Site icon العربي الموحد الإخبارية

أبو الريحان البيروني .. صاحب العقلية الاستثنائية

أبو الريحان البيروني :-

أحمد بن محمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي، وُلِد سنة 362هـ ، في بيرون إحدى ضواحي مدينة كاث التي تقع في أوزبكستان حالياً.
وصِف البيروني بأنه “أعظم عقلية عرفها التاريخ”، لما كان يملك من الحكمة والعلوم في كافة الاختصاصات.

خلاف حول موقع ولادته:-

على الرغم من الشهرة الفائقة التي نالها البيروني ومؤلفاته؛ بيد أن تاريخ ميلاده ووفاته غير معروفين بالضبط، وكأن قدر مثل هذه الشخصيات أن تأتي للحياة وتنصرف بهدوء مكتفية بما قدمته للبشرية من خدمة جليلة هائلة.

وفي شأن حادثة ولادة البيروني وموقعها، هناك ثلاث وجهات نظر على الأقل هذه بعضها:

  • ابن أبي اصيبعة يقول: إنه ولد في خوارزم “خيوى”.
  • محمد جمال أفندي وإمام إبراهيم أحمد يريان أن تسميته بالبيروني راجعة إلى أن هذه الكلمة كانت تطلق على الغرباء عن خوارزم.
  • الشهروزوري يقول: إن ولادة أبا الريحان؛ كانت في بيرون الواقعة في السند وليست تلك التي في خوارزم.

مكانة البيروني العلمية:-

كان البيروني مشتغلاً بعلوم الحكمة، وفاضلاً في علم النجوم والفلك، خبيراً في الطب والصيدلة، عالماً باللغة والتاريخ، مبدعاً في الهندسة، وكان معاصراً لابن سينا، وجرت بينهما محادثات ومراسلات، وقد اطَّلع على فلسفة اليونان والهند، وعلت شهرته، وارتفعت منزلته عند ملوك عصره، ووُصِفَ في عصرنا بأنه أعظم عقلية عرفها التاريخ، وتُرجِمَت كتبه إلى العديد من اللغات، وهو أول من قال: “إن الأرض تدور حول محورها.”

كان البيروني يكتب كتبه مختصرة، منقَّحة بأسلوب مقنع، وبراهين مادية، لكنَّه لم يعتَد أن يوضِّح القوانين الحِسابية بأمثلةٍ ما.

صالح زكي في كتابه “آثار باقية”.

العالِم التجريبي:-

وقد كان البيروني نموذجاً للعالِم التجريبي الموسوعي، الذي يعتبر الملاحظة والمشاهدة العلمية منهجاً أساسياً في معرفة قوانين الطبيعة، وتؤكد مؤلفاته المتنوعة ذلك؛ حيث كتب في كثير من العلوم الطبيعية، وبحث في مختلف الظواهر الكونية، فنراه في كتاب “الصيدنة في الطب” يُؤسِّس لعلم الأدوية والعقاقير، ونجده في كتابه “الجماهر في معرفة الجواهر” يؤسس لعلم المعادن، والبلورات، ويحدد الأوزان النوعية لكثير من الجواهر، والأجحار، والمعادن، وأما في كتابيه “القانون المسعودي” و”الآثار الباقية” فهو يؤسس لعلم الرياضيات الفلكية وعلم الجيولوجيا، وأما كتابه “القانون المسعودي” فلا يمكن أن ننظر إليه على أنه مرجع للفلك الإسلامي فقط، بل هو كذلك مصدر لكثير من العلوم اليونانية والكلدانية القديمة، التي لم يعثر على نصوصها الأصلية.

مقالات البيروني حول علم الرياضيات الهندية: مقالة في راشيكات الهند
مقالات البيروني حول علم الرياضيات الهندية: مقالة في راشيكات الهند

منهج البحث العلمي:-

كما كان البيروني مؤسساً لعلم مقارنة الأديان، ومنهج البحث العلمي التاريخي بكتابه “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة”، حيث اعتمد كثيراً على الطريقة العلمية، فجاءت معلوماته مقرونةً بالأرقام والإحصائيات المبنية على المشاهدة والممارسة، وكذلك أسس البيروني لعلم المساحة بكتابيه “تحديد نهايات الأماكن” و”إفراد المقال”؛ حيث تمكن من وضع قانون رياضي فلكي من قياس محيط الأرض.

وللبيروني كذلك نظريات في علم الطبقات والأزمان
الجيولوجية، وما يُطلق عليه حديثاً “علم الطبقات” و”الجيولوجيا
التاريخية”، وقد اقتربت نظرياته في هذه العلوم من النظريات الحديثة.

أما فيما يختص بسريان الضوء فقد فطن إلى أن سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت، واتفق مع ابن الهيثم وابن سينا في قولهما بأن الرؤية تحدث بخروج الشعاع الضوئي من الجسم المرئي إلى العين، وليس العكس.

وقد ساعده على الإلمام بكل هذه العلوم معرفته بعدة لغات وإتقانه لها؛ كاللغة الفارسية، والسنسكريتية، والسريانية، واليونانية، بالإضافة إلى تضلعه باللغة العربية.

أبو الريحان البيروني -نظريته لإيجاد مقدار محيط الأرض:-

طَرَحَ البيروني نظريته لإيجاد مقدار محيط الأرض بالتقريب غير المُستقصى، حيث جَعَلَ العالِم الفذّ في نهاية كتابه “الأسطرلاب” فصلاً بشأن معرفة مقدار استدارة الأرض، قائلاً ما نصُّه:

“وفي معرفة ذلك طريقٌ قائم في الوهم صحيح البرهان والوصول إلى عمله صعب لصِغَر الأسطرلاب وقلة مقدار الشيء الذي يبنى عليه فيه، وهو أن تصعَدَ جبلاً مُشرفاً على بحٍر أو بريِّةٍ ملساء وترصُد غروب الشَّمس، فتجد فيه ما ذكرناه من الانحطاط ثم تعرف مقدار عمود ذلك الجبل، وتضربه في الجيب المساوي لتمام الانحطاط الموجود وتُقسِّم المجتمع على الجيب المكنوس لذلك الانحطاط نفسه ثم تضرب ما خَرَج من القِسمة في إثنين وعشرين أبدأ وتقسِّم المبلغ على سبعة، فيخرُج مقدار إحاطة الأرض بالمقدار الذي به قدَّرت عمود الجبل”.

تقدير عالمي لمساهمات البيروني

ويضيف” ولم يقع لنا بهذا الانحطاط وكميَّته في المواضِع الغالبية تجربة، وجرَّأنا على ذِكر هذا الطريق ما حَكاه أبو العباس النيريزي عن أرسطولس أن أطوال أعمدة الجبال خمسة أميال ونصف بالمقدار الذي به نِصف قُطر الأرض لثلاثة الآف ومائتا ميل بالتقريب، فإنَّ الحِساب يقضي لهذه المقدِّمة أن يوجد الانحطاط في الجبل الذي عموده هذا القدر ثلث درجات بالتقريب، وإلى التجربة يُلتجأ في مثل هذه الأشياء، وعلى الامتحان فيها يعوَّل، وما التوفيق إلَّا من عند الله العزيز الحكيم”.

كتبه ومؤلفاته:-

صنَّف الكثير من الكتب؛ منها: “الآثار الباقية عن القرون الخالية” الذي ترجم للإنجليزية، و”الاستيعاب في صنعة الأسطرلاب”، و”تاريخ الأمم الشرقية”، و”القانون المسعودي” في الهيئة، والنجوم، والجغرافية، و”تاريخ الهند” الذي ترجم إلى الإنجليزية، و”التفهيم لصناعة التنجيم” رسالة في علم الفلك كتبها بالعربية والفارسية، و”استخراج الأوتار في الدائرة” في علم الهندسة، و”الصيدنة في الطب” استقصى فيه معرفة ماهيات الأدوية، ومعرفة أسمائها، واختلاف آراء المتقدمين، وما تكلم كل واحد من الأطباء وغيرهم فيه، وقد رتبه على حروف المعجم.

قال ياقوت الحموي عن مؤلفاته: “وأمَّا سائر كتبه في علوم النجوم، والهيئة، والمنطق، والحكمة فإنها تفوق الحصر، رأيت فِهْرِسْتِها في وَقْفِ الجامع بِمَرْوَ في نحو الستين ورقةً بخطٍّ مُكْتَنِزٍ”.

رسم إيضاحي لأطوار القمر في كتاب التفهيم لمؤلفه البيروني

كتاب “الآثار الباقية عن القرون الخالية”:-

وضع البيروني هذا الكتاب استجابة لسؤال “عن التواريخ التي تستعملها الأمم، والاختلاف الواقع في الأصول التي هي مبادئها والفروع التي هي شهورها وسنوها”، بغية تقريب ذلك من الأفهام من جهة، وتجميع شتات الكتب المفرقة في هذا المضمار من جهة ثانية، وفيما يلي أبرز مزايا الكتاب.

  • لغة الكتاب تمتاز بالسهولة والوضوح، إلى جانب دقتها وتوفر أسلوب التشويق فيها، وذلك درءاً لاحتمالية إصابة القارئ بالملل.
  • الكتاب غني بالجداول، والتي اعتبرها بمثابة اختصار وتبسيط للشرح.
  • يحرص البيروني على غربلة المعلومات على استقاها من السابقين له، فيحرص على مقابلتها ومقارنتها، وصولاً إلى النتيجة التي يرى بأنها صحيحة.
  • الكتاب يحوي بين دفتيه معلومات عن التاريخ والفلك، إذ تناول عادات الشعوب وثقافاتها ومذاهبها، إلى جانب جداول الملوك والحكام وتواريخهم.
  • حرص البيروني في كتابه على ذكر المصادر مع مناقشة ومجادلة أصحابها.
  • اعتمد الجداول الفلكية والأزياج وذلك لأغراض التثبُّت من صحة بعض المعلومات، لأنه لم يرض على نفسه الاكتفاء بالأخبار المتواترة، بل حرص على استخدام الرياضيات وذلك لتدعيم ما يراه صحيحاً.
  • حين كان يتناول شؤونا فلكية؛ فإنه يعمد إلى الرسوم الإيضاحية الكثيرة في مؤلفه، لا سيَّما حين يتناول الأزياج ومنازل القمر.
  • لم يكتف بجمع معلومات عن شعب واحد، وإنما حرص على جمعها عن عدة شعوب، لأنه كان يرى بأن الشعوب هي مختلفة فروعاً لكنها تعود إلى إنسانية واحدة.

أبو الريحان البيروني – آراء الأعلام فيه:-

قال عنه محمد بن محمود النيسابوري: “له في الرياضيات السَّبقُ الذي لم يَشُقَّ الـمُحضِرون غبارَهُ، ولم يلحقْ الـمُضمِرون الـمُجيدونَ مِضْمارَهُ”، وقال عنه ياقوت الحموي: “كان لغوياً أديباً، له في الرياضيات والنجوم اليد الطُّولى، ولما صنَّف القانون المسعودي، أجازه السلطان بحمل فيل فضة، فرده بعد الاستغناء عنه. وكان جليل المقدار، خصيصاً عند الملوك، مُكِبّاً على تحصيل العلوم، مُنصبّاً على التصنيف، لا يكاد يفارق يده القلم، وعينه النَّظَرُ، وقلبه الفِكْرُ”.

ياقوت الحموي .. الخبير بالرجال وبالجغرافيا أيضاً

لم يلقَ البيروني تقديراً عند العرب فحسب، بل إن الغربيين كانوا يرونه عقليةً علميةً فذَّةً، وأطلقوا عليه لقب (بطليموس العرب)، وقال عنه المستشرق الألماني سخاو: “أعظم عقلية عرفها التاريخ”، وعرَّفه جورج سارتون في كتابه “مقدمة لدراسة تاريخ العلم” بقوله عنه: “كان رحًّالةً وفيلسوفاً، ورياضيّاً، وفلكيّاً، وجغرافيّاً، وعالماً موسوعيّاً، ومن أكبر عظماء الإسلام، ومن أكابر علماء العالم”.

يقول المستشرق شخت: “.. والحق أنَّ شجاعة البيروني الفكرية، وحبه للاطلاع العلمي، وبعده عن التوهُّم، وحبه للحقيقة، وتسامحه وإخلاصه، كل هذه الخِصال كانت عديمة النظير في القرون الوسطى، فقد كان البيروني في الواقع عبقرياً مبدعاً، ذا بصيرة شاملة نفَّاذة..”.

إن البيروني كان ألمع علماء زمانه في الرِّياضيات، وإن الغربيين مدينون له بمعلوماتهم عن الهِند ومآثرها في العلوم

سمث في كتابه “تاريخ الرياضيات”.

نهاية مسيرة:-

توفي أبو الريحان البيروني سنة 440هـ، ولم يترك علماً من علوم عصره إلا وتعرَّض له ودرسه، وبقي سيد علوم الفلك والنجوم، والجغرافيا، والرياضيات في العالم الإسلامي بلا منازعٍ، وبذلك يستحق أن يكون أبرز عالم في التاريخ الإسلامي.

للأسف أهملت مؤلفات البيروني بعد وفاته؛ لكنها
عادت للظهور والانتشار الواسع في الغرب الأوروبي بعد مرور مئات السنين على وفاته،
خصوصاً كتابه عن الحضارة الهندية الذي أصبح مهماً لنشاطات الإمبراطورية البريطانية
في الهند منذ القرن السابع عشر.

كان البيروني باحثاً علمياً، مخلصاً للحق نزيها، وقد بيَّن أن التعصُّب عندَ الكُتَّاب هو الذي يحول دون تقريرهم الحق، امتاز على معاصريه بروحه العلمية، وتسامحه، وإخلاصه للحقيقة، يمتاز بدقَّة البحث والملاحظة، ينقد فيُصيب، يعتمد على المُشاهدة، ولا يأخذ إلَّا ما يُوافق العقل.

تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك، قدري طوقان.

اقرأ ايضاً ابن سينا .. أول من توصل إلى تشخيص حالة الدوالي

المصادر:

  • الأعلام للزركلي (5/314).
  • راغب السرجاني – موقع قصة الإسلام (https://lite.islamstory.com/ar/artical/9424).
  • عيون الأنباء في طبقات الأطباء (459).
  • علم الفلك، تاريخه عند العرب في القرون الوسطى، السنيور كرلونلينو.
  • مجلة المؤرخ العربي العراقية، العدد الأول، (ص10).
  • تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك، قدري طوقان.
  • علماء العرب، ميخائيل خوري.
  • معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (5/2331). معجم المؤلفين (8/241).
  • تم الاستعانة ببعض الوثائق القيّمة من مكتبة قطر الوطنية .

https://www.qdl.qa/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9/archive/81055/vdc_100023644323.0x00003f

Exit mobile version