اسم ونشأة القيرواني :–
أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد القيرواني ،المعروف بابن الجزار ،الفيلسوف الباهر والطبيب الحاذق والمؤرخ الكبير، وُلِدَ في القيروان سنة 285هـ، وعاش في أيام المعز بالله، وقد اتصل بالدولة العُبَيْدِيَّة، وكثرت أمواله وحشمته.
أسرة الأطباء:-
ينحدر ابن الجزار القيرواني من أسرة عريقة في الطب، فهو طبيب ابن طبيب، وعمه أبو بكر طبيب.
مكانة القيرواني العلمية:-
لقي إسحاق بن سليمان الإسرائيلي وصحبه وأخذ عنه، وكان ابن الجزار من أهل الحفظ والتطلع والدراسة للطب وسائر العلوم، تميز بالفهم لها.
وضع ابن الجزار القيرواني على باب داره سقيفة أقعد فيها غلاماً له يُسمَّى برشيق، أعد بين يديه جميع المعجونات والأشربة والأدوية، فإذا رأى القوارير بالغداة أمر بالجواز إلى الغلام وأخذ الأدوية منه؛ نزاهة بنفسه أن يأخذ من أحدٍ شيئاً.
كان
قد همَّ بالرحلة إلى الأندلس ولكن وافته المنية.
كان له أيضاً اهتمام كبير في التاريخ وألف فيه كتاباً سماه «التعريف بصحيح التاريخ».
اقرأ هنا عن إبن الهائم .. الفقيه والحاسب البارع
أقوال العلماء فيه:-
وقد تحلَّى ابن الجزار القيرواني بأخلاق وسمات حميدة، ولم تُحفظ عنه زلَّة، ولا خَلَدَ إلى لذَّة، بسيطاً متخفِّفاً في معيشته، لا يطرق أبواب الملوك، وكان يترفَّع عن الهدايا.
فقد قال ياقوت الحموي واصفاً القيرواني عنه : “كان مع ذلك حسن المذهب، فاضل السيرة، صائناً لنفسه، منقبضاً عن الملوك، ذا ثروة، ولم يكن يقصد أحداً إلى بيته، وكان له معروف وأدوية يُفرِّقها”.
وقال ابن جُلْجُل: “إن أحمد بن أبي خالد القيرواني كان قد أخذ لنفسه مأخذاً عجيباً في سمته وهديه وتعدده، ولم يُحفَظْ عنه بالقيروان زلَّة قط، ولا أخلد إلى لذة، وكان يشهد الجنائز والعرائس ولا يأكل فيها، ولا يركب قط إلى أحد من رجال أفريقية (تونس اليوم)، ولا إلى سلطانهم إلا إلى أبي طالب عم معد، وكان له صديقاً قديماً فكان يركب إليه يوم جمعة لا غير”.
وقد أضاف ابن جلجل في طبقاته قصَّة أخرى عن ابن الجزَّار قائلاً: “قال لي الذي حدَّثني: فكُنتُ عند ضحوة نهار إذا أقبل رسول النعمان القاضي بكتاب شَكَرَ فيه على من تولَّى عِلاج ابنه، ومعه منديل بكسوة هدية وثلاثمائة مثقال (المثقال يوازي 25 قيراطاً)، فقرأ ابن الجزَّار كتابه وجاوبه شاكراً، ولم يقبض المال ولا الكسوة، فقلت: يا أبا جعفر: رزقٌ ساقهُ الله إليك، فقال لي: “والله لا كان لرجال معد (الخليفة الفاطمي) قبلي نعمة”.
والنُّعمان بن محمد بن منصور من بين أشهر قُضاة العبيديين، انتقل إلى مصر مع المُعز فيما بعد.
وقال كشاجم يمدحه ويصف كتابه «زاد المسافر»:
كتب ابن الجزار القيرواني :-
- زاد المسافر وقوت الحاضر: وقد ظلَّ هذا الكتاب لعقود طويلة؛ مرجعاً بالغ الأهمية بالنسبة للباحثين وطلبة العلوم الطبية، ويتألف الكتاب من قسمين يضمَّان سبع مقالات، تختصُّ في أمراض الجلد، وأعضاء التناسل، وأمراض الكبد والكِلى، والحِميات، ولدغ الهوام، وأذى السُموم، كما توسَّع في كتابه في كيفية تركيب عدد من الأدوية وطريقة استعمالها، وقد تُرجم إلى اللاتينية واليونانية والإيطالية.
- الاعتماد: كتاب في الأدوية المفردة، ألَّفه لأحد ملوك الفاطميين بإفريقية.
- البغية: كتاب في الأدوية المركبة.
- العدة لطول المدة: كتاب في الطب، وهو من أكبر كتبه.
- قوت المقيم: كتاب في الطب.
- المعدة وأمراضها ومداواتها.
- طب الفقراء.
- رسالة في إبدال الأدوية.
- الفرق بين العلل التي تشتبه أسبابها وتختلف أعراضها.
- ذم إخراج الدم: وهو رسالة في التحذير من إخراج الدم من غير حاجة تدعو إلى إخراجه.
- رسالة في الزكام وأسبابه وعلاجه.
- رسالة في النوم واليقظة.
- مجربات في الطب: مقالة في الجذام وأسبابه وعلاجه.
- الخواص.
- نصائح الأبرار.
- المختبرات.
- أسباب وباء مصر، والحيلة في دفعه: وهو كتاب في وصف الأسباب المولدة للوباء في مصر، وطريق الحيلة في دفع ذلك، وعلاج ما يتخوف منه.
- رسالة في المقعدة وأوجاعها.
- المكلل في الأدب.
- البلغة في حفظ الصحة.
- مقالة في الحمامات.
- التعريف بصحيح التاريخ: تاريخ مختصر يشتمل على وفيات علماء زمانه، وذكر بعضٍ من أخبارهم.
- دولة المهدي وظهوره بالغرب: يذكر فيه ظهور المهدي بالمغرب.
- الفصول في سائر العلوم والبلاغات.
- سياسة الصبيان وتدبيرهم.
- رسالة في النفس وفي ذكر اختلاف الأوائل فيها.
ها هو كتاب “زاد المُسافِر” لابن الجزَّار ينتقلُ من نجاحٍ لآخَر، وهو حبيبُ المُترجِمين، بعدَ أن أوضَحَ فوائده قسطنطين الإفريقي، ففي جامعات باريس وكولن وغيرها؛ كانت دراسته مفروضة لمئات السِّنين حتى القرن السَّادِس عشر على طُلَّاب الطِّب.
— زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب.
قيمة كتابه سياسة الصبيان وتدبيرهم:-
هذا المؤلَّف المميز -والذي تُرجِمَ مبكراً إلى مختلف اللغات الأوروبية- يتناول طب الأطفال وسبل رعايتهم صحياً وعقلياً، ويحتوي على مقدمة و إثنين وعشرين باباً.
وللكتاب أثر هائل في مضمار الرعاية وحِفظ الصحة، لدرجة ان ابن سينا، أمير الأطباء، تعرَّضَ إلى كثير من محتوياته في كتابه الشهير “القانون في الطِب”، في أسلوبٍ يحاكي نمط طرح ابن الجزَّار، بل يتَّضح أيضاً أن أكبر طبيب في تاريخ الحضارة الإسلامية، أي ابن سينا، نقل بعضَ الجُمل بشكلٍ حرفي عن كتاب ابن الجزَّار.
ويقول ابن الجزَّار في كتابه: ” فأمَّا إن كان الصبي طبيعته جيِّدة، أعني أن يكون مطبوعاً على الحياء وحُب الكَرَامة والأُلفة مُحبَّاً للصِّدق؛ فإنَّ تأديبه يكون سهلاً، وذلكَ أنَّ المدح والذَّم يبلغان منهُ الإحسان إو الإساءة ما لا تبلغه العقوبة من غيره، فإن كان الصَّبيُ قليلَ الحياء مُستخِفَّاً للكرامة قليل الأُلفة مُحِبّاً للكذب، عَسُرَ تأديباً، ولا بد لمن كان كذلك من إرغابٍ وتخويفٍ عند الإساءة، ثم تحقَّق ذلك بالضَّرب إذا لم ينجح التخويف”.
هو لا يتحدَّث فقط عن تنشئة الأولاد بدنياً وصحياً وأخلاقياً، بل هو يبدأ من مرحلة اختيار الأب أمَّاً لابنه، حيث يقول:
- ينبغي اختيار الزوجة الصالحة والأم للابن، قائلاً: “إن الذي يحتاج إليه من المرأة عند طلب الولد أمران، والآخر من النفس، وذلك أول صلاح الولد والأساس الذي يُبنى عليه تأديبه وتربيته..وأن تكون المرأة صحيحة البدن..”.
- أوجب العناية بالطِّفل منذ وجوده في بطن أمِّه ووصفه بفرع الشجرة الذي تحميه أمه من كل العواصف، وقدَّم القواعد الصحية التي يجب اتباعها حتى ينشأ الطفل سليماً من كل العاهات والأسقام وذلك منذ خروجه من الرَّحم وكيفية تدبيره..”.
- يتحدَّث عن صفة المرضعة ومن حيث عمرها وخلقها وحسَبِها وجسدها، ويعتبرها بمثابة الأم للولد، لأنَّها تُغذِّيه بلبنها وسلوكها، ويتحدَّث عن قلَّة اللبن عند المرضعة وكيفية علاجه بالغذاء الصالح.
- أهمية العناية بمضجع الرضيع، غسله، وتنظيفه، حسب القواعد الصحية ” وينبغي ألَّا يرضع الصبي عقب الحمَّام، لكن بعد أن تهدأ حركاته لئلا تُعرض له تُخمة..”.
- في حال تقدُّم الطفل بالسِّن، ينبغي أن يقدَّم له الخبز النظيف المبلل في ماء وعسل أو في لبن، ويُسقى ماء في بعض الأحيان.
- إذا اشتدَّ بدنه، وصلبت أعضاؤه وقويَ، ينبغي أن يجلس الصبي على الأرض، ويكلَّف مرة بعد مرة المشي…
- تحدَّث في الكتاب بإسهاب عن أمراض الأطفال وسبل معالجتها، فهو أول ما يسمَّي المرض ويقدمه في وصف دقيق، ثم يصف الأعراض التي يمكن يُسببها، فيحدد العلة وهيئاتها، فالعلاج والدواء وكيفية تركيبه بكُلِّ وضوح، مستعملاً الأوزان والمقادير، وصولاً إلى كيفية تناول الدواء.
- ثم يدخل في الحديث عن سبل رعاية وتنشئة الأولاد تبعاً لشخصية كل منهم.
وفاته:-
توفي القيرواني في القيروان سنة 369هـ، ووجد له 24 ألف دينار و25 قنطاراً من الكتب الطبية وغيرها.
المصادر:-
- الأعلام (1/85).
- الوقاية من الأمراض النفسية وعلاجها في الطب العربي الإسلامي، محمود الحاج قاسم.
- التربية الصحية في كتاب “سياسة الصبيان وتدبيرهم”، علي محمد إدريس.
- قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية، راغب السرجاني.
- سير أعلام النبلاء (15/561/رقم 335).
- عيون الأنباء في طبقات الأطباء (481).
- معجم الأدباء (1/187/رقم 54).