أبو بكر الرازي:-
أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي ، الذي ما زال اسمه يتردد في الآفاق إلى يومنا هذا، لم يكن مجرد ممارس عادي للطب على شاكلة أولئك الذين عاصرهم في القرن التاسع للميلاد، إنما كان بمثابة الطبيب والمعالج العَلَم الأكثر شهرة في تلك الحقبة من الزمن.
طبيبٌ يحظى بالاحترام والتقدير المستمديّن من مساهماته الرائدة وأعماله الثورية في الطب بشكل عام، والطبِّ النفسي بشكل أكثر خصوصية لكنه وقبيل إسدال الستار على مسيرته وحياته؛ أصيب بالعمى قبل أن يلفظ آخر أنفاسه عام 925 ميلادية وذلك في مسقط رأسه في بلاد فارس.
وخلال حياته المهنية؛ عمل الرازي في مجالات طب الأطفال، علوم الأعصاب، كما وضع أسساً ونظريات في الأخلاقيات الطبية.
أبو بكر الرازي .. العقاقير والكيمياء:-
إلى جانب ذلك، كان له مساهمات بارزة في مجال العقاقير والأدوية وتركيبها، فكان أول من قام بتنقية الكحول لأغراض استعماله في الطب.
وهنا لا بد من الإشارة إلى إهتمام الرازي بعلم السيمياء، حيث يظهر كتابه “سر الأسرار” بأنه صاحب منهج علمي تجريبي دقيق، ليكون له الفضل في إحراز علم الكيمياء لتقدمٍ مهمٍ في وقت لاحق.
وقال الرازي في مقدمة كتابه المذكور: “وشرحنا في هذا الكتاب ما سطرته القدماء من الفلاسفة مثل أغاثا ديموس، وهرمس، وأرسطو طاليس، وخالد بن يزيد بن معاوية، وأستاذنا جابر بن حيان، بل وفيه أبواب لم يُرَ مثلها، وكتابي هذا مشتمل على معرفة معادنٍ ثلاثة: معرفة العقاقير، ومعرفة الآلات، ومعرفة التدابير (التجارب)”.
الصحة النفسية والجسدية:-
أبرز ما ميز أعمال “أبو الطب العربي”؛ هو تفرده في مضمار الطب النفسي الجسدي، حيث توجه الرازي إلى رفض فكرة الثنائية والاختلاف بين صحة الجسد والصحة النفسية، فلديه الصحة العقلية ومدى احترام الذات هي إحدى العناصر التي تؤثر بشكل مباشر على مستوى صحة الشخص ومقدار عافيته وسلامته.
ألَّف الرازي كتاباً في الطِب الروحاني نشرتهُ جامعة القاهرة، وهو فيه يُعلي من شأن العقل عارضاً النقائص الخلقية التي تسبب الأمراض والعلل النفسية، مشيراً إلى أن المُصاب بها إذا حكَّم معياره العقلي موازناً بين نفعه وضرره؛ تخلَّص من تلك العلل والأمراض وفارقته بلا عودة.
كما كان ينصح الأطباء بإيهام مرضاهم بأنهم أصحَّاء وإن لم يثقوا في ذلك، لأن مزاج الجسم تابع لأخلاق النفس، بحسب ما جاء في طروحاته.
مقولة لها دلالات:-
وبالانطلاق من فكرته الرائدة التي تقول: “العقل السليم في الجسم السليم”؛ فقد تمكن الرازي من مساعدة مرضاه في الوصول إلى مرحلة الصحة الشاملة، كيف لا؟ وهو من أوائل الأطباء في التاريخ الذين استندوا إلى فكرة العلاج النفسي، وهو الذي بدأ في البحث عن هذا النمط من العلاج بأسلوب بدائي تدرَّج فيه، وكان ذو تأثير ملاحظ ومرن في ممارساته العلاجية.
رحلة العلم والشهرة:-
إن الرازي -المولود في سنة (865) للميلاد في مدينة الري التي تقع في محيط طهران حالياً (في إيران)-، فارق هذه المدينة في غُرّة شبابه منتقلا إلى بغداد. متشوفاً لتعلم الطب وصنوف العلاجات، وحينما وصل دار السلام بغداد؛ شَرع الرازي في ممارسته الطبية حتى ذاع صيته، ليقوم المنصور بن إسحاق وهو حاكم الري باستدعائه وتعيينه كرئيس لمستشفى المدينة الفارسية وكبيراً لأطبائها، قبل أن يعود الرازي من جديد إلى بغداد ليترأس البيمارستان المعتضدي الجديد.
وفي غضون تنقله بين بغداد والري؛ كان الرازي منهمكاً في تدوين خبراته ومعارفه الطبية، مصنفاً إيّاها في حوالي (237) كتاباً خطَّه طوال حياته، نجا منها (36) كتاباً ومخطوطة طبية فقط.
مؤلفات خدمةً للبشرية:-
ومن أشهر كتب الرازي؛ موسوعته الطبية المعروفة عربياً بكتاب “الحاوي” وهو أكثر مؤلفاته انتشاراً صيتاً، فهذه الموسوعة قدمت تفسيرات منهجية لسائر الأمراض العقلية والنفسية التي عانى منها البشر والمجتمعات في فترة القرن العاشر للميلاد.
وما يميز هذا الكتاب الموسوعي؛ أنه قد عرض الأمراض وقام بتحديد التشخيص الدقيق للحالة وللعلاج المناسب لكل من الامراض العقلية الشائعة بين الناس حينذاك.
التخصصية والطب النفسي:-
خلال فترة مزاولته للطب كمدير لمستشفى بغداد؛ قام الرازي بطرح وتبني فكرة إنشاء قسم مختص يتضمن مجموعة غرف تُعنى بالطبِّ النفسي، وتهتم بتقديم الرعاية الطبية المناسبة للمصابين بالأمراض العقلية.
فتبعاً لما توصَّل إليه الرازي؛ فقد كان لا بد من رؤية الاضطرابات النفسية على أنها حالة طبية وأن يجري علاجها على هذا النحو، وانطلاقاً من هذه القاعدة.
وفي منهج العلاج النفسي؛ وضع الرازي ملاحظاته المتعلقة
بالمرضى النفسيين وفسرها معتمداً على أدق التفاصيل.
وقد أرفق كل ذلك بآلية العلاج المتبعة والتي تترافق مع نظام غذائي محدد، عقاقير دوائية، التوجه للعلاج بالمهن والعمل، وبالروائح العطرية، وبالاستحمام أيضاً.. مرفقاً بكل ذلك آلية للعلاج بالموسيقى.
إقرار غربي:–
نشر الطبيب والمستشرق الألماني ماكس مايرهوف (1874-1945 م) دراسة بعنوان “33 حالة سريرية للرازي” والمأخوذة من كتاب “الحاوي” وتظهر فيها ملاحظات الطبيب المسلم السريرية بشكل جلي.
وهنا تقول المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه عن الرَّازي: “هذا الطبيب العظيم بنظرته الفاحصة، كان إنساناً كبير القلب، وطبيباً إنسانياً إلى أقصى الدرجات، لقد كان سبَّاقاً في كثير من الاكتشافات العالمية، وتعدَّى الآفاق الخلقية التي وصَلَ إليها الطبُّ لدى الإغريق”.
وهنا لا بد من التنويه إلى أن الغرب استند على الكتاب المذكور وعلى مؤلفات أخرى لابن مدينة الري، وذلك طيلة 4 قرون، حيث كانت هذه الكتب مرجعاً للمؤسسات العلمية والطبية الأوروبية، وذلك بعدما تم ترجمتها إلى اللغة اللاتينية.
وكان الغربيون قد حرصوا على ترجمة مؤلفات الرازي، خصوصا كتابه “في الجدري والحصبة” والذي طُبِع وتُرجم إلى سائر اللغات الأوروبية وذلك من القرن الثامن عشر الميلادي.
هذا ناهيك عن كتابه البارز “المنصوري” والذي ترجمه جيرارد الكريموني إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، وشاعت وذاعت شهرته لدى الأوروبين طيلة حقبة القرون الوسطى.
الهوس النفسي:-
وما يحسب إلى الرازي وأعماله الرائدة في ممارساته الطبية النفسية؛ هو تمكنه من وضع منهج بدائي لعلاج الهوس النفسي السلوكي.
فقد وصف الاكتئاب على أنه شكل للاضطراب الوسواس القهري الحاد والذي ينتج بفعل تغير معدلات وصول الدم إلى دماغ المريض.
وكان دائماً ما ينصح الأطباء والمعالجين بأن يميلوا إلى إقناع مرضاهم بإمكانية تحسُّن حالتهم المرضية، وعلى ضرورة ابقائهم لجذوة الأمل موقدة في نفوس مرتاديهم من المحتاجين للعلاج.
تهيئة نفسية:-
وكجزء من أسلوبه العلاجي؛ كان أبو بكر الرازي يمنح مرضاه -في مرحلة علاجية معينة- مبلغاً من المال ليساعدهم على تلبية أهم احتياجاتهم الضرورية.
هذه الخطوة كان يرمي من خلالها إلى إعادة مرضاه للانخراط التدريجي في المجتمع من جديد؛ مع اخضاعهم للمتابعة الطبية الدائمة.
هذه المتابعة اللاحقة لعملية العلاج؛ كان الرازي هو أول من أشار تاريخياً إلى أهميتها بالنسبة للأمراض النفسية ومرضاها.
أساليب الرازي للعلاج النفسي:-
- اللجوء للإيحاء النفسي كطريقة للعلاج، و يتضح ذلك بقوله: “ينبغي للطبيب أن يوهم المريض أبداً الصحة ويرجيها، وإن كان غير واثق بذلك؛ فمزاج الجسم التابع لأخلاق النفس”.
- كما كان يقول: ” لا توهم العليل أن به مالينخوليا لكن إنما تعالجه من سوء الهضم فقط، وساعده على كثير من رأيه وساعده وألههه وأفرحهِ وأشغله عن الفكر..”.
- معالجته لحالة الوسواس بطريقة حَل فكر المريض، حيث يقول: “كان رجلاً شكا إليّ وسألني أن أعالجه من مرة زعم سوداوية، فسألته ما يجد؟، فقال: أفكر في الله تعالى من أين جاء وكيف ولد الأشياء، فأخبرته أن هذا فكر يعم العقلاء أجمع، فبرأ من ساعته، وقد كان اتهم عقله حتى أنه كاد أن يقصُر فيما يسعى من مصالحه وغير واحد من هؤلاء عالجته بحل فكره”.
- وبشأن معالجة المالينخوليا؛ حيث كان مدركاً لإمكان حصول الشفاء عبر النمو التلقائي وبمجرد مرور الزمن وأن للإدمان على تعاطي المعالجة أثر سيء في إضعاف الطبيعة؛ فقد قال الرازي: “وسَل عن السبب البادي وضاده بالعلاج، فمن كان وقع فيه من ضيق الحال ولطف تدبير فأوسع الله عليه بالضد، وأغب علاجهم مدة ثم عاوده، فإنهم ربما خرجوا من العلة في المدة التي تغب فيها العلاج، وإدمان العلاج يوهن الطبيعة”.
- خلال معالجة الأمراض العصبية العقلية؛ أكد الرازي على أهمية إخراج المريض من حيز اللاشعور إلى حيز الشعور، قائلاً: “أذا أزمن بالمريض المرض وطال، فانقله إلى بلد مضاد لمزاج علته.. فكثيراً برأ خلق كثير من المالينخوليا بطول السفر”.
الأخلاق والتواصل:-
بالنسبة إلى الأخلاقيات الطبية؛ يؤمن الرازي بحتمية تحلي الأطباء بالتواضع واللطف، وأن يكونوا ودودين وليّنين عند التواصل مع مرضاهم، وذلك حتى يخففوا من وطأة الأخبار غير الجيدة على مسامعهم.
وأشار الرازي إلى الأهمية الكبيرة لتواصل الأطباء مع مرضاهم على المستوى الشخصي عوضاً عن اخبارهم بأمراضهم وما يعانون به بشكل مباشر، قائلاً إن: “الصيغة المحببة القريبة والمبهجة التي تقوم على الكلمات والعبارات المشجعة لها دور كبير في غرس الأمل بالشفاء في قلوب المرضى”.
وفي النهاية؛ يتصدَّى ابن النديم لوصف مكانة ونُبل وتواضع ومساهمات الرازي في حقل العلوم الطبية ليس على لخدمة العرب و المسلمين فحسب، بل للعالم برمته، إذ يضيف في كتابه “الفهرست” عن الطبيب الشهير: “أوحَد دهره، وفريدُ عصره، قد جَمَعَ المعرفة بعلومِ القدماء وسيَّما الطب، وكانَ يتنقَّل بين البلدان..، وكان يجلس في مجلسهِ ودون تلاميذه، ودونهم تلاميذ أُخَر، وكان يجيء الرجلُ المريض؛ فيصف له ما يَجد لأوَّل من تلقَّاه، فإن كان عندهم علم وإلَّا تعدَّاهم إلى غيرهم، فإن أصابوا والَّا تكَّلم الرازي في ذلك، وكان كريماً متفضِّلاً باراً بالنَّاس، وحَسَن الرأفة بالفقراء والإعِلَّاء، حتى كان يُجري عليهم الجرايات الواسعة ويمرضهم”.
الرازي .. إرث عظيم:-
تعرَّض العلَّامة الموسوعي أبو الريحان البيروني إلى العدد الهائل لمؤلفات الرازي، وذلك في سياق عرض الأول لمساهمات الثاني، وفيما يلي عدد تلك المصنَّفات:
- الطب: ترك وراءه 56 كتاباً، وأبرزها “الحاوي” والذي استخرج منه ماكس ما يرهوف 33 ملاحظة إكلينيكية لها خطرها.
- الطبيعيات: 33 كتاباً.
- الفلسفة 17 مؤلفاً، وقد كان يؤمن بخمسة مبادئ قديمة تأثر بها من خلال اطلاعه على مساهمات فلاسفة الإغريق مثل إنباذوقليس وأنكساجوراس، وهي: الله تعالى والنفس الكلية والهيولى الأولى والمكان المطلق والزمان المطلق، وكان يؤمن بقِدَم هذه المبادئ وأنه لا بد منها لوجود العالم.
- الرياضيات: 10 مؤلفات.
- الميتافيزيقا: 6 كُتُب.
- المنطق: 8 مؤلفات.
- علم الكلام: 14 كتاباً.
- الكيمياء: 23 كتاباً، وقد اهتم اهتماماً خاصاً بهذا العلم، معلناً بأن الفيلسوف لا يكون فيلسوفاً حقاً، إلَّا إذا تعلَّم صناعة الكيمياء ومَهَرَ بها.
الخلاصة:–
في الحقيقة؛ فإن الإرث الذي يتمثل بنهج أبو بكر الرازي في التعامل مع مرضاه سواء في العلاج أو من خلال التعامل الودود معهم، يعتبر منارة يهتدي بضيائها ممارسو الطب النفسي، فهو بكلِّ ما خلّفه وراءه من علم وأسلوب منهجي فريد في التعامل، ظل أمراً ملهماً للعاملين في حقل الطب النفسي طيلة القرون العشرة الأخيرة
وهنا أيضا، وحتى لا يظن البعض أن هذه الشخصية مجرد طبيب بارع فقط، وإنما هو أيضاً فيلسوف وفلكي ورياضي وكيميائي وفيزيائي ومهندس ميكانيكي، فالرازي يعدُّ شخصية موسوعية كانت قاسماً مشتركاً مع عدد من الأعلام العربية الإسلامية من قبيل ابن سينا والبيروني وغيرهما..
ذلك لأن العلم كان حينذاك مقدماً على أي اعتبار آخر، فمن امتلك العلم بالأمس ويحوزه اليوم وغداً؛ هو من يستطيع الارتقاء والتقدم وحفظ حدوده وتحديد مصيره وبناء مستقبله.
الرازي .. نهاية مسيرة:-
وقال ابن العبري في حادثة وفاة الرازي: ” وفي سنة عشرين وثلثمائة؛ توفِّيَ محمد بن زكريا الرَّازي، وكان في ابتداء أمره يضرب بالعود، ثم ترك ذلك، وأقبل على الفلسفة، فنال منها كثيراً، وألَّف كتباً كثيرة، أكثرها في صناعة الطِّب وسائرها في المعارف الطبيعية، ودبَّر بيمارستان الرَّي ثم بيمارستان بغداد زماناً.
وكان في بصره رطوبة لكثرة أكله الباقَّلي، ثم عُمِيَ آخر زمانه بماء نزل في عينيه، وجاءه كحَّال ليقدحهما، فسألهُ عن العين كم طبقة هي؟، فقال: لا أعلم، فقال له: لا يقدرح عينيَّ من لا يعلم ذلك.
فقيل له: لو قدحتَ لكُنتَ أبصرت، فقال: لا قد أبصرتُ في الدُّنيا حتى مللتُ، بحسب ما أرده ابن العبري في كتابه الشهير “مختصر تاريخ الدول”.
المصادر:–
- مجلة التراث العربي، العدد رقم 10، عام 1983، مؤلفات الرازي وتعاليمه الفلسفية، أحمد مضر صقال، دمشق، سوريا.
- الوقاية من الأمراض النفسية وعلاجها في الطب العربي الإسلامي، محمود الحاج قاسم.
- الفهرست، ابن النديم.
- العصر العباسي الثاني، شوقي ضيف.
- تاريخ مختصر الدول، ابن العبري.
- ماذا قدم المسلمون للعالم؟، راغب السرجاني.
- قصَّة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية، راغب السرجاني.
http://archive.alsharekh.org/newPreview.aspx?ISSUEID=16102
aque A: Psychology from Islamic perspective: contributions of early Muslim scholars and challenges to contemporary Muslim psychologists. J Religion Health 2004; 43:357–377
https://edobarista.com/en/content/news/15-rhazes-and-the-therapeutic-use-of-coffee-in-ancient-persia
https://www.itto.org/iran/binary.asp?fileid=180312115028ik19iveb7j
https://pixabay.com/photos/burnout-man-face-bullying-stress-3721062/
أبو بكر الرازي:-
أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي ، الذي ما زال اسمه يتردد في الآفاق إلى يومنا هذا، لم يكن مجرد ممارس عادي للطب على شاكلة أولئك الذين عاصرهم في القرن التاسع للميلاد، إنما كان بمثابة الطبيب والمعالج العَلَم الأكثر شهرة في تلك الحقبة من الزمن.
طبيبٌ يحظى بالاحترام والتقدير المستمديّن من مساهماته الرائدة وأعماله الثورية في الطب بشكل عام، والطبِّ النفسي بشكل أكثر خصوصية لكنه وقبيل إسدال الستار على مسيرته وحياته؛ أصيب بالعمى قبل أن يلفظ آخر أنفاسه عام 925 ميلادية وذلك في مسقط رأسه في بلاد فارس.
وخلال حياته المهنية؛ عمل الرازي في مجالات طب الأطفال، علوم الأعصاب، كما وضع أسساً ونظريات في الأخلاقيات الطبية.
أبو بكر الرازي .. العقاقير والكيمياء:-
إلى جانب ذلك، كان له مساهمات بارزة في مجال العقاقير والأدوية وتركيبها، فكان أول من قام بتنقية الكحول لأغراض استعماله في الطب.
وهنا لا بد من الإشارة إلى إهتمام الرازي بعلم السيمياء، حيث يظهر كتابه “سر الأسرار” بأنه صاحب منهج علمي تجريبي دقيق، ليكون له الفضل في إحراز علم الكيمياء لتقدمٍ مهمٍ في وقت لاحق.
وقال الرازي في مقدمة كتابه المذكور: “وشرحنا في هذا الكتاب ما سطرته القدماء من الفلاسفة مثل أغاثا ديموس، وهرمس، وأرسطو طاليس، وخالد بن يزيد بن معاوية، وأستاذنا جابر بن حيان، بل وفيه أبواب لم يُرَ مثلها، وكتابي هذا مشتمل على معرفة معادنٍ ثلاثة: معرفة العقاقير، ومعرفة الآلات، ومعرفة التدابير (التجارب)”.
الصحة النفسية والجسدية:-
أبرز ما ميز أعمال “أبو الطب العربي”؛ هو تفرده في مضمار الطب النفسي الجسدي، حيث توجه الرازي إلى رفض فكرة الثنائية والاختلاف بين صحة الجسد والصحة النفسية، فلديه الصحة العقلية ومدى احترام الذات هي إحدى العناصر التي تؤثر بشكل مباشر على مستوى صحة الشخص ومقدار عافيته وسلامته.
ألَّف الرازي كتاباً في الطِب الروحاني نشرتهُ جامعة القاهرة، وهو فيه يُعلي من شأن العقل عارضاً النقائص الخلقية التي تسبب الأمراض والعلل النفسية، مشيراً إلى أن المُصاب بها إذا حكَّم معياره العقلي موازناً بين نفعه وضرره؛ تخلَّص من تلك العلل والأمراض وفارقته بلا عودة.
كما كان ينصح الأطباء بإيهام مرضاهم بأنهم أصحَّاء وإن لم يثقوا في ذلك، لأن مزاج الجسم تابع لأخلاق النفس، بحسب ما جاء في طروحاته.
مقولة لها دلالات:-
وبالانطلاق من فكرته الرائدة التي تقول: “العقل السليم في الجسم السليم”؛ فقد تمكن الرازي من مساعدة مرضاه في الوصول إلى مرحلة الصحة الشاملة، كيف لا؟ وهو من أوائل الأطباء في التاريخ الذين استندوا إلى فكرة العلاج النفسي، وهو الذي بدأ في البحث عن هذا النمط من العلاج بأسلوب بدائي تدرَّج فيه، وكان ذو تأثير ملاحظ ومرن في ممارساته العلاجية.
رحلة العلم والشهرة:-
إن الرازي -المولود في سنة (865) للميلاد في مدينة الري التي تقع في محيط طهران حالياً (في إيران)-، فارق هذه المدينة في غُرّة شبابه منتقلا إلى بغداد. متشوفاً لتعلم الطب وصنوف العلاجات، وحينما وصل دار السلام بغداد؛ شَرع الرازي في ممارسته الطبية حتى ذاع صيته، ليقوم المنصور بن إسحاق وهو حاكم الري باستدعائه وتعيينه كرئيس لمستشفى المدينة الفارسية وكبيراً لأطبائها، قبل أن يعود الرازي من جديد إلى بغداد ليترأس البيمارستان المعتضدي الجديد.
وفي غضون تنقله بين بغداد والري؛ كان الرازي منهمكاً في تدوين خبراته ومعارفه الطبية، مصنفاً إيّاها في حوالي (237) كتاباً خطَّه طوال حياته، نجا منها (36) كتاباً ومخطوطة طبية فقط.
مؤلفات خدمةً للبشرية:-
ومن أشهر كتب الرازي؛ موسوعته الطبية المعروفة عربياً بكتاب “الحاوي” وهو أكثر مؤلفاته انتشاراً صيتاً، فهذه الموسوعة قدمت تفسيرات منهجية لسائر الأمراض العقلية والنفسية التي عانى منها البشر والمجتمعات في فترة القرن العاشر للميلاد.
وما يميز هذا الكتاب الموسوعي؛ أنه قد عرض الأمراض وقام بتحديد التشخيص الدقيق للحالة وللعلاج المناسب لكل من الامراض العقلية الشائعة بين الناس حينذاك.
التخصصية والطب النفسي:-
خلال فترة مزاولته للطب كمدير لمستشفى بغداد؛ قام الرازي بطرح وتبني فكرة إنشاء قسم مختص يتضمن مجموعة غرف تُعنى بالطبِّ النفسي، وتهتم بتقديم الرعاية الطبية المناسبة للمصابين بالأمراض العقلية.
فتبعاً لما توصَّل إليه الرازي؛ فقد كان لا بد من رؤية الاضطرابات النفسية على أنها حالة طبية وأن يجري علاجها على هذا النحو، وانطلاقاً من هذه القاعدة.
وفي منهج العلاج النفسي؛ وضع الرازي ملاحظاته المتعلقة
بالمرضى النفسيين وفسرها معتمداً على أدق التفاصيل.
وقد أرفق كل ذلك بآلية العلاج المتبعة والتي تترافق مع نظام غذائي محدد، عقاقير دوائية، التوجه للعلاج بالمهن والعمل، وبالروائح العطرية، وبالاستحمام أيضاً.. مرفقاً بكل ذلك آلية للعلاج بالموسيقى.
إقرار غربي:–
نشر الطبيب والمستشرق الألماني ماكس مايرهوف (1874-1945 م) دراسة بعنوان “33 حالة سريرية للرازي” والمأخوذة من كتاب “الحاوي” وتظهر فيها ملاحظات الطبيب المسلم السريرية بشكل جلي.
وهنا تقول المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه عن الرَّازي: “هذا الطبيب العظيم بنظرته الفاحصة، كان إنساناً كبير القلب، وطبيباً إنسانياً إلى أقصى الدرجات، لقد كان سبَّاقاً في كثير من الاكتشافات العالمية، وتعدَّى الآفاق الخلقية التي وصَلَ إليها الطبُّ لدى الإغريق”.
وهنا لا بد من التنويه إلى أن الغرب استند على الكتاب المذكور وعلى مؤلفات أخرى لابن مدينة الري، وذلك طيلة 4 قرون، حيث كانت هذه الكتب مرجعاً للمؤسسات العلمية والطبية الأوروبية، وذلك بعدما تم ترجمتها إلى اللغة اللاتينية.
وكان الغربيون قد حرصوا على ترجمة مؤلفات الرازي، خصوصا كتابه “في الجدري والحصبة” والذي طُبِع وتُرجم إلى سائر اللغات الأوروبية وذلك من القرن الثامن عشر الميلادي.
هذا ناهيك عن كتابه البارز “المنصوري” والذي ترجمه جيرارد الكريموني إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، وشاعت وذاعت شهرته لدى الأوروبين طيلة حقبة القرون الوسطى.
الهوس النفسي:-
وما يحسب إلى الرازي وأعماله الرائدة في ممارساته الطبية النفسية؛ هو تمكنه من وضع منهج بدائي لعلاج الهوس النفسي السلوكي.
فقد وصف الاكتئاب على أنه شكل للاضطراب الوسواس القهري الحاد والذي ينتج بفعل تغير معدلات وصول الدم إلى دماغ المريض.
وكان دائماً ما ينصح الأطباء والمعالجين بأن يميلوا إلى إقناع مرضاهم بإمكانية تحسُّن حالتهم المرضية، وعلى ضرورة ابقائهم لجذوة الأمل موقدة في نفوس مرتاديهم من المحتاجين للعلاج.
تهيئة نفسية:-
وكجزء من أسلوبه العلاجي؛ كان أبو بكر الرازي يمنح مرضاه -في مرحلة علاجية معينة- مبلغاً من المال ليساعدهم على تلبية أهم احتياجاتهم الضرورية.
هذه الخطوة كان يرمي من خلالها إلى إعادة مرضاه للانخراط التدريجي في المجتمع من جديد؛ مع اخضاعهم للمتابعة الطبية الدائمة.
هذه المتابعة اللاحقة لعملية العلاج؛ كان الرازي هو أول من أشار تاريخياً إلى أهميتها بالنسبة للأمراض النفسية ومرضاها.
أساليب الرازي للعلاج النفسي:-
- اللجوء للإيحاء النفسي كطريقة للعلاج، و يتضح ذلك بقوله: “ينبغي للطبيب أن يوهم المريض أبداً الصحة ويرجيها، وإن كان غير واثق بذلك؛ فمزاج الجسم التابع لأخلاق النفس”.
- كما كان يقول: ” لا توهم العليل أن به مالينخوليا لكن إنما تعالجه من سوء الهضم فقط، وساعده على كثير من رأيه وساعده وألههه وأفرحهِ وأشغله عن الفكر..”.
- معالجته لحالة الوسواس بطريقة حَل فكر المريض، حيث يقول: “كان رجلاً شكا إليّ وسألني أن أعالجه من مرة زعم سوداوية، فسألته ما يجد؟، فقال: أفكر في الله تعالى من أين جاء وكيف ولد الأشياء، فأخبرته أن هذا فكر يعم العقلاء أجمع، فبرأ من ساعته، وقد كان اتهم عقله حتى أنه كاد أن يقصُر فيما يسعى من مصالحه وغير واحد من هؤلاء عالجته بحل فكره”.
- وبشأن معالجة المالينخوليا؛ حيث كان مدركاً لإمكان حصول الشفاء عبر النمو التلقائي وبمجرد مرور الزمن وأن للإدمان على تعاطي المعالجة أثر سيء في إضعاف الطبيعة؛ فقد قال الرازي: “وسَل عن السبب البادي وضاده بالعلاج، فمن كان وقع فيه من ضيق الحال ولطف تدبير فأوسع الله عليه بالضد، وأغب علاجهم مدة ثم عاوده، فإنهم ربما خرجوا من العلة في المدة التي تغب فيها العلاج، وإدمان العلاج يوهن الطبيعة”.
- خلال معالجة الأمراض العصبية العقلية؛ أكد الرازي على أهمية إخراج المريض من حيز اللاشعور إلى حيز الشعور، قائلاً: “أذا أزمن بالمريض المرض وطال، فانقله إلى بلد مضاد لمزاج علته.. فكثيراً برأ خلق كثير من المالينخوليا بطول السفر”.
الأخلاق والتواصل:-
بالنسبة إلى الأخلاقيات الطبية؛ يؤمن الرازي بحتمية تحلي الأطباء بالتواضع واللطف، وأن يكونوا ودودين وليّنين عند التواصل مع مرضاهم، وذلك حتى يخففوا من وطأة الأخبار غير الجيدة على مسامعهم.
وأشار الرازي إلى الأهمية الكبيرة لتواصل الأطباء مع مرضاهم على المستوى الشخصي عوضاً عن اخبارهم بأمراضهم وما يعانون به بشكل مباشر، قائلاً إن: “الصيغة المحببة القريبة والمبهجة التي تقوم على الكلمات والعبارات المشجعة لها دور كبير في غرس الأمل بالشفاء في قلوب المرضى”.
وفي النهاية؛ يتصدَّى ابن النديم لوصف مكانة ونُبل وتواضع ومساهمات الرازي في حقل العلوم الطبية ليس على لخدمة العرب و المسلمين فحسب، بل للعالم برمته، إذ يضيف في كتابه “الفهرست” عن الطبيب الشهير: “أوحَد دهره، وفريدُ عصره، قد جَمَعَ المعرفة بعلومِ القدماء وسيَّما الطب، وكانَ يتنقَّل بين البلدان..، وكان يجلس في مجلسهِ ودون تلاميذه، ودونهم تلاميذ أُخَر، وكان يجيء الرجلُ المريض؛ فيصف له ما يَجد لأوَّل من تلقَّاه، فإن كان عندهم علم وإلَّا تعدَّاهم إلى غيرهم، فإن أصابوا والَّا تكَّلم الرازي في ذلك، وكان كريماً متفضِّلاً باراً بالنَّاس، وحَسَن الرأفة بالفقراء والإعِلَّاء، حتى كان يُجري عليهم الجرايات الواسعة ويمرضهم”.
الرازي .. إرث عظيم:-
تعرَّض العلَّامة الموسوعي أبو الريحان البيروني إلى العدد الهائل لمؤلفات الرازي، وذلك في سياق عرض الأول لمساهمات الثاني، وفيما يلي عدد تلك المصنَّفات:
- الطب: ترك وراءه 56 كتاباً، وأبرزها “الحاوي” والذي استخرج منه ماكس ما يرهوف 33 ملاحظة إكلينيكية لها خطرها.
- الطبيعيات: 33 كتاباً.
- الفلسفة 17 مؤلفاً، وقد كان يؤمن بخمسة مبادئ قديمة تأثر بها من خلال اطلاعه على مساهمات فلاسفة الإغريق مثل إنباذوقليس وأنكساجوراس، وهي: الله تعالى والنفس الكلية والهيولى الأولى والمكان المطلق والزمان المطلق، وكان يؤمن بقِدَم هذه المبادئ وأنه لا بد منها لوجود العالم.
- الرياضيات: 10 مؤلفات.
- الميتافيزيقا: 6 كُتُب.
- المنطق: 8 مؤلفات.
- علم الكلام: 14 كتاباً.
- الكيمياء: 23 كتاباً، وقد اهتم اهتماماً خاصاً بهذا العلم، معلناً بأن الفيلسوف لا يكون فيلسوفاً حقاً، إلَّا إذا تعلَّم صناعة الكيمياء ومَهَرَ بها.
الخلاصة:–
في الحقيقة؛ فإن الإرث الذي يتمثل بنهج أبو بكر الرازي في التعامل مع مرضاه سواء في العلاج أو من خلال التعامل الودود معهم، يعتبر منارة يهتدي بضيائها ممارسو الطب النفسي، فهو بكلِّ ما خلّفه وراءه من علم وأسلوب منهجي فريد في التعامل، ظل أمراً ملهماً للعاملين في حقل الطب النفسي طيلة القرون العشرة الأخيرة
وهنا أيضا، وحتى لا يظن البعض أن هذه الشخصية مجرد طبيب بارع فقط، وإنما هو أيضاً فيلسوف وفلكي ورياضي وكيميائي وفيزيائي ومهندس ميكانيكي، فالرازي يعدُّ شخصية موسوعية كانت قاسماً مشتركاً مع عدد من الأعلام العربية الإسلامية من قبيل ابن سينا والبيروني وغيرهما..
ذلك لأن العلم كان حينذاك مقدماً على أي اعتبار آخر، فمن امتلك العلم بالأمس ويحوزه اليوم وغداً؛ هو من يستطيع الارتقاء والتقدم وحفظ حدوده وتحديد مصيره وبناء مستقبله.
الرازي .. نهاية مسيرة:-
وقال ابن العبري في حادثة وفاة الرازي: ” وفي سنة عشرين وثلثمائة؛ توفِّيَ محمد بن زكريا الرَّازي، وكان في ابتداء أمره يضرب بالعود، ثم ترك ذلك، وأقبل على الفلسفة، فنال منها كثيراً، وألَّف كتباً كثيرة، أكثرها في صناعة الطِّب وسائرها في المعارف الطبيعية، ودبَّر بيمارستان الرَّي ثم بيمارستان بغداد زماناً.
وكان في بصره رطوبة لكثرة أكله الباقَّلي، ثم عُمِيَ آخر زمانه بماء نزل في عينيه، وجاءه كحَّال ليقدحهما، فسألهُ عن العين كم طبقة هي؟، فقال: لا أعلم، فقال له: لا يقدرح عينيَّ من لا يعلم ذلك.
فقيل له: لو قدحتَ لكُنتَ أبصرت، فقال: لا قد أبصرتُ في الدُّنيا حتى مللتُ، بحسب ما أرده ابن العبري في كتابه الشهير “مختصر تاريخ الدول”.
المصادر:–
- مجلة التراث العربي، العدد رقم 10، عام 1983، مؤلفات الرازي وتعاليمه الفلسفية، أحمد مضر صقال، دمشق، سوريا.
- الوقاية من الأمراض النفسية وعلاجها في الطب العربي الإسلامي، محمود الحاج قاسم.
- الفهرست، ابن النديم.
- العصر العباسي الثاني، شوقي ضيف.
- تاريخ مختصر الدول، ابن العبري.
- ماذا قدم المسلمون للعالم؟، راغب السرجاني.
- قصَّة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية، راغب السرجاني.
http://archive.alsharekh.org/newPreview.aspx?ISSUEID=16102
aque A: Psychology from Islamic perspective: contributions of early Muslim scholars and challenges to contemporary Muslim psychologists. J Religion Health 2004; 43:357–377
https://edobarista.com/en/content/news/15-rhazes-and-the-therapeutic-use-of-coffee-in-ancient-persia
https://www.itto.org/iran/binary.asp?fileid=180312115028ik19iveb7j
https://pixabay.com/photos/burnout-man-face-bullying-stress-3721062/