هل أثَّرت طروحات وآراء الإمام أبو حامد الغزالي على الفرنسي رينيه ديكارت؟ في هذا المقال نحاول التعرُّف على حقيقة تأثر الفيلسوف الفرنسي بأفكار حُجَّة الإسلام، والمتمحورة حول الشك المنهجي والمعرفة الذاتية لوجود إله، وكيف كانت الترجمة العامل الأساس في هذا التأثير.
رينيه ديكارت أبو الفلسفة الحديثة، والذي نهل من معين الفلسفة اليونانية التي وصلت أوروبا عبر قناة الفلاسفة العرب والمسلمين؛ يبدو أنَّه اطَّلع على طروحات أبي حامد الغزالي، الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي، وهو العصر الذي شهد استمرار تفوق الحضارة الإسلامية على مثيلاتها ونظيراتها خلال العصر الوسيط.
لقد أوغل الغزالي في مسألة إخضاع العقل والحواس للفحص وذلك في سياق حرصه على التثبت من صلاحيتها لكسب العلوم، الأمر الذي دفعه لفقدان الثقة بالعقل قبل أن يستعيد الثقة به في حياته التي شابها نوع من القلق والتذبذب والزهو بحصيلة العلم ثم الزُّهد والإنزواء والتصوف، ومن ثم العودة إلى جانب من الحياة العملية السابقة.
وقال بعد أن استعاد ثقته بالعقل بعد شكٍ عميق : ” وعادت النفس إلى الصِّحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكُن ذلك بنظم دليل ولا ترتيب كلام، بل بنورٍ قذفه الله في الصَّدر، وذلك النُّور هو مفتاح أكثر المعارف، فمَن ظَنَّ أنَّ الكَشفَ موقوف على الأدلة، فقد ضيَق رحمة الله الواسعة”.
الفكر النقدي في كتاب تهافت الفلاسفة للغزالي:-
أبو حامد الغزالي، الفقيه والمتكلِّم الموسوعي، ضمَّن كتابه الشهير والموسوم بـ تهافت الفلاسفة، نظرياته القائمة على الفكر النقدي في مواجهته للآراء الفلسفية القديمة، حيث نقد العديد من نظريات فلسفة كل من أرسطو وأفلاطون، وهو ما جعله أحد أكبر من وجه سهام الانتقاد لها، وخصوصاً في تفسيراتها الخاصة بالعلوم الطبيعية والإلهية.
وفي حقيقة الأمر؛ إن انتقاد الغزالي للفلسفة اليونانية جاء من خلال اطلاعه على كتابات ابن سينا والفارابي المتأثرة بالفكر الإغريقي، وهو ما جعل أبا حامد نفسه عرضة للانتقاد المنهجي، على اعتبار أنه حَكَم على الفكر اليوناني من خلال كتابات الفيلسوفين المسلمين الكبيرين المذكورين، وليس من خلال عودته للطروحات الإغريقية الأصلية.
هذا التأثير تعدى دوائر جغرافيا وتاريخ الدولة السلجوقية التي عاش الغزالي تحت ظلِّها وصولاً إلى مناطق وعصور أخرى. حيث نرى أن الفيلسوف الكبير ابن رشد الأندلسي اللاحق زمنياً لأبي حامد؛ تناول أيضاً هذه الأفكار المتعلقة بانتقاد المناطقة والفلاسفة القدامى، ولا سيما نظريات أرسطو، ليقوم بالرَّد على الغزالي من خلال كتابه الشهير والذي سمَّاه “تهافت التهافت”.
هذه الأجواء النقدية الهامة إلى جانب تكوّين نظريات فلسفية جديدة تعدت الأسلوب القديم؛ جعلت هذا الحقل هاماً بالنسبة للمترجمين في هذا المجال. لا سيما في العصور التي تلت عصر ابن رشد ، حيث تم ترجمة أعماله، والتي من بينها منهج الغزالي، دون إغفال المناقشات التي دارت رحاها حول هذا المنهج بين اليهود في الأندلس، والذين نقلوا هذه المناقشات وغيرها من العلوم والآداب إلى أرجاء أوروبا، وذلك لصالح المدارس والجامعات التي نشأت في الغرب حينذاك.
وبالطبع كان هذا إيذاناً بنشر فلسفة الغزالي القائمة على النقد، وبما يعرف بمنهج الشك الذي تميز به رينيه ديكارت أيضاً.
هل هناك علاقة بين رينيه ديكارت والغزالي فيما يخص الشك المنهجي؟
الشك المنهجي هو المدرسة الفلسفية التي تبناها ووضع قواعدها الغزالي، نجد ملامحها لدى ديكارت من خلال:-
- تأثر ديكارت بالمعرفة الذاتية، والتي تختلف عن المنهج التجريبي أو التحليلي والمنطقي، فالمنهج الذاتي هو الأقرب للمنهج الصوفي، الذي كان الغزالي يدعو إليه في إطار عقيدة السلاجقة الصوفية الشهيرة، والتي تبنتها المدارس النظامية والتي كان مركزها بغداد.
- تأثر ديكارت في فلسفته التي وضعها في القرن السادس عشر بالتحليل والاختزال، بما يخص جميع مصادر المعرفة والشك فيها، حتى يتم الوصول للحقائق المختلفة حولها، فالمعرفة الذاتية التي لا شك فيها بالنسبة لديكارت هي معرفة الإله، وهو نفس نهج الغزالي.
- ديكارت تبنى منهج وقول: إن “عدم وجود الأدلة ليس بشيء بالنسبة لمعرفة الإله الذي خلق الكون”، فإن حل مشكلة الشك المنهجي في هذه الحقيقية غير منطقي وغير حسي في الوقت ذاته، وهذا أيضاً نجده في فلسفة الغزالي التأسيسية قبل وجود رينيه ديكارت.
الغزالي وديكارت والمحسوسات والعقل:-
ويقول محُقق كتاب تهافت الفلاسفة، سليمان دنيا، في هذا الصدد: “لقد سجَّل الغزالي بشكِّه ظاهرةً فِكرية قدَّرها فيه وأكبره من أجلها رِجال الفلسفة، لقد حاول الغزالي بهذه الظَّاهرة أن يؤسِّس دعائم قوية يقيم عليها بناء المعرفة سليماً قوياً”.
وحينما تفرَّغ الغزالي طيلة عامين وذلك لقراءة الفلسفة والغوص في أسرارها بغية التأهب للرد على طروحات كل من ابن سينا والفارابي المتأثرة بدورها بالفكر الإغريقي؛ يتضح بأنه وأثناء قيامه بذلك (الغزالي) قد شكَّ في كثير من الأمور الحسية بذات الطريقة التي حصلت لاحقاً مع ديكارت.
إذ يقول الغزالي في هذا الصدد: “فأقبلتُ بجدٍ بليغ، أتأمل المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها، فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً”.
ويضيف..” من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسَّةُ البصر، وهي تنظر إلى الظِّل فتراه واقفاً غير متحرِّك، وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة بعد ساعة تعرف إنَّه متحرِّك، وأنَّه لم يتحرَّك دفعة بغتة، بل على التدرُّج ذرة ذرة، حتى لم تكن له وقوف”.
وفي المقابل؛ ينقل مؤرخون عن ديكارت في كلام مشابه قوله: “إن تجارب كثيرة قد قوضت – شيئاً فشيئاً- كل ما لديه من ثقة في الحواس كأداة للمعرفة الصحيحة؛ إذ لاحظَ كثيراً أن الأبراج التي تبدو للرائي مستديرة عن بعد، تلوح في نظره مربَعةً متى كان قريباً منها، وأن التماثيل الضخمة التي تعلو قممها؛ تبدو صغيرة الحجم متى نظر إليها من أسفل”.
وكان من قبله الغزالي يقول: ” وتنظرُ إلى الكوكب؛ فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدُلُّ على أنه أكبر من الأرض بمقدار”.
وعبر هذه الأمثلة وغيرها الكثير؛ يمكن اعتبار أن الغزالي قد سبق مؤسس الفلسفة الحديثة بقرون في تحديد مكانة العقل وإماطة اللثام عن جوانب القصور التي تعتريه.
العقل والوحي:-
أما فيما يتعلق بموقف العقل من الوحي؛ فقد أقدَمَ ديكارت على تنحية حقائق الوحي عن مجال العقل، ذلك لأنه يرى بأنها لا تُدرَك إلَّا بمددٍ من السماء خارقٍ للعادة، ليرتد بهذا إلى النزعة اللاعقلية في مجال الدين.
وقبله بقرون كان الغزالي قد قال: ” وأمَّا الرياضيات فلا معنى لإنكارها ولا المخالفة فيها، وأمَّا المنطقيات فهي نظرٌ في آلة الفكر في المعقولات، ولا يتفق فيها خلاف به مبالاة… أين من يدَّعي أن براهين الإلهيات قاطعة كبراهين الهندسيات؟”.
هل أثَّر الغزالي على رينيه ديكارت؟
خلاصة الأمر؛ أن رينيه ديكارت من الممكن أن يكون قد قرأ لابن رشد، الذي ناقش أفكار الغزالي بالتفصيل من خلال “تهافت التهافت” وغيره من مؤلفاته التي تُرجِمت إلى اللاتينية ودخلت جامعات ومعاهد أوروبا من بوابة الأندلس.
لذا؛ يبدو أن الفرنسي تأثر بهذه المدرسة الرشدية الغزالية في الأساس، وجعلت منه مفكراً وفيلسوفاً محافظاً على النهج الذاتي الذي يعتمد في نفس الوقت على منهجية الشك، ماعدا الأدلة الذاتية لوجود الله، وهذا ما كان يدعو إليه الغزالي صاحب هذه المدرسة.
إذاً، نجد أن آفاق الفلسفة الغزالية تعدت الآفاق، ووجدت لها حيزاً غير مباشر في الفلسفة الحديثة التي رسمت معالم الثقافة الغربية انطلاقاً من عصر النهضة.
حديث جبران عن الغزالي:-
عَقَدَ الأديب والشَّاعر اللبناني الكبير جبران خليل جُبران (المتوفي سنة 1931 م) مقارنةً بين كلٍّ من القِديس أغسطينوس (المولود في الجزائر، والمتوفى سنة 430 م) وما بين أبي حامد الغزالي (المتكلِّم والمتصوف والفقيه المتوفَّى سنة 1111 م)، فكانت مقارنةً مُلفِتة أورَدَهَا جُبران في كتابه البدائع والطَّرائف، فيما يلي نصّها:
بين الغزالي والقِدّيس أغسطينوس رابطة نفسية، فهُما منظِّرَان مُتشابهان لمبدأ واحِد، رغم ما بين زمانيهما ومحيطيهما من الاختلافات المذهبية والإجتماعية.
أمَّا ذلك المبدأ فهو ميلٌ وضعيٌ في داخل النَّفس يتدرَّج بصاحبه من المرئيات إلى المعقولات فالفلسفة فالإلهيات.
اعتزل الغزالي الدُّنيا وما كان فيها من الرَّخاء والمقام الرَّفيع، وانفرَدَ وحده متصوِّفاً، متوغِّلاً في البحث عن تلك الخيوط الدقيقة التي تصل أواخِر العِلم بأوائل الدِّين، متعمِّقاً في التفتيش عن ذلك الإناء الخفي الذي تمتزج فيه مدارِك النَّاس واختباراتهم بعواطِف النَّاس وأحلامهم.
وهكذا فَعَلَ أغسطينوس قبله بخمسة أجيال، فمن يقرأ كتاب “الاعتراف”؛ يرى أنَّهُ قد اتَّخَذَ الأرض ومآتيها سُلَّماً يصعد عليه نحو ضمير الوجود الأعلى.
تفضيل الغزالي:-
غير أنني (جُبران) وَجدْتُ الغزالي أقرب إلى جواهر الأمور وأسرارها من القِدِّيس أغسطينوس، وقد يكون سبب ذلك في الفَرق الكائن بين ما ورثه الأول من النَّظريات العِلمية العربية واليونانية التي تقدَّمت زمانه، وما ورِثَه الثَّاني من عِلم اللاهوت الذي كان يشغل آباء الكنيسة في القرنين الثاني والثالث للمسيح، وأعني بالوراثة ذلك الأمر الذي ينتقلُ مع الأيام من فكرٍ إلى فكرٍ مثلما تلازِم بعض المزايا الجسدية مظاهر الشُّعوب من عصر إلى عصر.
ووجدتُ (جُبران) في الغزالي ما يجعله حلقةً ذهبيةً موصلة بين الذين تقدَّموه من متصوفي الهِند والذين جاؤوا بعده من الإلهيين، ففي ما بلغت إليه أفكار البوذيين قديماً شيء من ميول الغزالي، وفي ما كتبه سبينوزا ووليم بلايك حديثاً شيء من عواطفه.
وللغزالي عند مستشرقي الغرب وعلمائه منزلةً رفيعة، وهُم يضعونه مع ابن سينا وابن رشد في المقام الأول بين فلاسفة الشرق، أما الروحيون؛ فيحسبونه أنبل وأسمى فكرة ظهرت في الإسلام.
ومن الغرائب أنني شاهدتُ على جُدران كنيسة في فلورسنا (إيطاليا) من بناء الجيل الخامس عشر؛ صورةً الغزالي بين صور غيره من الفلاسفة والقديسين واللاهوتيين الذين يعتبرهم أئمة الكنيسة في الأجيال الوسطى دعائم وأعمدة في هيكل الرُّوح المطلق.
ولكِن الأغرب من ذلك هو أن الغربيين يعرفون عن الغزالي أكثر مما يعرفه الشرقيون، فهم يترجمونه ويبحثون في تعاليمه ويدققون النَّظَر في منازعه الفلسفية ومراميه الصُّوفية، أما نحن؛ نحنُ الذين لم نَزَل نتكلَّم اللغة العربية ونكتبها، فقلَّما ذكرنا الغزالي أو تحدثنا عنه، نحن لم نَزَلْ مشغولين بالأصداف، كأن الأصداف هي ما يخرج من بحر الحياة إلى شواطئ الأيام والليالي.