تمهيد:-
أبو الطيب سند بن علي اليهودي (المتوفى 864 م)، هو فلكي وعالم رياضيات، كان من بين العديد من العلماء العاملين في بلاط الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد (ت 833)، والذي ازدهرت في عهده بيت الحكمة وهي المكتبة الضخمة التي أُلحِقَ بها أنشطة فلكية ومراصد.
وقد أفيد أن أبا الطيب قد أنتج أطروحات رياضية وفلكية، بيد أن أيَّاً منها لم ينجُ.
تأتي معظم معرفتنا بسند من مصادر متعدَّدة غير مباشرة تقدِّم لمحات عن إنجازات هذا الموسوعي.
التعليم:-
تلقَّى سند تعليمًا جيدًا في سِن مبكرة وكان نجلًا لعالم فلك يهودي متعلم، وقد قيل: إنه دَرَسَ المجسطي الذي كتبه بطليموس، وهو أمر ممكن تمامًا ، فقد جرى استجلاب الكتاب العلمي اليوناني إلى بغداد في حياة سند، حيث تم في أوائل القرن التاسع إنتاج ترجمة عربية للعمل بها في العاصمة العباسية.
وهو في عمر العشرين عاماً؛ كان سند تحت الوصاية العلمية للعباس بن سعيد الجوهري (ت 860)، وهو عالم رياضيات وفلكي مرموق عمل على تنفيذ توجيهات الخليفة المأمون بن هارون الرشيد.
أُعجِب الجوهري بمعرفة الشاب بعمل وطروحات بطليموس، ما أدَّى إلى إدخال الثاني ضمن دائرة العلماء بتوجيه من الأول، وقد تعرَّض سند خلال هذه الفترة لبعض أذكى العقول في عصره في بغداد عموماً وفي بيت الحكمة وملحقاتها العلمية على وجه الخصوص.
منذ عهد المأمون السابق لكل من المعتصم والمتوكِّل؛ تم دعم الأعمال الفلكية من قبل الخليفة مباشرة، وبالتالي سار هذا النشاط بشكل روتيني متعارف عليه، وقد كان أحد المكانين اللذين أجريت فيهما الملاحظات الفلكية وذلك في منطقة من بغداد تعرف باسم الشماسية.
أجرى سند ملاحظات في الموقع المذكور مع علماء فلك آخرين، مثل يحيى بن أبي منصور (ت 830) وذلك قبل وفاة الأخير بعام، ومن غير المؤكد فيما إذا كان قد ساهم سند في عمليات المراقبة التي أجريت في المركز الثاني للمراقبة الواقع بالشام، كما لا يُعرف على وجه الدِّقة فيما إذا كان قد شارك أيضاً في الرحلات الفلكية التي كان يقودها المأمون.
مشاركة سند مع علماء كبار:-
في كتاب الزيج الكبير الحاكمي؛ كتب علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى، أبو الحسن الصَّدَفي المصري، وهو عالم الفلك الكبير ؛ تقريراً عن القياسات الجيوديسية للأرض التي شارك فيها سند، وعلى الرغم من أن بعض العلماء المعاصرين يشككون في صحة هذا الارتباط بين الشخصين المذكورين.
يُعتقد أن سند أنتج كتاب الزيج (الجداول الفلكية)، وهو أمر منطقي بالنظر إلى مقدار تفانيه في علم الفلك، ونظرًا لانخراط سند في الملاحظات التي أجريت في الشماسية؛ يعتقد العلماء أنه ربما يكون قد لعب دورًا في تطوير زيج الممتحن المعروف باسم “الجداول المعتمدة”، والتي تُنسب عادةً إلى زملائه –من قبيل المشرف عليه يحيى بن أبي منصور الفارسي.
البيروني والخازن:-
يظهر اسم سند في أعمال كل من أبي الريحان البيروني (ت 1048) والخازن (ت 1130) في مناقشة الأدوات والمعادن، ويعرف سند كواحد من العلماء الذين طوروا واستخدموا التوازن الهيدروستاتيكي (ميزان الماء) ، جهاز لتحديد الجاذبية ، إضافة إلى مساهماته في تحديد تركيبات المعادن.
يسجّل البيروني اثنتين من المآثر العلمية الإضافية المنسوبة إلى سند، أولهما في عمل أبي الريحان حول الإحداثيات ، تحديد نهايات الأمكنة لتصفح المساكن (تحديد إحداثيات مواقع تصحيح المسافات بين المدن).
من الواضح أن سند أثناء وجوده في رحلة ما مع المأمون ؛ أكمل قياس محيط الأرض.
بقياس أبعاد جبل ؛ قام سند بقياس الميل من نقطته الأعلى إلى الأفق على البحر، وبعد تطبيق قياسات أخرى واستخدام الهندسة ؛ قام بتحديد محيط الأرض.
وفي مرة ثانية، اقتبس البيروني في كتابه الشهير “القانون المسعودي”، عملاً مفقودًا لأبي جعفر الخازن (ت 970 م) يفيد بأن سنداً كان واحدًا من ثلاثة علماء شاركوا في عملية تحديد أطوال الفصول.
قصة سند مع بني موسى بن شاكر:-
وقد عمِلَ سند في بيت الحكمة مع اثنين من أبناء موسى بن شاكر الثلاثة ، وهم علماء شبان طافت سمعتهم أرجاء البلاد بفضل ذكائهم ونباهتهم.
أورَدَ ابن أبي أصيبعة، مؤرِّخ الأطباء معلوماتٍ مهمَّة تُظهر مقدار المُستوى العلمي الذي كان عليه سند وهو ما زال شابَّاً، وذلك حينما عمِل مع أبناء موسى بن شاكر.
فقد قال ابن أبي أصيبعة في كتابه “طبقاء الأطباء” في سياق حديثه عن الفيلسوف والفلكي والطبيب الشهير أبي يوسف الكندي نقلا عن أبي جعفر أحمد بن يوسف، نقلاً عن كامل شجاع بن أسلم الحاسب قوله: ” كان محمد وأحمد اِبنا موسى بن شاكر في أيَّام المُتوكِّل يُكيدان لكُل من ذُكِر بالتَّقدُّم في معرفة، فأشخصا سند بن علي إلى مدينة السلام (بغداد)، وباعداه عن المتوكل المتواجد في سامرَّاء (يبدو غيرةً أو خوفاً من اطلاع الخليفة العباسي على مقدرته العلمية)، ووجها إلى داره ..”.
وأضاف ابن أبي أصيبعة في نقله”..وتقدَّم إليهما (المتوكِّل لولديّ موسى بن شاكر) في حَفر النهر المعروف بالجعفري، فأسنَدَا أمره إلى أحمد بن كثير الفرغني الذي عمِل القياس الجديد بمصِر، وكانت معرفته أوفى من توفيقه، لأنَّهُ ما تمَّ له عمل قطّ، فغلطَ في فوَّهة النَّهر المعروف بالجعفري وجعلها أخفض من سائره، فصارَ ما يغمُر الفوَّهة لا يغمُر سائِر النَّهر، فدافع محمد وأحمد ابنا موسى في أمرهِ واقتضاهما المتوكِّل، فسعى بهما إليه فيه”، يريد حسابهما على هذه الأخطاء الهندسية.
“فأنفذ (المتوكِّل) مستحثَّاً في إحضار سند بن علي من مدينة السَّلام (بغداد)، فوافى (فوصل)، فلمَّا تحقَّقَ محمد وأحمد ابنا موسى أنَّ سند بن علي قد شَخَص؛ أيقنا بالهلكة ويئسا من الحياة”.
فدعا المتوكِّل بسند، وقال: “ما تَرَكَ هذان الرديَّان شيئاً من سوء القول إلا وقد ذَكَراكَ عِندي به، وقد أتلفا جُملةٌ من مالي في هذا النَّهر، فاخرُج إليه حتَّى تتأمله وتخبرني بالغَلَط فيه، فإنِّي قد آليت على نفسي، إن كانَ الأمر على ما وُصِف لي، أني أصلبهما على شاطئه”.
وقد خَرَجَ ثلاثتهم من عند المتوكل للنَّظَر في المشروع المتعثِّر، وطلب ابنا موسى بن شاكر من سَندَ أن يستُر ما بدَرَ منهما من أخطاءٍ خشية عقاب الخليفة، لكنَّه اشترط أولا أن يعيدا الاعتبار للكِندي الذي سرقا كتبه من منزله بعد أن أوغلوا صَدر المتوكِّل عليه، ففعلا ، كما نجَح سَنَد في تقدير فوَّهة النهر (الجعفري) وذلك من خلال إجرائه الحسابات الهندسية والرياضية والفلكية اللازمة، وقُضِي الأمر.
تقدِّم القصَّة، إن كانت دقيقة، نظرة ثاقبة على سياسة بيت الحكمة والمؤسسات الرصينة الملحقة بها، ولكن الأهم من ذلك؛ فإنَّها تُسلِّط الضوء على مكانة سند الذي قدمه ابن ابي أصيبعة على أنه رياضي ومهندس مرموق تم استدعاؤه لإصلاح قناة تم إنشاؤها بشكل غير صحيح.
مساهمات سند:-
يذكر أن سند كان قد كتب بعض الأعمال الرياضية، ومنها: الحساب الهندي، والجمع والتفريق، والجبر والمقابلة، وقد تناولت هذه الرسائل على التوالي، الأرقام الهندية / الفنية، الجمع والطَّرح والجبر.
كتَبَ سند أيضًا تعليقًا على 10 من عناصر إقليدس حول المقدار غير العقلاني.
في هذا الفترة؛ كتب العديد من علماء الرياضيات الآخرين حول مواضيع مماثلة، مثل الخوارزمي صاحب المكانة الباسقة (توفي عام 850 م)، الذي كَتَبَ إلى سَند ثلاث أطروحات مُتطابقة تقريبًا في طبيعتها وعنوانها.
الخلاصة:-
ما يمكن حسمه في هذا الصدد؛ هو تلك العقلية اللامعة التي كان عليها سند ، وذلك على الرغم من قلة المصادر التي وصلتنا منه مباشرة.
المصادر:-
عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن أبي أصيبعة.