العملاق أبي بكر الرازي (865 -924م) الذي لم يكُن عطوفاً على المرضى فحسب؛ وإنَّما كان أيضاً يمنحهم النُّقود، ويواظب على متابعتهم عقب شفائهم من سقمهم.
أبو حليقة المتنقل :-
تنقَّل أبو حليقة من مسقط رأسه إلى غير موضع، فقصد الرَّها في الأناضول، وسار باتجاه دمشق والدِّيار المصرية التي مكث فيها طويلاً.
فقد اقتفى أثر مُعَلِّمَهُ وعمَّهُ مهذب الدين أبي سعيد، وذلك حينما رافقه في بداية مسيرته في عالم الطب بدمشق، فمارسه في الأخيرة بعد أن مكث فيها سنة تخلَّلها حفظه كتاب الفصول لأبقراط، قبل أن يقصد الديار المصرية، حيث تتملذ على يد الطبيب مهذَّب الدين عبد الرحيم بن علي.
ثم تفرَّغ لخدمة الملك الكامل ناصر الدين أبي المعالي ثم خَدَم نجلهُ الصَّالح نجم الدين أيوب، وذلك قبل مقتل الأخير على يد المماليك، ثم أنيطَت به مهمَّة معالجة وتطبيب الملك الظَّاهر بيبرس.
ويقول ابن أبي أصيبعة عن فترة خدمة أبي حليقة للملكين الكامل و الصَّالح: ” وصل إلى القاهرة في سنة تسع وخمسمائة، ولم يزَل مُقيماً بها، وخَدَمَ لصناعة الطِّب الملك الكامل، وكانَ كثير الاحترامِ لهُ، حظيَّاً عندهُ، ولهُ منهُ الإحسان الكثير، والإنعام المُتَّصِل، ولهُ خَبَزٌ بالدِّيار المصرية، وهو الذي كان مُقطَعاً باسم عمِّه موفق الدين أبي شاكر، فلمَّا تُوُفِّي أبو شاكر؛ جَعَلَ الملكُ الكامل هذا الخبز باسم رشيد الدين المذكور، وهو نصفُ بلَدٍ يُعرَفُ بالعزيزية والخربة من أعمال الشرقية ولَمْ يَزَل في خِدمَةِ الملكِ الكامل إلى أن تُوُفِّيَ رحمَهُ الله”.
وزاد” ثمَّ خَدَمَ بعدهُ ولده الصَّالح نجم الدين أيوب، إلى أن تُوُفِّيَ الصالح رحمهُ الله، وخَدَم أيضاً ولد الملك الصالح بعد ذلك، وهو الملك المُعظَّم ترنشاه، ولمَّا قُتِلَ رحمه الله، وذلك في يوم الإثنين سابع وعشرين المُحَرَّم سنة ثمان وأربعين وستمائة، وجاءت دولة التُّرْك واستولوا على البلاد، واحتووا على الممالك؛ صارَ في خدمتهم وأجروه على ما كان باسمه، ثُمَّ خَدَمَ منهُم الملك الظَّاهِر ركن الدين بيبرس الملك الصالج، وبقي في خدمته على عادته المستمرة وقاعدته المُستقرَّة، ولهُ منه الاحترام التَّام وجزيل الإنعام والإكرام..”.
نوادر أبي حليقة :-
كانت حياة رشيد الدين أبو حليقة غنيةً زاخرةً بالمواقف والنوادر، فيما يلي بعضاً منها:
- استطاع معرفة نبض الملك الكامل بين الجموع، فقد خرج للملك يوماً من خلف الستارة مع الآدر المرضى، فرأى نبض جميع الحاضرين ووصف ذلك لهم، وحينما انتهى إلى نبض الكامل عرفه وفقال: هذا نبضُ مولانا السُّلطان، وهو ما كان.
- استنجد به الملك الكامل لمعالجة الموذِّن أمين الدين جعفر والذي حصل له حصاة سدَّت مجرى البول، وهو الأمر الذي شقَّ عليه وكاد أن يقوده إلى حتفه، فقدَّم له أبو حليقة طريقة أو دستوراً يلتزم به للتداوي أثناء تواجده في منزله، فقد صنع له ترياقاً وأمره بشُرب قدْر منه وصل إلى معدة المؤذن وموضح الحصاة، ففتَّتَها وخرجت من موضع الإخراج وهي مصبوغة بالدَّواء، علماً بأن الأطباء فشلوا في معالجة المؤذن قبل أن يستعين الملك بأبي حليقة.
أبرز مؤلفاته :-
ترك رشيد الدين أبو حليقة مجموعة قيمة من المؤلفات والمقالات والرسائل الطبية من بينها:
- الأدوية المفردة والمركَّبة (التي لقيت نجاحاً في صناعة الطِّب من زمن آدم إلى زمنه).
- مقالة في ضرورة الموت.
- مقالة في حفظ الصِّحَة.
- مقالة في أنَّ المَلاذَ الروحانيَّة ألذّ من المَلاذ الجِسْمَانية.
وفاة رشيد الدين بن داود :-
توفي رشيد الدين بن داود أبو حليقة سنة 660 هجرية (1262 م) أي في خضم الأحداث التي شهدها العالم الإسلامي الذي شهد اجتياح المغول له، قبل أن يتوقَّف اكتساحهم للمنطقة في معركة عين جالوت (1260 م) وذلك على يد المماليك وبقيادة سيف الدين قطز و الظَّاهر بيبرس الذي توفي بدمشق مسموماً سنة 1277 م.
المصادر:-
- الدكتور باقر أمين الورد ، معجم العُلماء العرب.
- ياقوت الحموي، معجم البلدان.
- ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء.