Site icon العربي الموحد الإخبارية

ابن زهر .. الجرَّاح الأول وطبيب الأعصاب

توطئة:-

في صبيحة أحد الأيام من سنة 1120 م؛ كان هناك طبيب مسلم يتجه لعيادة مريضه والذي لم يكن شخصاً عادياً، إنما هو حاكم إشبيلية، خلال سيره بالطريق؛ رأى الطبيبُ رجلاً هزيل الجسد متورِّم البَطن وتبدو عليه علامات التعب والمرض، فسأله هل أنت مريض؟ وبصعوبة بالغة قال الرجل التعِب : نعم.

–         فسأله، ما الذي كُنتَ تأكله؟

–         أجاب المريض: “فقط بعض كسِراتٍ من الخُبز وأشرب المياه من هذا الإناء”.

–         قال الطبيب: “الخبز لن يسبب أذيتك، ولكن الماء قد يفعل، من أين تحُضر هذا الماء؟”.

–         أجاب المريض: من بئر المدينة.

المسلمون سبقوا الأوروبيين بقرون في المجال الطبي
المسلمون سبقوا الأوروبيين بقرون في المجال الطبي

–         وهنا فكَّر الطبيب لوهلة، وقال: “البئرُ نظيفة، ولكن قد يكون الإناء هو السبب، فاكسرها وابحث عن إناءِ ماء نظيفة”.

–         اعترض المريض بأن هذه إناءه الوحيدة، فأشار الطبيب إلى بطنه المنتفخة وقال، وهذه هي معدتك الوحيدة، وسيكون من الأسهل أن تجد إناءً جديداً تشربُ منه من أن تحصُل على معدة جديدة”,

لكن المريض كان عنيداً واستمر في الجدال، إلى أن قام أحد مساعدي الطبيب بالتقاط حجر ليقذفه على الإناء لينكسر، وإذا بضفدع ميت في داخل الإناء قد أفسد الماء فيه.

فقال له الطبيب: “أنظر إلى الذي كُنت تشرب منه، كان الضفدع على وشك جرَّك معه إلى الحتف، هذي نقود خذها واشتري لنفسك وعاءَ ماء جديد”.

وبعد بضعة أيام؛ مرَّ الطبيب من ذات موضِع الرجل فرآه بحالٍ أفضل وبطنه عاد طبيعياً والوزن رجع إليه، وشكره الرجل وأثنى على فطنته.

وهذه قصة ذكرها ابن أبي أصيبعة، وهو طبيب ومؤرخ شهير من القرن الثالث عشر للميلاد.

ابن أبي أصيبعة – الطبيب والمؤرخ للطب

فارق معرفي:-

في الوقت الذي كانت فيه ممارسة الطب تقوم على المنطق في مدن إسبانيا الإسلامية (الأندلس) في هذا العصر، كانت الممارسات الطبية في أوروبا المسيحية غارقة في ظلمات الجهل والخرافات، معتبرة الطب بمثابة تحدٍ للإرادة الإلهية، ففي ذلك الوقت وعندما كان يمرض أحدهم؛ كان يقدم له المزيد من الصلاة والراحة عوضاً عن فتح المجال لمهمة الطب والعلاج.

مع انتشار الإسلام في الشرق وتحديداً منذ القرن السابع للميلاد؛ فقد تمكن المسلمون من استيعاب وتبادل المعرفة على امتداد جغرافيا العالم الإسلامي؛ ما ساعد على تطوير ممارسة الطب بالإضافة على المعارف والعلوم الأخرى.

ابن زهر .. بطل القصة:-

تلك القصة التي أوردناها في بداية المقالة كانت لحادثة بطلها هو أبو مروان، عبد الملك بن زُهر، وهو المولود في سنة 1091م في مدينة اشبيلية الأندلسية، وينحدر من عائلة عرفت جيلين من الأطباء قبله (وسينجب خمسة أطباء بعده)، ولكن أسلافهُ الأطباء لم يعتنوا بمهنتهم الطبية مثله.

لقد كَّرس طبيبنا ابن زهر نفسه بشكل تام للطبِّ والعملِ فيه، ودوَّنَ كل الاكتشافات الطبية التي وجدها وذلك ضمن كتابه “التيسير في المداواة والتدبير” الذي يعتبر دليلاً فريداً في الأطعمة والعلاجات بالأغذية.

ملخص طبي عن العلاج الدوائي والغذائي ودستور الأدوية بقلم ابن زهر

 كما يذكر له مجلد رسالة في علم النفس التي يتناول فيها كيفية معالجة الحالات النفسية والجسدية للمرضى، وكتاب “الأغذية” الذي يلخص فيه معرفته في أنواع الأطعمة والتوابل بالإضافة إلى المشروبات العلاجية والصحية.

علاج الجرب:-

ما يذكر أن ابن زهر فكَّر بطريقة مختلفة لمعالجة الجرب، ففكر في أنه ناتج عن سوس طفيلي يولِّد الحكة، وأنه يمكن أن يتم علاجه عبر إخراج هذا الطفيلي من جسد المصاب به دون الحاجة إلى فَصد الدم أو أي أسلوب قديم متبع، أي أنه ابتعد عن فكرة توازن السوائل الأربع التي كانت سائدة لعقود.

وهذا بالضبط ما سبب اهتزازاً في مدى المعارف الطبية حيث تجاهل أحد الركائز المتعارفة عليها مع اتباع كل تعاليم ابن سينا وجالينوس.

النظام الغذائي:-

ويذكر مما كتب ابن زهر هو مخطوطة تتحدث عن النظام الغذائي والأطعمة التي تساعد في تجنُّب تشكُّل حصوات الكلى، كما أنه كان أول من وصف حالة الاضطرابات العصبية، ومن بين ما وصفه كان السحايا، التهاب الوريد الدموي في الجمجمة والورم المنصف للدماغ، حتى أنه قدَّم إلى العالم أولى المساهمات الطبية لعلم الأعصاب.

ويذكر له أول بحث مفصَّل يُخبر عن سرطان القولون، وكان ابن زهر أول من أخبر عن إمكانية تقديم التغذية المباشرة لمن لا يستطيع التغذية بشكل طبيعي، والتي تعرف بالتغذية بالحقن اليوم.

ابن زهر .. نبوغ مبكر

تشريح ابن زهر:-

كما أنه قام بتطبيق أولى عملياته الجراحية التجريبية على الحيوانات مثل الماعز ليثبت سلامة عملية شقٍّ في القصبة الهوائية الذي قام هو بابتكارها.

 وورد أنه قام بتشريح الجثث ولكن جثث الأغنام ليقوم ببعض الأبحاث السريرية لعلاجات التقرحات في الرئتين.

في الحقيقة يعتبر ابن زهر الطبيب الأول الذي يقوم بإجراء عملية تشريح لجثة بشرية ليزيد من فهمه لتقنيات الجراحة.

عمليات جراحية:-

نجح ابن زهر بتأسيس علم الجراحة باعتباره فرعاً مستقلاً عن الطب، فقام بإعداد دورة تدريبية لتأهيل الجراحين المستقبليين حتى يجاز لهم القيام بالعمليات الجراحية بشكل متفرد ومستقل، وهنا قام الطبيب الجراح بالتمييز بين المهام التي يقوم بها الممارس الطبي العام والجراح العام، وقام بتحديد الخطوط الحمراء التي يجب أن يقف الطبيب عندها خلال التعامل مع الحالة الطبية الحرجة، وهنا تحديداً كان أول من حدد تعريفاً للجراحة كتخصص طبي عبر هذه الحدود.

المسلمون قدموا خدمات طبية جليلة

استخدام ابن زهر التخدير:-

ومن أشهر ما قام به؛ هو استعماله للتخدير في عملياته الجراحية، من خلال غمس إسفنجة في خليط من الحشيش والافيون ووضعها علة وجه المريض ليفقد وعيه.

أعماله الملهمة دفعت كل من ابنته وحفيدته لتدخلا عالم الطب وتعملا به لتكونا من أوائل الطبيبات المسلمات في العالم وقبل تخرج أول طبيبة أمريكية بقرابة 700 عام.

ابن زهر وابن باجة:-

و في كتابه الشهير “الفتوحات المكية”؛ تناول الشيخ المتصوف محيي الدين ابن عربي قصَّة لطيفة كان الطبيب الشهير ابن زهر أحد بطليها إلى جانب الفيلسوف المعروف ابن باجة، وفيها إشارات تصب في إطار الطابع التخصصي للعلماء آنذاك، كما تمنحنا فكرة عن عمق خبرات ابن زهر في مجال الصيدلة.

ويقول ابن عربي:

“.. كما حُكِيَ أن أبا العلا بن زهر وكان من أعلم النَّاس بالطِّب ولا سيما الحشائش، و أبا بكر بن الصَّائغ المعروف بابن باجة وكان دون ابن زهر في معرفة الحشائش إلَّا أنَّه كان أفضل منه في العلم الطبيعي، وكان يتخيَّل في زعمه أنَّه أعلم من ابن زهر في علم الحشائش، فركبا يوماً فمرَّا بحشيشة، فقال ابن زهر لغلامه: اقطع لنا من هذه الحشيشة وأشار إلى حشيشة معينة، فاستنشقها أبو بكر فرعف من حينه، فما تَرَكَ شيئاً يمكن في علمه أن يقطع به الرّعاف مما هو حاضر إلَّا وعمله، وما نَفَعَ حتى كاد يهلك، وأبو العلاء يبتسم ويقول: يا أبا بكر عجزت؟، قال : نعم: فقال أبو العلاء لغلامه : استخرج لي أصول تلك الحشيشة فجاء بها، فقال له: يا أبا بكر استنشقها فاستنشقَها أبو بكر فانقطع الدَّم، فَعَلِمَ فضله عليه في عِلم الحشائش”.

المصدر:-

Pioneer Muslim Physicians

الفتوحات المكية، محيي الدين ابن عربي.

Exit mobile version