اسمه ونشأته:–
يعتبر ابن معاذ الجياني أحد أولئك الذين كتبوا وعملوا في مضمار علم الفلك، ومع ذلك لا يعرف عنهم اليوم إلا القليل.
ولكن؛ وبالاعتماد على ما وصل من كتابات خطتها أقلام المؤرخين، وما هو مؤكد اليوم؛ فإن اسمه هو محمد بن معاذ الجياني المعروف بأبي عبد الله، وهو القاضي الأندلسي العالم والرياضي الذي ولد في بدايات القرن الحادي عشر للميلاد.
والملفت للنظر
أنه قد وُلد في عام كسوف الشمس، هذا الكسوف الذي وصفه ابن معاذ بكل تفاصيله.
لقب ابن معاذ بـ”الجياني”
نسبة إلى جيان وهي المدينة الأندلسية التي عاش فيها طيلة حياته وعمل في محاكمها
كقاضٍ، في الحقيقة إن ابن معاذ يعتبر سليل عائلة من الحقوقيين والقضاة في تلك
المدينة الجميلة.
وصف مدينة جيان:-
تعرَّض أبو الفداء (المتوفى عام 1331 م) بالتفصيل إلى سِمات مدينة جيان التي ينتسب إليها ابن معاذ.
وقال صاحب كتاب “تقويم البلدان”: “و جيان في نهاية من المَنعة والحصانة، وجيان من قرطبة في الشرق وبينهما خمسة أيام، وبلاد جيان جمعت العيون والثمار مع طيبة الأرض”.
وزاد ” وبها الحرير الكثير، وجيان من أعظم مدن الأندلس وأكثرها خصبة وحصانة، ولم يقدر النصارى عليها إلا بعد حصار طويل، فسلمها إليهم ابن الأحمر صاحب غرناطة”.
أعماله ومكانته العلمية:–
من أبرز الأعمال
الفلكية التي وصلت لنا عن ابن معاذ هي “جداول الجياني” والتي تتكون من
مجموعة من الجداول الفلكية التي يرجح أن المترجم الإيطالي جيرارد الكريموني
(1114-1187 م) قد نقلها وترجمها إلى اللاتينية.
هذه الجداول -التي ظهرت باللغة اللاتينية بشكل مجموعة من المخطوطات المكتوبة- هي بمثابة الأطروحة التي اعتمدت على الجداول الفلكية لمؤسس علم الجبر محمد بن موسى الخوارزمي (781-850 م) والتي تم تعديلها مع الإحداثيات الجغرافية لمدينة جيان الأندلسية وتحديداً بتاريخ (16 يوليو / تموز من عام 622 هجري).
من الأمور التي
قام ابن معاذ بتصحيحها في أطروحته؛ هي خط الطول الجغرافي للمدينة تبعاً للقيمة
التي صححها ووضعها علماء الفلك الأندلسيين ضمن القرن العاشر للميلاد، ولكن ضمن
الفصل الـ (19) من الأطروحة، والذي عُنيَ فقط برؤية وترقب القمر الجديد بالإضافة
إلى بعض ما ورد فيه عن المثلثات الرياضية.
بينما في الفصل الثامن عشر من الأطروحة؛ نجد أن الجياني قد وضع الطريقة الأولى التي استعملت في الأندلس لتحديد جهة القبلة (الوجهة نحو مكة المكرمة) والتي تسمى بطريقة الزيج التي قام بإنشائها العالم الموسوعي أبي الريحان البيروني (973-1048 م).
إضافات ورؤية ذاتية:-
بشكل موجز؛
تعتبر كتابات ابن معاذ الجياني متضمنة للعديد من الإضافات الجديدة، كما يقدم أيضاً
رؤيته الشخصية مع التأثيرات التي تلقاها من علماء الفلك الشرقيين أمثال البيروني،
هؤلاء العلماء لم يكونوا مشهورين بعد في الأندلس.
مع أن ابن معاذ
لم يقم بأي شيء متفرد عن العلماء الذين سبقوه بشكل تام في الملاحظات الفلكية؛ إلا
أن تمكن من الوصول إلى العديد من الأرقام العملية.
الترجمة ودورها في إنقاذ مساهمات الجياني:-
ومن ذلك؛ ما
ميّز أطروحته الفلكية المتعلقة بالكسوف الشمسي والتي حملت عنوان “الكسوف
الكلي للشمس” والتي ترجمت إلى العبرية من خلال الناسخ المترجم صموئيل بن
يهودا (وذلك في سنة 1335 م).
كما أن ابن
يهودا كان قد ترجم له إلى العبرية كتاب (في الفجر) ولا يعرف إن كانت النصوص
العربية لهذين العملين موجودة إلى اليوم، بينما قام جيرارد الكريموني بترجمة
الكتاب الأخير إلى اللغة اللاتينية، هذا الكتاب الفريد الذي يتحدث عن مظاهر شفق
الصباح وشفق الغروب، حيث تم فيه بتعيين درجة ميلان الشمس عند كل من الشفقين وحددها
بقيمة (18) درجة عن الأفق.
كما أنه قد
أضاف مجموعة أخرى من القيم الأساسية وحددها ليكون لديه (متوسط المسافة ما بين
الأرض والشمس) الحجم النسبي لكل من الشمس والأرض بالإضافة إلى تقدير محيط الأرض
ليحدده (24000) ميل، ومن خلال استعمال الدوال الرياضية المثلية تمكن ابن معاذ من
حساب مدى ارتفاع الغلاف الجوي حيث قام بتحديده بأنه (52) ميل.
وهذا الرقم الدقيق نسبياً بقي أحد المسلمات الفيزيائية حتى بدايات عصر النهضة وتحديداً حتى قام الفلكي الألماني يوهان كيبلر (1571-1630 م) بتخفيضه في بدايات القرن السابع عشر الميلادي.
من أبرز
الأعمال الفلكية التي تنسب إلى الجياني؛ هو توصيفه لانعراج الأشعة الصادرة عن
الكواكب والنجوم (والتي توجد اليوم ضمن مخطوطة عربية محفوظة في مكتبة بيبلوتيكا
الطبية ضمن القسم الشرقي برقم 152).
الجياني والرياضيات:–
قام ابن معاذ
بكتابة العديد من المخطوطات الحسابية باللغة العربية، ومن أشهرها هي أطروحته
” كتاب مجهولات قوس الكرة”، بالإضافة إلى كتابه جداول الجياني (زيج
الجياني) والذي هو عبارة عن جداول في علم المثلثات الكروية، وتعتبر أطروحته هذه
أقدم ما كتب في العصور الوسطى عن المثلثات الكروية.
كما أن هذا
النص الرياضي يعتبر كينونة رياضية متفردة ويمكن العمل فيها بعيداً عن عالم الفلك،
حيث عمل على ما وصل من علماء الشرق الإسلامي الرياضيين في القرن العاشر للميلاد،
ولكن تعامل الجياني في المثلثات الكروية كان يتسم بتعامل مستقل عن أي علم أخر.
الجياني ونظرية إقليدس:–
يقوم ابن معاذ
عبر أطروحته “مقالة في شرح النسب” بالتحدث عن نظريات إقليدس الهندسية،
حيث يقول الجياني: بأن “هذه الأطروحة تهدف إلى توضيح الغير مفهوم من كتاب إقليدس
الخامس” هذا الكتاب الذي نقده واختلف مع محتواه العديد من العلماء الرياضيين
العرب.
قام ابن معاذ
بتوضيح نظريات الإغريقي إقليدس الملقب بأبي الهندسة (عاش في القرنين الثالث و
الثاني قبل الميلاد) بكل شفافية وتجرد ليصل إلى النتائج التي عمل علماء العرب
والمسلمين في المئة سنة السابقة للجياني بالوصول إليها بالانطلاق من أراءهم
الخاصة.
أي أن أسلوب ابن معاذ كان الأكثر نجاحاً وفاعلية من بين أعمال العشرات الذين سبقوه، فهو أول من يصل إلى فهم صحيح لنظريات إقليدس مثل ذلك الفهم الذي توصل له الرياضي الإنجليزي في عصر النهضة إسحاق بارو والذي جاء بعد ستة قرون من الجياني.
وفاته:–
على الأرجح أنه
قد توفي في مدينته جيان الأندلسية وذلك خلال العام 1079 م.
المصادر:–
https://ismi.mpiwg-berlin.mpg.de/biography/Ibn_Muadh_BEA.htm
The Biographical Encyclopedia of Astronomers, Springer Reference. New York: Springer, 2007, pp. 652-563
مكتبة قطر الرقمية