تمهيد:-
يعتبر علم الكلام من العلوم الأصيلة في الفكر الإسلامي زخرت بكتبه المكتبات في الحضارة العربية الإسلامية على مر العصور، وكرّس له الكثير من العلماء جهودهم لخدمته، وقد تطور هذا العلم منذ نشأته حوالي منتصف القرن الأول للهجرة وتفرعت عنه العديد من المدارس المختلفة في تياراتها وتوجهاتها، أما علم المنطق في تاريخ الحضارة الإسلامية فقد سار وتطور جنبا إلى جنب مع علم الكلام.
ويُعرّف ابن خلدون علم الكلام بقوله: «هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلّة العقلية، والردُّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السّلف وأهل السُّنة»، ويفهم من هذا أن موضوع علم الكلام هو طرق الاستدلال العقلية على العقائد الإيمانية لإثباتها والدفاع عنها.
أسباب ظهور علم الكلام :-
لم يكن علم الكلام وليد ظرف معين أو حادثة بعينها، وإنما تضافرت عدة أسباب وعوامل لتفرز ما يسمى بعلم الكلام، ويمكننا تصنيف هذه الأسباب إلى: أسباب دينية، واجتماعية، وسياسية وهي متداخلة على تباعدها ومكملة لبعضها البعض.
كان علم الفلسفة يمدُّ عِلْم الكَلام، وكان علم الكَلام يجرُّ إلى علم الفلسفة، فعلم الكَلام لم ينشأ فلسفياً ولم يتولَّد عن الفلسفة، ولكنهُ نشأ من محاولة حلِّ المشاكل التي ترجع إلى العقيدة الإسلامية، كمسألة القدر ومسألة أفعال العِبَاد وغيرها من المسائل التي تسللت عنها.. وكان علم الكلام – الذي نشأ دينياً- ينجرُّ بذاتهِ ويجرُّ المنجذبين إليه من المُدَرِّسين والكُتَّاب ويجرُّ أيضاً المتتبعينَ لمباحثهِ من عموم المؤمنين المتعلِّقين بالمباحث الكلامية، إلى الفلسفة، وإنَّمَا كان جَرَّاً كلامياً إلى الفلسفة من ناحيتي الطريقة والموضوع: فطريقة المتكَلِّمينَ تُقرُبُ من طريقة الفلاسفة، أو هي متأثرة بها ومُفْتَتِنَة بتأثيرها، وموضوع المُتَكَلِّمينَ في المسائل التي يحتويها الأصول أو من المسائل التي تفرَّعَت عنها على التَنَزُّل كما يقولُ المتكلِّمون أنفسهم، إنَّما كانَ موضوعاً يتَّصِل بالمباحث الفلسفية.
— الشيخ محمد الفاضل بن عاشور؛ “ومضات فكر”.
الأسباب الدينية:-
وتتمثل في الخلافات في المسائل الدينية التي أفرزتها الفتنة الكبرى وواقعتي الجمل وصفين، عندما تفرق الناس وتباينت آرائهم حول موقفهم من الخليفة «علي بن أبي طالب» وأتباعه في العراق، و«معاوية بن أبي سفيان» وأتباعه في الشام، والشِّق الثالث الذي انفصل عن علي وتسموا بــ «الخوارج»، واحتار الناس واختلف العلماء في تبيان موقف الدّين من هذه الأحداث ومخلفاتها.
ومن ذلك ما وقع بين «الحسن البصري» –وهو من كبار فقهاء عصره- وبين تلميذه «واصل بن عطاء» حول حكم مرتكب الكبيرة – وهو موضوع شغل الكثير من الناس وأثار الجدل بينهم- حيث اختلفا في تحديد موقف الشرع من هذه المسألة، فأدى هذا إلى انفصال واصل بن عطاء عن أستاذه وكان ذلك سببا في ظهور واحدة من أهم الفرق الكلامية وهي فرقة المعتزلة، التي نسبت إليه فقيل: «اعتزلنا واصل»، وتحولت هذه الخلافات فيما بعد إلى اتجاهات فكرية تؤسس لمذاهب قائمة بذاتها.
الأسباب السياسية: –
غلب الطابع السياسي على المناقشات والمباحثات التي أثارها المتكلمون، بحيث تعد مسألة «الإمامة» أو «الخلافة» القضية الأساسية الأولى التي خلقت الخلاف بين المسلمين، فإلى جانب اختلافهم في أحقيتها الذي تجلى في الصراع بين الشيعة والخوارج، انبثقت فرق جديدة تناولت قضية الخلافة على امتداد العهد الأموي مثل: فرقة «القدرية» التي تقول بأن الانسان حر الإرادة مخير في أعماله، وبالتالي فهو حر في اختيار خليفته،وفرقة «الجبرية» التي تناقضها تماما في هذا الرأي وتعتبر أن اختيار الخليفة خارج عن قدرة الإنسان، وهكذا كانت مسألة الخلافة واحدة من أهم المواضيع التي قام عليها علم الكلام.
الأسباب الاجتماعية:-
لعل العامل الاجتماعي جاء متأخراً نوعاً ما، إلا أنّه كان العامل الأقوى في تسيير دفَّة علم الكلام وبصفة خاصة في العصر العباسي، الذي عرف تطوراً كبيراً خلال هذه الفترة.
فمع اتساع رقعة بلاد الإسلام وامتدادها إلى أجزاء كبيرة من وسط وشرق آسيا التي كانت تعج بالديانات الوثنية مثل: المجوسية، والزرادشتية، والبوذية؛ كان من الطبيعي أن يخلق هذا التنوع الديني والثقافي صراعات ونقاشات دينية مع هؤلاء، فصبَّ علماء المتكلمين جهودهم للتصدي للوثنيين والدفاع عن الإسلام، فعقدوا المجالس والمناظرات أفحموا فيها خصومهم بالحجة والبرهان، وقد كان هذا من العوامل التي ساعدت على انتشار الإسلام هناك، في تلك المناطق.
هذا إلى جانب الديانة المسيحية واليهودية اللتين بالرغم من أن الاحتكاك بهما كان قديما، إلا أن الجدل معهما استجد مرة أخرى مع الديانة خاصة المسيحية وذلك مع الاتصال المستمر مع الامبراطورية البيزنطية غرباً، وتوسع المسلمين على حساب أراضيها.
وعليه اجتهدت الفرق الكلامية والدفاع عن الإسلام باستخدام الحجة والبرهان. مما أدى إلى تطور علم الكلام وأدواته وآفاق مدارسه.
إسهام الخلفاء العباسيين في تطور علم الكلام :-
يُعدّ العصر العباسي الأول الانطلاقة الحقيقية والفعلية لعلم الكلام، وذلك بفضل اهتمام الخلفاء العباسيين ورعايتهم لبعض العلماء المتكلمين ومن ثم تطور وبلغ علم الكلام ذروته على غرار ما بلغته غيره من العلوم من ازدهار.
فقد أظهر الخلفاء العباسيون اهتمامهم بواحدة من أهم الفرق الكلامية وهي المعتزلة، وبدأ هذا مع الخليفة «أبو جعفر المنصور» (137- 158هـ) الذي جمعته الصداقة مع أحد أقطاب المعتزلة وهو «عمرو بن عبيد»، والذي كان له تأثيرا على المنصور منذ أن كان شاباً.
أما في عهد الخليفة «هارون الرشيد» (170- 193هـ)؛ فقد انتعشت فرقة المعتزلة خاصة بفعل سياسة الانفتاح والتسامح التي اتبعها الخليفة مع رجالها، فقد قرَّب منهم العديد من أعلامهم وجعلهم وُعَّاظاً ومؤدبين لأولاده، مثل «يحيى بن المبارك الزيدي» أحد أقطاب المعتزلة وعلماءها الذي عيّنه مؤدبا لابنه المأمون والذي سيكون له تأثير بالغ على موقفه وتعامله مع المعتزلة فيما بعد، وبهذا يكون الخليفة الرشيد قد مهّد السبيل للمعتزلة للتغلغل في البلاط العباسي.
وخلال خلافة ابنه «محمد الأمين» (193- 198هـ) انكمش نفوذ المعتزلة وتراجعت مكانتهم، فقد قام الخليفة باضطهادهم، ولاحق مختلف الفرق بالحبس والقتل، حتى امتنع الناس من الخوض في هذه المسائل.
لكن الدور المحوري للمعتزلة كان في عهد الخليفة «عبد الله المأمون» (198- 218هـ) الذي كان يعتبر نفسه من علماء المعتزلة، فشايعهم وقربهم وجعل منهم الحجاب والوزراء، وعقد لهم المناظرات مع الفقهاء.
ومن أهم العوامل التي ساعدت على بروز المعتزلة وانتشارهم حتى أصبح مذهبهم معترفا به بين الناس؛ هو تأييد الخليفة المأمون للمعتزلة في مسألة «خَلْق القرآن»، وهي من المسائل الشائكة التي أثارها علماء المعتزلة، واستغل الخليفة نفوذه في حمل الناس وخاصة الفقهاء على القول بخلق القرآن، ومعاقبة المخالفين بالسجن والجلد حتى الموت أحيانا، فسميت «محنة خلق القرآن»، ولم يكتف عند هذا فحسب فقد أوصى المأمون ابنه وخليفته من بعده «المعتصم بالله» (218- 227هـ) بالمواصلة على هذا النهج، واستمرت هذه المسألة حتى عهد الخليفة «الواثق بالله» (227- 232هـ).
ولم ترفع هذه المحنة إلا في عهد الخليفة «المتوكل على الله» (232- 247هـ) الذي ترك للناس حرية ولم يحملهم على اتباع أي من هذه التيارات وترك باب حرية المعتقد مفتوحاً، فتراجعت مكانة المعتزلة، بل اضطهدهم في العديد من الأحيان، لكن الناس لم يكفوا تماماً عن الخوض في الجدل الديني، واستمر قائما يبحث في الكثير من المسائل.
ومن ثم استمر تطور علم الكلام بعيدا عن البلاط، فتطورت الفرق الكلامية وانقسمت إلى مدارس متباينة في توجهاتها وأفكارها، فالمعتزلة تفرعت عنها الكثير من الفرق نذكر منها: (النظامية، والعلافية، والجاحظية، وغيرها)، وكان الخوارج قد انقسموا إلى ثلاثة فرق رئيسية: (الأزارقة، الصفرية، والإباضية). وتفرعت عن الشيعة العلوية عدة فرق استمر بعضها إلى يومنا هذا وهي: (الإسماعيلية، الزيدية، والاثنا عشرية)، ومع نهاية القرن 3هـ وحلول القرن 4هـ ظهرت فرق كلامية جديدة إلى جانب الفرق السابقة نقلت علم الكلام إلى مراحل متطورة وهي فرقة: (الأشاعرة، الظاهرية، الماتردية).
المنطق :-
ساهمت البيئة الثقافية المنفتحة في مدينة بغداد من جهة؛ وترجمة آداب وفلسفة وعلوم اليونان؛ في ازدهار الطروحات المنطقية التي دخلت حتى في علم أصول الفقه.
نشأ علم المنطق في اليونان، ومفهوم المنطق موجود عند الفلاسفة المسلمين بمصطلحات أخرى؛ مثل: قياس النظائر، والسبر، والتقسيم، وقياس الشبه، وعندما بدأت حركة الترجمة في العصر العباسي بدأ المنطق ينتشر في الثقافة الإسلامية بعد اطِّلاع المسلمين على كتب اليونان.
الترجمة تستورد أفكار أرسطو:-
لما كان الرد على الوثنيين والنصارى يستدعي استخدام طرائقهم ومناهجهم في التدليل والاستدلال ؛ اتجه هؤلاء المدافعون إلى الاستدلال باستخدام المنطق الأرسطي، كوسيلة نافذة تحكم العقل في النقاش، لكن الناس اختلفوا حول مصداقية المنطق وتقبله واتُهم المتكلمون بالابتعاد عن العقيدة الإسلامية.
فظهر الخلاف بين مؤيد ومعارض لاستخدام المنطق الأرسطي كونه يحكم العقل البشري وبين منكر له باعتباره خروج عن الكتاب والسنة المشرعين الوحيدين في الدين الإسلامي، والمصدرين الأساسين لكل مسلم، وتطور الخلاف فأفرز فرقا جديدة تتفاوت في تقبلها للمنطق الأرسطي كوسيلة للاستدلال العقلي، وفي تأثرها بالفلسفة اليونانية عامة.
كان استخدام المنطق واحدا من أسباب في ظهور الحاجة إلى الترجمة، فعكف مجموعة من العلماء على ترجمة الكتب والمصنفات اليونانية، خاصة ما تعلق منها بالفلسفة والمنطق، وامتلأت بيت الحكمة بأصناف الكتب المترجمة من التراث اليوناني.
ترجمة علوم اليونان :-
وكان ابن المقفَّع (ت 139هـ) أول من ترجم كتب أرسطو المنطقية بأمر من الخليفة المنصور، ودرس المسلمون آنذاك المنطق للرد على المخالفين والطاعنين في الشريعة الإسلامية، وهذا ما ساهم في نشوء علم الكلام، وقام العلماء المسلمون بعد ذلك بدراسة المنطق الصوري وتوظيفه في بعض مجالات الشريعة الإسلامية، وشاع على أنه علم عملي، وآلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر.
دخول علم المنطق لمختلف العلوم:-
وتعرَّض للمنطق ابن سينا في كتاب “الإشارات والتنبيهات”، فقال: “المنطق علم يُتعلَّم منه ضروب الانتقالات من أمور حاصلة في ذهن الإنسان إلى أمور مستحصلة”، وساهم الإمام الغزالي (ت 505هـ) بدخول المنطق إلى علم أصول الفقه، وهذا ما أوضحه في كتابه “المستصفى”.
وانتشر هذا العلم بعد الغزالي بين المتكلمين والأصوليين، واستخدمه المسلمون في العصر العباسي في العلوم، وسعى الفلاسفة المسلمون في ذلك الوقت إلى توظيف المنطق في الفقه الإسلامي، وأضافوا إليه بعض القوانين المنطقية الإسلامية، فساهم هذا في نشوء المنطق الإسلامي.
مشاهير يخوضون في بحر علم المنطق:-
ومن أشهر علماء المنطق وروَّاده في العصر العباسي جابر بن حيَّان (ت 200هـ) الذي نظر في المنطق وألَّف فيه كتابه “المنطق الصغير المختصر”، وابن سينا (ت 428هـ) الذي تناول المنطق في معظم كتبه الأساسية؛ ككتاب “الشفاء” و”الإشارات والتنبيهات” و”منطق الشرقيين”، وابن رشد (ت 595هـ) الذي نثر في كتبه أهم آراءه المنطقية وخاصة في كتاب “فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” و”مناهج الأدلة”، والفيلسوف ابن ملكا البغدادي (ت 547هـ) الذي أرفد كتاباً خاصاً بالمنطق باسم “المعتبر”.
وهكذا تضافرت الأسباب اجتماعية، ودينية، وسياسية وساهمت في ظهور علم الكلام والمنطق كما أسهم اهتمام خلفاء بني العباس بالجدل الديني في تطورها وانتشارها بشكل كبير، فضلا عن الحركة الثقافية والفكرية التي ازهرت على امتداد العصر العباسي.
المصادر:–
- تاريخ المنطق عند العرب (73 وما بعدها).
- التعريفات للجرجاني (232).
- مفهوم المنطق ونشأته في الفكر الإسلامي (4 وما بعدها).
- موسوعة الحضارة العربية الإسلامية – الفلسفة والفلاسفة في الحضارة العربية (23).