أبو الهذيل العلاف –اسمه ونشأته:–
محمد الهُذَيل بن عبد الله بن مكحول، أبو الهذيل العبدي، المعروف بـ “العلاف” ، المتكلم، من أئمة المعتزلة، وُلِدَ في البصرة سنة 131هـ، وقيل: سنة 134هـ، وقيل: سنة 135هـ.
أبو الهذيل العلاف – مكانته العلمية:–
اشتهر أبو الهذيل العلاف بعلم الكلام، وكان شيخ البصريين في الاعتزال، ومن أكبر علمائهم، وهو صاحب مقالات في مذهبهم ومجالس ومناظرات، وكان حسن الجدال، قوي الحجة، سريع الخاطر، كثير الاستعمال للأدلة والإلزامات.
آراؤه العقدية:–
توجد بعض الآراء العقدية التي خالف فيها أبو الهذيل العلاف جمهور العلماء؛ منها:
- يرى بأن نعيم الجنة وعذاب النار ينتهي، بحيث إن حركات أهل الجنة تسكن، حتى لا ينطقون بكلمة.
- أنكر الصفات المقدسة حتى العلم والقدرة، وقال: هما الله، وأنَّ لمَا يَقْدِرُ اللهُ عليه نهايةً وآخراً، وأنَّ للقدرة نهايةً لو خرجت إلى الفعل، فإن خرجت، لم تقدر على خلق ذرةٍ أصلاً.
- أقرَّ بتوقف الوجود عن التجدُّد، بقوله: ” بتناهي مقدورات الله، حتى إذا انتهت؛ لا يقدِر على شيء”، وقوله: “إن خالقية الله قد انتهت إلى حد أنه لا يقدر أن يخلق شيئاً”.
مِثل هذه المقولات وجدت ردوداً واسعة، من بين أشهرها تلكَ التي أطلقها الإمام عبد القاهر البغدادي (المتوفى سنة 429 هجرية) والذي قال في كتابه “الفَرقِ بين الفِرَق”: إن مقالات النظام بمثابة “فضائح”، كما لقيت مقالاته إجابات أخرى من قِبل الإمام فخر الدين الرازي (المتوفى سنة 604 هجرية).
القواعد في مدرسة الهذلية الاعتزالية:-
والهذلية: أتباع أبي الهذيل العلَّاف، حيث انفرد أصحابه بمسائل منها:
- أولاً: قوله: إن عِلم الله سبحانه وتعالى هو الله وقدرته هي هو.
- ثانياً: أنه أثبت إرادات لا محل لها يكون الباري تعالى مريداً بها، وهو أول من أحدث هذه المقالة، وتابعه عليها المتأخرون من المعتزلة.
- ثالثاً: قوله في كلام الباري تعالى أن بعضه لا في محل، وهو قوله “كُنْ” وبعضه في محل كالأمر والنَّهي، والخبر والاستخبار، وكأن أمر التكوين عنده غير التكليف.
- رابعاً: قوله في القدر مثل ما قال أصحابه؛ إلَّا أنَّه قدري الأولى جبري الآخرى، فإن مذهبه في حركات الخالدين في الآخرة أنَّها كلها ضرورية، لا قُدرة للعباد فيها، وكلَّها مخلوقة للباري تعالى؛ إذ لو كانت مكتسبة للعبادة لكانوا مكلَّفين بها.
- خامساً: قوله في حركة أهل الخلدين، أنَّها تنقطع، وأنَّهم يصيرون إلى سكون دائم خموداً، وتجتمع اللَّذات في ذلك السُّكون لأهل الجنة وتجتمع في ذلك لأهل النَّار.
- سادساً: قوله في الاستطاعة أنها عَرَض من الأعراض غير السَّلامة والصِّحَّة، وفرَّق بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح.
- سابعاً: قوله في المكلَّف قبل ورود السَّمع، أنَّه يجب عليه أن يعرف الله تعالى بالدَّليل من غير خاطر، وإن قصَّر في المعرفة؛ استوجب العقوبة أبداً، ويعلم أيضاً حُسن الحَسَن، وقُبح القبيح، فينبغي عليه الإقدام على الحَسَن كالصِّدق والعَدل، والإعراض عن القبيح كالكذب والفُجور.
- ثامناً: قوله في الآجال والأرزاق، أن الرَّجل إذا لم يُقتل؛ مات في ذلك الوقت، ولا يزداد عمره أو ينقص.
- تاسعاً: قال : إن الحجَّة في الأخبار الماضية الغائبة عن الحواس؛ لا تثبُت بأقل من عشرين رجلاً فيهم واحد أو أكثر من أهل الجنَّة.
نوادره ولطائفه:–
حكي أنه لقي صالح بن عبد القدوس، وقد مات له ولد وهو شديد الجزع عليه، فقال له أبو الهذيل : لا أعرف لجزعك عليه وجهاً، إذ كان الإنسان عندك كالزرع، قال صالح: يا أبا الهُذَيل، إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب «الشكوك» فقال له: كتاب «الشكوك» ما هو يا صالح؟ قال: هو كتاب قد وضعته من قرأه يشك فيما كان حتى يتوهم أنه لم يكن، ويشك فيما لم يكن حتى يتوهم أنه قد كان، فقال له أبو الهُذَيل: فشك أنت في موت ابنك، واعمل على أنه لم يمت، وإن كان قد مات، وشك أيضاً في قراءته كتاب «الشكوك» وإن كان لم يقرأه.
وكان أبو الهذيل قد اجتمع عند يحيى بن خالد البرمكي جماعة من أرباب الكلام فسألهم عن حقيقة العشق، فتكلم كل واحد بشيء، وكان أبو الهذيل المذكور في جملتهم، فقال: “أيها الوزير، العشق يختم على النواظر ويطبع على الأفئدة، مرتعه في الأجسام ومشرعة في الأكباد، وصاحبه متصرف الظنون متفنن الأوهام، لا يصفو له مرجو، ولا يسلم له موعود، تسرع إليه النوائب، وهو جرعة من نقيع الموت ونقعة من حياض الثكل، غير أنه من أريحية تكون في الطبع وطلاوة توجد في الشمائل، وصاحبه جواد لا يصغي إلى داعية المنع ولا يصيخ لنازع العذل”.
ما قيل فيه:–
- قيل: إن المأمون بن هارون الرشيد قال لحاجبه: من بالباب؟ قال: أبو الهذيل ، وعبد الله بن أبان الخارجي، وهشام بن الكلبي. فقال: ما بقي من رؤوس جهنم إلا من حضر.
- وقال المأمون أيضاً: “أطلَّ أبو الهُذَيل على الكلام كإطلال الغمام على الأنام”.
- يقول الأشعري: إنَّ أبا الهُذيل أخَذَ قوله في الصِّفات من أرسطاليس، وذلك أن أرسطاليس قال في بعض كُتُبِه: “إن الباري علمٌ كلّه، قدرة كلُّه، حياة كلُّه، سمْعٌ كُلُّه، بصرٌ كُلُّه”، فحسَّن اللَّفظَ من عند نفسه، وقال: “علمهُ هو هو وقدرته هي هو”.
- يقول الشهرستاني صاحِب “الملل والنِّحَل”: “إنَّ أبا الهذيل إنَّما اقتبسَ رأيه في الصِّفات من الفلاسفة الذين اعتقدوا أنَّ ذاته واحدة لا كَثْرَةَ فيها بوجه، وإنَّما الصِّفاتُ ليس وراء الذَّات معاني قائمة بها، بل هي ذاته..”.
- قال المبرِّد النحوي الكبير: ما رأيتُ أفصح من أبي الهذيل والجاحظ، وكان أبو الهذيل أحسَنَ محاضرةً من الجاحظ، شهدته في مجلس، وقد استشهد في جملة كلامه بثلاثمائة بيت”.
- وقال الذهبي: “ولم يكن أبو الهُذَيل بالتقي، حتى لَنُقِلَ أنه سَكِرَ مرةً عند صديقه، فراود غلاماً له، فرماه بِتَوْرٍ -إناء-، فدخل في رقبته، وصار كالطوق، فاحتاج إلى حداد يفكه، وكان أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل؛ تلميذ واصل بن عطاء الغَزَال”.
كتبه ومصنفاته:–
ميلاس: وكان ميلاس رجلاً مجوسياً فأسلم، وكان سبب إسلامه أنه جمع بين أبي الهُذَيل المذكور وجماعة من الثَّنَوِيَّة (أصحاب الاثنين الأزليين: النور والظلمة، يزعمون بأنهما أزليان قديماً) فقطعهم أبو الهُذَيل، فأسلم ميلاس عند ذلك.
أصول المعتزلة:-
للمعتزلة أصول خمسة هي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمرُّ بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وكانت هذه المبادئ وليدةً للمناقشات والمناظرات التي جَرَت بينهم وبين مخالفيهم.
وقد خالف المُعتزلة السلف في فَهم العقائد، إذ كان منهجهم في استيعابها مستند إلى العقل لا سواه، فقد عملوا على تطبيق الأحكام العقلية على العقائد الدينية.
وكانت أصولهم الخمسة وما انبثق منها وعنها من آراء؛ بمثابة القاعدة الأساسية في محاورتهم مع النصوص، سواءً أكانت قرآناً أو سُنَّة، فكان كل ما يعارض مبادئهم من آيات يؤولونها، وما يصطدم منها من أحاديثٍ ينكرونها.
وقد قاموا أيضاً بتأوليل الآيات التي تُثبت رؤية الله، وآيات التجسيم والتشبيه، والآيات التي تقول بالجبر والقدر.
كما كان موقفهم من الحديث موقِف المُتشكك في صحته، وأحياناً منكراً له، ذلك لأنهم يُحكمِّون العقل في الحديث، لا الحديث في العقل.
وقالوا أيضاً: إن الأحاديث التي توحي بالجبر ذات رواية آحاد، وخبر الواحد لا يُؤخذ به في أصول العلم، كما ذهبوا إلى جواز وقوع الكذب في خبر المتواتر من الحديث، طبعاً مع وجود تدرُّج في هذا الطرح ما بين شخصية معتزلية وأخرى.
دور العلاف في إدخال الفلسفة في مقالات الاعتزال:-
تحدَّث الدكتور رشيد خيون عن الدور الذي لعبه أبو الهذيل العلاف في إدخال الفلسفة على مقالات الاعتزال، وذلك بحسب ما جاء في كتاب المفكر العراقي المُعاصر: “معتزلة البصرة وبغداد”.
وقال خيون: إن لأبي هذيل دوراً بارزاً في إدخال الفلسفة على مقالات الاعتزال، لا سيما في مضمار نفي الصفات، وطبيعة الجسم، وما يتعلق به من أعراض حركة وسكون.
أما المقالات الأخرى التي كتبها العلّاف والتي تخص علم الله عز وجل ومكانه وقدرته وطبيعة أهل الجنة والنار، فقد كانت محض رياضة فكرية في مناظراته، كان يرمي عبرها إلى إثارة الجدل، بحسب كتاب خيون المذكور أعلاه.
هذا وقد أشار مؤرخا المعتزلة البلخي والخياط في كتابيهما “المقالات” و”الانتصار” على التوالي إلى هذا الأمر، بيد أن الخياط اعتذر عن مقالات العلاف، قائلاً: ” لقد تاب من الكلام في هذا الباب والنظر فيه قبل موته، أخبر بذلك جماعة غير متهمين، منهم جعفر بن حرب”.
كما تعرَّض الكعبي لهذا الشأن أيضاً، قائلاً : إنما كان أبو الهذيل يتكلم في هذا الباب الذي ذكرناه، عن طريق النظر، ويشحذ به الأفهام، ويستخرج قوى المناظرين، ثم تاب من الخوض فيه، والاحتجاج له، عندما رأى من اعتقاد من أعتقده”. ويذكر خيون أن الجديد الذي أضافه العلاف على التوحيد المعتزلي، المبني على نفي الصفات عن الذات الإلهية؛ هو فلسفته لهذا النفي، إذ قصد بنفي الصفات؛ تأكيده الفرد لا الكثرة في الذات الإلهية، فالعلم، والقدرة، والحياة، والرحمة، والجلالة، والبصر، والسمع، والعظمة، وكل ما تعنيه الأسماء الحُسنى هي الذات نفسها، وليست صفات لها.
أبو الهذيل العلاف و جوهر الفرد:-
يُعرف الجوهر الفرد وكأنه الذرَّة أوالجزء الذي لا يتجزأ والذي لا تنفصِم عراه، وقد كان لأبي هذيل العلاف قصب السبق بين نظرائه من أعلام المعتزلة في تناول جوانب هذه المسألة.
ويختزل العلاف نظريته هذه بالقول : إن “الجسم هو ما له يمين، وشمال، وظهر، وبطن، وأعلى، وأسفل، وأقل ما يكون الجسم ستة أجزاء، أحدهما يمين والآخر شمال، وأحدهما ظهرٌ والآخر بطن، وأحدهما أعلى والآخر أسفل، وأن الجزء الذي لا يتجزأ يماس ستة أمثاله، وأنه يتحرَّك ويسكُن ويجتمع مع غيره، ولا يجوز عليه السكون، ولا يحتمل اللون، والطعم، والرائحة ولا شيئاً من الأعراض غير ماذكرنا حتى تجتمع هذه الستة الأجزاء، فإذا اجتمعت؛ فهي الجسم”.
ويرى أن الجزء لا يمكن له أخذ صفات الجسم كاملاً، وإنما تتألف من وحدة الأجزاء في الجسم، كما أن الجزء يفتقر إلى “الطول والعرض والعمق والاجتماع وليس له افتراق”.
وانطلاقاً من ذلك؛ يقدِّم العلاف نطريته التي تتمحور حول تأكيد الوجود؛ وأن الله تعالى أزلي وقديم، وأن معنى الجزء الذي له نهاية في التجزئة؛ يكون له بداية في الحدو، لذا، فقد أكد على أن هذه خاصية تماثل بناء أجسام الوجود، أي ما يمكن قوله بـ”إن من له نهاية تكون له بداية”، لذا وجب أن يكون الوجود حادثاً جديداً.
ويُشكِّل جزم العلَّاف بعدم إمكانية تجزئة الذرَّة الغاءً لقدرة الله تعالى على جعل الذرات تتجزاً إلى ما لا نهاية، ومن وجهة النظر الدينية التي تمسَّك بها العلاف، فإنه لا يصح تأكيد القوانين في الوجود كواقع موضوعي قائم.
وفاة أبي الهذيل:-
توفي أبو الهذيل سنة 235هـ بسر من رأى؛ وقال الخطيب البغدادي: توفي سنة 226هـ، وقال المسعودي: توفي سنة 227هـ، وكان قد كف بصره وخرف في آخر عمره، إلا أنه كان لا يذهب عليه شيء من الأصول، لكنه ضعف عن مناهضة المناظرين وحجاج المخالفين، وضعف خاطره.
ذُكِر عن محمد بن زكريا الغلابي، قال: ” عاش أبو الهذيل مائة وخمس سنين، كان يأخذ كل سنة من السلطان، ويفرِّقها على أصحابه”.
وقبل وفاته؛ دخل عليه دخل تلميذه إبراهيم النظَّام، وقد أسَنّ العلَّاف وبعُد عهده بالمُناظَرَة، وإبراهيم حَدَثُ السِّن.
فقال إبراهيم: أخبرني عن قراركم: أن يكون جوهَرَاً مخافةَ أن يكون جِسماً؛ فهل قرَّرتُم ألَّا يكون جوهراً مخافة أن يكون عَرَضَاً، والعَرَضُ أضعفُ من الجَوهَر؟
فبَصًقَ أبو الهذيل في وجهِهِ، فقال إبراهيم: قبَّحَكَ الله من شيخ، ما أضعَفَ صِحَّتَكَ وأسفَهَ حِلمَك.
المصادر:–
- الأعلام (7/131).
- المعتزلة في بغداد وأثرهم في الحياة الفكرية والسياسية، أحمد شوقي العمرجي.
- المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها، عواد المعتق.
- فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تحقيق فؤاد السيد.
- سير أعلام النبلاء (10/542/رقم 173).
- معتزلة البصرة وبغداد، رشيد خيون.
- مذهب المُعتزلة، من الكلام إلى الفلسفة، رشيد خيون.
- العبر في خبر من غبر (1/332).
- وفيات الأعيان (4/265/رقم 606).