تمهيد:-
ضمن تراثها العلمي العريق؛ نجد أن أكثر ثروات الحضارة الإسلامية قيمةً جاءت عبر مجموعة من أكثر الموهوبين الذين وُلِدُوا على هذه الأرض، ومنهم ابن باجة الفيلسوف الرياضي، هذا العالم العارِف في مجال علم النَّبات والفلك، المنطِق واللُّغة وآدابها بالإضافة إلى اطلاعه الواسع على الموسيقى. وفيما يلي سنتحدث عن واحدة من أروع المخطوطات الأدبية التي كتبها وهي كتاب النفس.
من هو ابن باجة؟
هو محمد بن يحيى بن الصائغ، وينادى بأبي بكر ويُكنَّى بابن باجة، وهو الفيلسوف المولود في سنة بين عامي (475 -480 هـ) في شمال إسبانيا في مدينة تُعرف باسم سرقسطة، ليعيش حياة مليئة بالعمل والعلم إلى أن توفَّاه الله في مدينة فاس المغربية سنة (533 هـ) وتحديداً في شهر رمضان وهو في العقد السادس من العمر.
مكانته العلمية:-
برع ابن باجة في كتابة الشعر بجودة عالية وعُرف عنه عزفهُ على العود حيث كان يُلحن ويؤلف المقاطع الموسيقية، وترَكَ العديد من الكتابات الشعرية الموسيقية التي تضاف إلى مكتبة واسعة مما أنتج من كتب وأعمال؛ ففيها تجد تعليقه على أعمال أرسطو مع مجموعة واسعة من الأطروحات الفلكية والفلسفية.
إن بحثت عنه في كُتب الأعلام القديمة لوَجَدت بجوار لقبه “الوزير الحكيم”، وهو لقبٌ سياسيٌ أكتسبه ابن باجة خلال عمله في السياسة بمنصب الوزير لأثنين من حكام دولة المرابطين – حكموا الأندلس والمغرب العربي – حيث كانت الوزارة الأولى في مدينة سرقسطة حين عمل كوزير للحاكم ابن تيفوت – وهو أبو بكر بن إبراهيم بن تيفوت الصحراوي – وكان حاكم المرابطين في الأندلس. كما أنهً عمل كوزير ولمدة استمرت (20) عاماً للحاكم يحيى بن يوسف بن تاشفين.
أما على صعيد منزلته العلمية؛ فنجد الوزير الحاكم بنظر ابن خلدون كانت تعادل منزلة ابن رشد في المغرب العربي أو كمكانة كل من الفارابي وابن سينا في شرق العالم الإسلامي، وبالفعل كانت ومازالت لابن باجة مكانة عظيمة وتظهر بشكل جلي في النسخ الباقية من كتاباته الأصلية التي تمت المحافظة عليها خلال العصور – وهي نُسخ قام تلميذه المعروف باسم ابن الإمام بنسخها – وما ساهم في انتشارها عالمياً هو أن العديد منها قد حفظت بتراجمها إلى اللغة العبرية.
إن فلسفته تقوم على أفكار فريدة شرحها في كتاب “رسالة العقل بالإنسان” وضمن أطروحة تدبير المتوحد، ولكن الكتاب الفلسفي الأشهر على الإطلاق هو “كتاب النفس” وهو بمثابة رسالة علمية متكاملة أثَّرَت بشكل واضح على علم النفس الحديث الذي ظهر بعدها بقرون ويظهر أثرها واضحاً على ما كتبه ابن رشد.
إن تأثير ابن باجة لم يقتصر فقط على ابن رشد من المفكرين المسلمين المعاصرين له، بل نجده في كتابات ابن طفيل، ولكن ابن رشد كان هو وسيلة الغرب في التعرُّف على الوزير الحاكم من خلال ما ترجم من كتبه وخاصة تلك التي يقوم فيها بالنظر والتعليق على كتابات الفارابي، ابن باجة وابن سينا.
كتاب النفس لابن باجة:-
نسخة كتاب النفس التي لدينا للأسف ليست كاملة، مع أن نسختها الأصلية كانت كاملة خلال حياة ابن باجة، ولكن مع وفاته أضاع صديقه وتلميذه أبو الحسن بن الإمام بضع صفحات من نهايتها والتي لم يتم العثور عليها أو معرفة ما ورد فيها إلى اليوم.
وخلال مسيرة حياته؛ قام ابن باجة بأمرٍ ذكي ليثبت ملكيته الفكرية والأدبية لأطروحاته وكتبه فقد كان يذكر مقتطفات ويستشهد بمقاطع من “كتاب النفس” الذي ألَّفه ليبني عليه أطروحته الثانية “كتاب تدبير المتوحد” مشيراً بلغته الخاصة إلى أن “كتاب النفس” هو نتاج فكره الخالص وبأنه عمل مستقل خاص به، بينما في الكُتب الأخرى كان قد استعان بكتب وتعليقات من علماء ومفكرين أخرين منهم أرسطو.
وبنظرةٍ على ما وصلنا من كتاب النفس؛ نجد أن الكاتب قدَّم لنا عرضاً لطبيعة الروح والنفس البشرية دارساً إياها ضمن أحد عشر فصلاً متفرداً، الهدف من كل منها هو دراسة بعد ومجال معين، فيقوم كل فصل بالبناء على ما سبقه، والفصول هي:
I. حديث في طبيعة النفس.
II. قابلية التغذية.
III. قابلية الإدراك الحسي.
IV. قابلية الرؤية.
V. قدرة السمع.
VI. قدرة الشم.
VII. المذاق وقدرة تحسس النكهات.
VIII. اللمس وقدرة التعرف على الجسم الملموس.
IX. فصل في الشعور العام، يشمل ما يأتي من الحواس السابقة.
X. قدرة الخيال.
XI. قابلية الاستنتاج والاستدلال.
النفس البشرية:-
فكَّر ابن باجة بكتابة أطروحة فلسفية تتمحور عن النفس البشرية، في الواقع إن كتاب النفس الذي يعتبر اليوم أقدم أطروحة موجودة على الإطلاق تفسر جوهر مخطوطات أرسطو الثلاثة المسماة بـ ” De Anima ” ويعني بالعربية كتابٌ عن الروح.
ولكن ابن باجة لا يخبرنا ويسرد رأيه عن أرسطو لوحده، بل سنجد في كتابه ذِكراً لكل من أفلاطون، جالينوس، أفروديسياس وثامسطيوس الفيلسوف الخطيب الذي شرح هو أيضاً مخطوطات أرسطو؛ وذكر ايضاً مجموعة من أشهر الفلاسفة المسلمين فنجد إشارةً مليئة بالإعجاب تدل على الفارابي وذكر مليء بالتقدير للإمام أبي حامد الغزالي.
فيستعرض لنا الوزير الحاكم مساراً كاملاً لعلم النفس البشرية يبدأ منذ نشأته ويمتد وصولاً إلى عصره، ثم يخبرنا عن نظرة الإسلام في مفهوم النفس البشرية وشموليتها، وفي هذا الجزء اعتمد ابن باجة على نظرية الفارابي الواصفة لكيفية العلاقة الناشئة بين المنطق والفلسفة؛ بالإضافة إلى وضع الكثير من التعديلات والإضافات عليها، ليبتكر اسلوباً متفرداً في سبيل التحقيق والبحث الفلسفي إلى جانب اعتماده على مفهوم علم النفس الفيزيائي وإلى قوانين ما وراء الطبيعة.
ففي سبيل تحليله لمفهوم الروح بدأ من فكرة أن الأجساد سواء كانت طبيعية الخليقة أم مصطنعة ومضافة عليها فهي عبارة عن ثنائية المادة والشكل الذي يتم اكتسابها أو توجد بشكل طبيعي.
الوجود:-
ويتابع سرده الفلسفي بأن المعرفة التي يمتلكها الانسان تعبر عن رؤيته لوجوده مضافة إليها بصيرة روحه التي وهبها الله له. وهذه البصيرة التي يُنعم بها الله على البشر تختلف بين فرد وأخر وتتدرج بينهم، لذلك نجد أن الأنبياء يملكون أعظم بصيرة لأنهم أكثر البشر الذين يعرفون الله عز وجل وقدرته في خلقه.
وهكذا وبأسلوب فلسفي مترابط ومنسجم؛ ينطلق ابن باجة من نظرية أرسطو في علم النفس ليصل في النهاية إلى مفهوم النفس، النبوة والوحي بشكل مقارب لنتيجة ابن سينا، وما أورده الإمام الغزالي في مخطوطته مشكاة الأنوار ولكن بدراسة منهجية فلسفية.