Site icon العربي الموحد الإخبارية

ابن بصال .. نابغة الفلاحة الذي استعان الغرب بفكره الزراعي

توطئة:-

ابن بصال عالم كبير في مجال الفلاحة، اهتم به الغربيون وأهمله المسلمون، وشهد عليه الذين حققوا أعماله بكفاءة قل نظيرها في مجال الفلاحة، هو العالم الأندلسي ابن بصال الطليطلي.

من هو ابن بصال؟

الحاج أبو عبدالله، إبراهيم الطليطلي المعروف بابن بصال، أحد أشهر
علماء الفلاحة العرب، ولد في مقاطعة أندلوسيا في جنوب إسبانيا (الأندلس) ولا يعرف
عنه ما يثبت هويته أو يحدد تاريخ ميلاده أو وفاته، إلا أن المؤرخين حصروا فترة
حياته في القرن 5هـ / 11م .

ابن بصال في بستان المأمون:

ولد ونشأ وترعرع في طليطلة، حيث اعتنى ببستان المأمون بن ذي النون أمير طليطلة الذي كان يطل قصره على نهر التاجه، وفي بستان المأمون التقى ابن بصال برفيقه ابن وافد الذي عمل معه وأجرى برفقته معظم تجاربه النباتية التي كانت تشتمل على مقارنة للأصناف الزراعية ودراسة للخصائص النباتية.

ابن وافد كان الأشهر في مجال الزراعة في عصره
ابن وافد كان الأشهر في مجال الزراعة في عصره

وكان المأمون يهتم بالعلم والعلماء ويشجع كل ما له علاقة بالبحث
والدراسة وكان مولعا بدراسة النبات والزراعة، فجُلبت له النباتات من جميع أنحاء
العالم وغُرست في حديقته التي صارت تعرف ببستان الناعورة، وكان بالبستان قبة مائية
كبيرة تعمل كخزان يمد الناعورة بالماء ومنها توزع المياه على كافة أنحاء
البستان. 

استطاع ابن بصال في هذا البستان أن يزرع فاكهة الرمان وشجر التين في
أي وقت من أوقات السنة، كما استطاع أن يزرع من بذور اللوز ثم ينقلها عن صفة الأرض
التي زرعت فيها، وكان اهتمامه بالغاً بزراعة الرياحين كالورد والبنفسج والسوسن
التي كانت من السمات المميزة لبستان المأمون، وقد وصلت مهارته إلى مرحلة تمكن من
خلالها من تشكيل أحواض الزهور بحيث تمثل طاقات من الأزهار الجميلة.

اشتهر بزراعة الرمان في بستان المأمون

رحلاته:

ولقد اكتسب ابن بصال خبراته الزراعية الفنية هذه من رحلاته الكثيرة
في المشرق والبلاد المطلة على البحر الأبيض المتوسط كمصر وسوريا وجزيرة صقلية
ومالطة وجنوب إيطاليا، حتى قيل إنه وصل إلى الجزيرة العربية وحج إلى مكة المكرمة،
ومن هنا لقَّبه البعض بالحاج. كما زار العراق وخراسان والمناطق المطلة على بحر
الخزر (قزوین). 

وكان ابن بصال يقوم بتجاربه الزراعية في مزارع وبساتين طليطلة وقرطبة وإشبيلية الغناء.

وقد تبلورت مواهب ابن بصال العلمية في الزراعة عندما عهد إليه
المأمون بن ذي النون أمير اشبيلية بالاشتراك مع زميله الطبيب وعالم النبات
“ابن وافد” وتلميذه الزراعي “ابن لونکو” بالإشراف على بستان
كبير له وإدخال الأساليب التقنية في مجال زراعة وفلاحة هذه الضيعة الواسعة.

وعندما حط ابن بصال الرحال واستقر في جنوب الأندلس؛ لم يتوقف عن
تجاربه الزراعية بل تابعها وأكثر منها، لذلك نرى أن كتاب ابن بصال له تأثير واضح
ومتميز في أكبر عدد من المؤلفات الزراعية والنباتية التي ظهرت في الأندلس.

إحدى قلاع مدينة طليطلة (توليدو) في العام 1860 م – مكتبة الكونغرس

غير أن ما يأخذه بعض العلماء على ابن بصال عدم تعرضه في كتابه
الفلاحة لزراعة الحبوب كالقمح والشعير، وتميزه بالإيجاز والاختصار في أحيان كثيرة،
وإهماله ذکر تربية المواشي والحيوانات الزراعية وأمراضها وعلاجها

وسعت هذه الرحلات من خبراته التي ظهرت في معالجاته المتميزة فلما عاد
إلى طليطلة علم أن بعضا من أشجارها قد اعتراه مرض ترکه شبه محترق فقام بقطع جميع
الأشجار وأحرقها في فصل الربيع حتى لم يبق منها شيء على سطح الأرض سوى الجزء
المغروس تحت الأرض ومن هذا الجزء نبتت فسائل جديدة فأبقى منها البعض ونقل الباقي
إلى جهة أخرى من المدينة.

صيت ذائع:-

عاش ابن بصال بقية حياته في طليطلة حيث ذاع صيته، فكانت تأتيه
المراسلات من قرطبة وإشبيلية تستفتيه في مسائل زراعية، فكان يرد عليها رد العارف
بالفلاحة علما وعملا.

 وكان دأب ابن بصال أن يسجل
كل ما يکتبه من إجابات على المراسلات التي تصله، فعكف على تنظيمها وأضاف إليها
خبراته العملية والنظرية التي اكتسبها من رحلاته..

ويرجع الفضل اليه في التمييز بين علم الصيدلة الذي يعتمد على الأعشاب وعلم الفلاحة.. ويعد كتاب “الزراعة” نموذجا لكتب الفلاحة الأندلسية الشاملة، والذي اعتمد عليه العديد من علماء الفلاحة لقرون عدة.

منهج ابن بصال العلمي:-

يعتبر منهج ابن بصال العلمي الذي رسمه لنفسه؛ مفخرة من مفاخر العلوم العربية الأصيلة التي ظهرت في الأندلس، لقد كان يمزج دائما بين النظرية والتطبيق، فلا ينقل مطلقا عن غيره، وكان يتجنب التجارب البعيدة عن إمكانية التطبيق.. ما جعله يعتبر من مؤسسي مدرسة الزراعة والنبات ذات الطابع التطبيقي في علوم كثيرة، مما جعل جامعات أوروبا وأمريكا تبين في مناهجها الدراسية والزراعية والنباتية تطبيقا لما جاء به ابن بصال وعلماء العرب الآخرين في هذا المجال.

مؤلفه الشهير “كتاب الفلاحة”:

صنف ابن بصال کتاب “القصد والبيان” الذائع الصيت أو المسمی
“کتاب الفلاحة” والذي يمتاز بالإيجاز والاختصار وبروح التجربة الشخصية
والمزاولة العملية المباشرة لكل العمليات الزراعية، ويشتمل على مقارنة للأصناف
الزراعية ودراسة للخصائص النباتية، فزاوج فيه المؤلف بين النقل والتجربة والرأي…
ويمكن التعريف بتوزيع أبواب كتابه على النحو التالي: 

من الباب الأول إلى الرابع يتناول فيها المؤلف الأمور الأساسية المتعلقة بالزراعة أصلا وهي: المياه وطبيعة الأرض وأنواعها، وأنواع المعالجات الزراعية (السماد، أو الزبل) واختبار الأرض.

وانفرد ابن بصال عن نظرائه في تحدُّثه عن السرقين (السَماد)، وفصَّل في تحدُّثه عنه، وقال: إنه ينقسم إلى سبعة أنواع من الزبل، وهي زبل الخيل والبغال والحمير، وزبل الآدمي، ثم الزِّبل المُضاف، وهو المؤلَّف من الكناسات وسواها، ثم زبل الغنم، ثم زبل الحمام، ثم زبل الحمامات، ثم المولَّد وهو زبل يُتَّخَذ عند هدم هذه الزُّبول من الحشيش والتُّراب، ومن السرقين ما لا يُستعمل وهو للنَّبات كالسُّم مثل زبل طير الماء والخنازير، وقد تحدَّث عن كل نوعٍ منها بالتفصيل ووقت استعماله ومنزلته والكيفية التي يستعمل بها والأرض التي تُناسبه.

الرحالة والجغرافي ابن حوقل يصف خيرات الأندلس

ومن الباب الخامس إلى التاسع؛ يحدثنا ابن بصال عن الثمار من حيث
غرسها وريها ومواعيد الأمرين، وكيفية ضروب الغراسات والتكابیس و ترکیب أشجار
الثمار بعضها في بعض وغرائب فن التركيب (التطعيم) وأسراره.

 وخصص المؤلف الباب العاشر للحديث عن زراعة الحبوب والقطاف
الحادي عشر للبذور، والثاني عشر للقثاء والبطيخ وما إليهما، والثالث عشر للبقول
ذات الأصول (الجذور)، والرابع عشر لزراعة خضر البقول، والخامس عشر للرياحين، أما
الباب السادس عشر والأخير فيدرج فيه ابن بصال معلومات مهمة وعامة عن الفلاحة
وأصولها.

أقوال العلماء فيه:

  1.  أبو عبد الله محمد بن مالك، المعروف بالتغزي نسبة إلى بلدة تغز في غرناطة ويسميه بعض المؤرخين باسم الحاج الغرناطي أو ابن حمدون الاشبيلي لإقامته زمنا في اشبيلية، وهذا العالم في كتابه “زهرة البستان ونزهة الأذهان” يشير إلى ابن بصال مرات عديدة، فيذكر تجاربه في زراعة الرمان، كما ينقل عنه أنه يمكن زراعة شجر التين في أي وقت من السنة وأن اللوز إنما يزرع من البذور، وينقل عنه صفة الأرض. وجميع إشارات التغزي إلى ابن بصال تظهر مكانته في الزراعة علميا وتطبيقيا.
  2.  أبو عمر أحمد بن محمد بن حجاج الذي كان يعيش في إشبيلية، له كتب في الفلاحة بعنوان “المقنع” وقد أشار هذا المؤلف كثيرا إلى ابن بصال في أماكن عديدة من كتابه هذا.
  3.  من أكبر الذين قدموا لنا إشارات ولمحات عن ابن بصال، هو أبو زکریا یحیی بن محمد بن أحمد بن العوام الإشبيلي، الذي ألف في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي “كتاب الفلاحة” الذي ملأه بالنقول عن ابن بصال في كتابه وأشاد بفضل ابن بصال وتجاربه في الزراعة وعلى النباتات المختلفة. ولقد بني ابن العوام على بحوث ابن بصال كتابه هذا وكافة بحوثه الزراعية الأخرى.
  4.  أما المقرئ مؤلف “نفح الطیب”؛ فقد أورد وصفاَ له ووضعه في قمة من اختصوا بالعلوم والفنون من أهل الأندلس، وقد أشار إلى أن عدة نسخ خطية استنسخت من کتاب ابن بصال لكن معظمها ضاع.
تمكن من زراعة التين على مدار العام

تركيب الأشجار:-

تناول ابن بصَّال عدة طرق لتركيب الأشجار في بعضها وفقاً لما يلي:

  • التركيب بالشَّق (النبطي): من خلال استعمال قشرة رقيقة من الأشجار مثل المشمش والأجاص والخوخ والسَّفرجل والتُّفاح والعنب والزيتون الغني الحديث الرَّقيق اللِّحاء، وفي شجر التين إذ رُكِّبَ بالشَّق وما شابهها.
  • التركيب بالأنبوب (الفارسي) : والذي يصلُح لشجر التين أكثر من سواه، ومن خلاله؛ يتم قطع شجرة التين قبل أن تركَّب بثمانية أيَّام، وتقطع أعين اللقح التي صارت فيها، وتُترَك ثلاثة عقد مما يلي الجسم المُراد أن تركَّب فيه، ثمَّ يُشق جلد الشَّجرة، وتُركَّب الأقلام التي تم أخذها من شجرة التين.
  • التركيب الرُّومي: ويستعمل في الأشجار ذات القشرة السميكة التي لها قشرة غليظة ذات رطوبة، خصوصاً الزيتون العتيق وشجر التين والكُمَّثْرَى إذا كان غليظ القشرة، والسَّفرجل والتُّفاح إذا كان كذلك.
  • التركيب بالرُّقعة (اليوناني): عبر قطع الشجرة أعيناً مما يصلُح من أغصانها للتَّركيب وتكون على هيئة رقعة وفي وسط كل رقعة عقدة، ولغايات الحفاظ على الرُّقعة سليمة حتى لا تفسد؛ فإنَّها توضَع في إناء جديد فيه ماء عذب بارد، ثم يُجهَّز موضع الرُّقعة في الشجرة الأخرى وتُلَف في الموضع برفقٍ غير مرغومة جداً، ولا مروحة، وأن لا تكون مشدودة ولا رخوة.
  • التركيب بالأنشاب: حيث تركَّب فيه الثِّمار المتنافرة والمتباعدة في الطَّبْع، غير أنه لا يلتئم إلَّا بعد مرور زمن عليه، حيث يقصد شجر مرادٌ أن ينشب بعضها في بعض، فيقصد الجرم الغليظ ويُثقب فيه ثقب، في نصفه أو فما دونه، ثم يؤخذ فرع من الثَّمر، ويُدخل في الثقب المصنوع في نفس الجرم، ويُخرج من الجانب الثاني، ويُترك الجرم الغليظ، والجرم الذي داخله إلى أن يتم انجذاب المادة إليه، وينشب الثقب بهما، وينشب التُّفَّاح في السفرجل والكمثرى، ويركَّب التفَّاح في الرُّمان فيأتي تفاحه أحمراً، كما ينشب الأجاص الأصفر في التُفَّاح.

كتابان مفقودان:-

وهناك من يعتقد أن ابن بصَّال ألَّف كتابه الفلاحة بكتابين مطولين وقد فقدا، ومختصرهما هو الذي عثر عليه الأستاذ خوس مارية مياس بییکروسا الأستاذ بجامعة برشلونة الأسبانية ونشره وترجمه وعلق عليه بالاشتراك مع الأستاذ محمد عزيمان السكرتير العام لوزارة التربية والثقافة للمنطقة الخليفية بالمغرب، وقد تم طبعه سنة 1955م بمعهد مولاي الحسن في تطوان- المغرب (مطبعة کیماديس) وهي النسخة الوحيدة التي تم العثور عليها.

المصادر:

  • عادل محمد الحجاج: موسوعة أعلام العرب في علوم الحيوان والنبات، دار اسامة للنشر والتوزيع – عمان.
  • محمد هشام النعسان: قصور وحدائق الأندلس العربية الإسلامية (دراسة تراثية، أثرية، عمرانية، جمالية)، دار الكتب العلمية – بيروت
  • علي عبد الفتاح: أعلام المبدعين من العرب والمسلمين، دار ابن حزم.
  • بلال الجعافرة، الفلاحة في الفكر الإسلامي في الأندلس.
Exit mobile version