Site icon العربي الموحد الإخبارية

جابر بن أفلح ..عالِم الرياضيات المُلهم للفلكيين

اسمه ونشأته:

أبو محمد جابر بن أفلح ،عالِم الرياضيات والفلَكَ الاندلسي الذي عاش في الفترة الواقعة بين عاميّ 1100-1150 م.

هذا العالم الفريد في أطروحاته؛ كتب مقالةً تحمل اسم (إصلاح المجسطي لبطليموس)، حيث قدم في هذه المقالة المميزة سلسلة مطولة من الانتقادات والتصحيحات لأطروحة العالِم الإغريقي
بطليموس (100-170 م) الفلكية.

صفحة من كتاب تحرير المجسطي بقلم نصير الدين محمد بن محمد الطوسي.
صفحة من كتاب تحرير المجسطي بقلم نصير الدين محمد بن محمد الطوسي.

وقد تأثر الإشبيلي بمساهمات العالِم الموسوعي أبي الريحان البيروني (973-1050م).

مكانة جابر بن أفلح العلمية:

مع أنه من القلة صاحبة البصمة والريادة في علمي الفلك والرياضيات عبر التاريخ؛ بيد أن القليل فقط من المهتمين بالفلك القديم سبق لهم السماع باسمه، أو لعلَّهم عرِفوه بجابر الإشبيلي، كما يسترعي الانتباه في المَصادِر التي وقَفَت على ملاحظاته البحثية في مضمار الفَلَك.

موسى بن ميمون

 ويَعتبر كتاب ” دلالة الحائرين” -الذي ألَّفه الفلكي والفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون القُرطبي المَعروف باسم “ميمونيدس”- أحد هذه المصادر التي تناولت منجزات جابر، كما يذكر ابن ميمون في هذه المخطوطة أنه قابل جابر بن أفلح الإشبيلي.

أي أن كُل منهما عاشَ في الزَمَن ذاته ، حيث كانا على قيد الحياة في الفترة الممتدة بين نهاية القَرّن الحادي عشر ومطلع القَرّن الثاني عشر الميلاديين.

أعمال جابر بن أفلح الإشبيلي:

أبرز الأعمال التي قدّمها أبو محمد بن أفلح ؛هي تعقيباته على كتاب المجسطي البطليموسي (الماغست)، مستنداً إلى أطروحة نُقِلت من اليونانية للعربية من خِلال عبر ترجمتين مختلفتين.

و “المجسطي”؛ هو عبارة عن التجميع الكبير الواصِف، ويُجسِّد بصفحاته ذروة علم الفلك الرياضي في العالم القديم.

وقد تمت كتابته من قِبَل بطليموس وذلك خلال تواجدِهِ بمدينة الإسكندرية، وكان المؤلَّف بمثابة حجر الأساس في تأسيس هذا العِلم.

والجدير بالذكر أن “الماغست البطليموسية” قد نقلت وتُرّجِمت إلى اللغة العربية خمس مرات على الأقل، وذلك في الفترة الذي بدأت منذ أواخِر القرن التاسع للميلاد، حيث تم
الارتكاز على الكِتاب كقاعدة لبناء عِلم الفلك الرياضي في العالم الإسلامي حينذاك.

جابر بن أفلح يُصحح أخطاء بطليموس:

إن أطروحة إصلاح المجسطي تُشكِّل تبعاً لبعض المخطوطات القديمة المحفوظة في مكتبة برلين؛ إعادة ناقدة وحقيقية لعمل بطليموس قام بها جابر بن أفلح بطريقة بارعة
ومذهلة، حيث يظهر مما كتبه في أطروحته الرائدة؛ أنها كانت مبنية على الدقة والرسوخ في علم
الرياضيات.

وتُقسَّم أطروحة جابر إلى تسعة كتب تبدأ بالمقدمة، حيث قام عالمنا الإشبيلي بتحديد نقاط الاختلاف الرئيسة فيما بين إصلاحه والماغست، وهنا يستبدل ابن أفلح نظرية مينيلوس التي كانت المنطلق في نظرية بطليموس، بنظريات رياضية ترتبط بالمثلثات الكروية.

كتاب بطلميوس في التعليم المعروف بالمجسطي – مكتبة قطر الرقمية

لكن البعض يعتقد اليوم أن هذه النظريات الرياضية كان ابن افلح قد اقتبسها من بعض علماء الرياضيات المسلمين المشرقيين الذين سبقوه زمنيا وعلمياً.

وهنا يشار بالبنان لكل من أبي الوفا البوزجاني، وناصر منصور علي بن عراق، العالمان اللذان أطلقا “الثورة المثلثية” والتي أرخت بظلالها العلمية على كامل رقعة المشرق الإسلامي، وذلك في فترة مقاربة للعام 1000م.

إعادة صياغة في الأندلس:

وفي الأندلس؛ تم صياغة هذه النظريات للمرة الأولى من قِبَل العالم ابن معاذ الجياني في مشارف القرن الحادي عشر.

في الواقع؛ ما أثار دهشة واستغراب العديد من الباحثين في مخطوطات ابن أفلح؛ هو عدم ذكره لأيِّ اقتباس عن العلماء العرب أو أي من علماء الرياضيات الأندلسيين الذين عُرفوا في زمانه ومحيطه الجغرافي، ما قد يجعل الباحث يستنتج أن أعماله في حقل الرياضيات كانت من عمله هو نفسهُ.

الكواكب بين بطليموس وجابر:

وبالعودة إلى وجوه الاختلاف بين إصلاح جابر والماغست “المجسطي”؛ نجد أنه يتعلق بشكل جوهري بنظرتيهما للكواكب الدنيا وهنا الحديث تحديدا عن “عُطارد والزُهرة”، فقد قام بطليموس بوضعهما عملياً ونظرياً بين كل من الأرض والقمر.

فقد كانت شروحات بطليموس تمضي باتجاه القول: إن هذين الكوكبين لا يمران في مسارهما من أمام الشمس، لأنهما لا يقعان على الخط الواصل فيما بين المراقب والشمس.

حديث مطول حول المدارات حول الشمس

ولكن جابر قام بتبديد صحة هذه الفرضية، مشيراً إلى أن الكوكبين يقعان في المدارات حول الشمس.

وخلال مخطوطة إصلاح الاشبيلي؛ يُشتَمُ رائحة انتقاد واضحة لعمل بطليموس حيث يقول جابر: “إنه لا بد من تحسين المنطق الأساسي الذي تقوم عليه الماغست”.

ويأتي ذلك على الرغم من أن غالبية
علماء الفلك الذين سبقوا الإشبيلي؛ تعاملوا مع “المجسطي” بنوع من
التسليم.

في الحقيقة؛ يعد العمل الذي أنجزه جابر في انتقاده  للمجسطي أو “الماغست” الأول من نوعه الموجه للعمل في الغرب الإسلامي، فقد قام بالتركيز على أصل هذا العمل الذي طرحه بطليموس.

كما أن مخطوطة جابر الناقدة لبطليموس كانت بعيدة كُل البُعد عن منهجية الفلاسفة الأرسطيين الذين قاموا بإشعال فتيل “الثورة الاندلسية” ضد منطلق المجسطي الذي وضعه بطليموس.

كما أن جابر قدّم طرحاً مختلفاً عن انتقادات فلكيي مرصد مراغة
(شمال إيران) خلال القرن الثالث عشر للميلاد.

براعة ولكن:-

خلال أطروحة ابن أفلح الناقدة لبطليموس؛ تظهر مدى براعته الرياضية، غير
أنها في المقابل؛ تُظهر أن فهمه لآلية عمل وسير الكواكب بشكل عملي كان محدوداً.

 فقد كان من المتعذر عليه ملاحظة الكواكب المطلوبة ليقوم بتطبيق الأساليب البديلة عليها، أي أنه انتقد الأساس العلمي الرياضي.

بطليموس الذي عاش في القرن الثاني الميلادي

فتبعاً لما تم ملاحظتهُ؛ تعتبر أطروحة الإصلاح عملاً نظرياً بحتاً، حيث الإثباتات التي قدمها لا تتضمن الأمثلة العددية أو الجداول الموضحة.

ومع ذلك؛ فالعمل الذي قدَّمه يعتبر أداة فريدة يمكن لها أن تأخذ مكان الأدوات الأربع التي وصفها بطليموس والمتعلقة بالقرارات الفلكية.

أسماء أخرى مُساهِمة:-

لو تتبعنا عمل إبراهيم بن يحيى الزرقالي – الذي عاش في إشبيلية أيضاً إلى جانب طليطلة (1029-1087م)-؛ فإننا سنعثر لديه على أطروحة فلكية تعتبر الأولى من نوعها التي تستند على الملاحظة.

كما أن أطروحة الزرقالي واسعة النطاق، وتعتبر من أسس أداة التوركيت “الألية التمثيلية لقياس الإحداثيات” والتي تم وصفها للمرة الأولى في مخطوطات لاتينية وذلك في القرن الثالث عشر الميلادي.

من المرجح أن مخطوطة الإصلاح العائدة لجابر قد جرى مراجعتها من قبل المؤلف ذاته، وذلك على الأقل من ناحية العبارات المثلثية الرياضية الواردة فيها، والتي تم مراجعتها أيضاَ من قِبل موسى بن ميمون مع أحد تلاميذه سنة 1185م.

وصول أعماله للمشرق:

وخلال القرن الثالث عشر؛ انتشرت أعمال جابر بن أفلح في الشرق، حيث نُسخت مخطوطته للعديد من النسخ منها تلك الموجودة في برلين والتي تم نسخها سنة 1229 في مدينة دمشق.

كما أن عالم الفلك والفيزياء الشهير قطب الدين الشيرازي (1236 -1311 م)؛ قام بتجميع نصوص أطروحة الأشبيلي والبحث فيها.

الدور العبري:

كما تأثر علم الفلك العبري بأطروحة الإشبيلي، حيث وجد ترجمتين تؤرَّخ أحداهما بسنة 1274 م نقلها وترجمها موسى بن تيبون، بينما النسخة الثانية ترجمها يعقوب بن ماخير ابن أخ موسى، في حين قام صامويل بن يهودا بمراجعتها في مدينة مرسيليا الفرنسية سنة 1335م.

في الحقيقة؛ بفضل ترجمتها إلى كل من اللاتينية والعبرية؛ فقد تمكنت مخطوطة جابر الاشبيلي من الوصول إلى أكبر شريحة من قراء أوروبا قبيل عصر النهضة العلمية، ويعود الفضل في ذلك للمترجم المعروف جيرارد الكريموني، وهو المولود في إيطاليا والمتوفى في طليطلة بالأندلس (1114-1187 م).

ناقد قوي:

في عالم الفلك اللاتيني؛ يُعرف ابن جابر بن أفلح على أنه ناقد قوي لبطليموس، فقد وضع كتابه ليكون أساساً لعلم المثلثات الذي استعمله علماء الفلك في القرن الثالث عشر عند كتابتهم لكتاب Libro del Cuadrante Sennero  والذي يعني (كتاب رُبع الجيب) وكان ذلك بإرشاد من قبل الملك ألفونسو العاشر وبدعمه.

بينما في القرن الرابع عشر؛ كان عمل جابر بن أفلح الإشبيلي وخاصة نظرياته هي التي ساعدت عالم الرياضيات والفلكي ريتشارد من والينخفورد في عمله على ألبيون.

هل جابر بن أفلح مصدر علم المثلثات؟

ومن الممكن اليوم أن يكون عمل جابر بن أفلح نفسه هو مصدر علوم المثلثات وتطبيقاتها التي قام بالعمل عليها يوهان مولر، المولود في بافاريا والمتوفي في روما (1436-1476 م) وجمعها في كتاب (علم المثلثات) مع أنه لم يذكر مصادره.

كما أن عمل جابر بن أفلح كان مصدر إلهام للفلكي البولندي الشهير نيكولاس كوبرنيكوس (1473 -1543م) وذلك حينما ألف كتابه المعنون بـ “في ثورات الاجرام السماوية”.

نيكولاس كوبرنيكوس

الخلاصة:

أعمال ومساهمات جابر بن أفلح العلمية، شبيهة بنظيراتها التي قدمتها شخصيات عربية إسلامية من قبيل بديع الزمان الجزري وسواهما، والتي ساهمت في تغذية فكر النهضة العلمي التنويري في أوروبا.

لكن وبسبب الظروف التي شهدها العالم الإسلامي (الغزو المغولي، الحروب الصليبية، الاستشراق، الاستعمار)؛ فقد فقدت الكثير من المراجع والمصادر العربية الأصيلة التي وصلت إلى أوروبا بطرق مختلفة، وانتقل معها الثقل العلمي والصناعي والسياسي من بلادنا إلى الغرب الذي تدين له الهيمنة الآن.

المصادر:-

https://islamsci.mcgill.ca/RASI/BEA/Jabir_ibn_Aflah_BEA.htm

Exit mobile version