الشيخ الرئيس، شرف الملك وهو أيضاً حجة الحق، كل تلك الألقاب استحقها أبو علي، الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي ابن سينا المتوفى عام 1037 م، والذي طافت شهرته وذاعت وملأت الآفاق، فعرفه اللاتينيون باسم “أفيسينا”.. هو الشخص الذي برع وأسس وأرسى لكثير من العلوم التي كان أكثرها انتشاراً وتداولا؛ تلك التي تتناول الجانبين الطبي والفلسفي.
أثره الفلسفي والطبي على الغرب:-
في الحقيقة؛ إن وجهات النظر الفلسفية التي طرحها ابن سينا –المولود عام 980 م- قد جذبت انتباه العلماء الغربيين ومفكريهم على امتداد القرون، فالكتب التي خلفها كانت وما زالت من أهم مصادر الفلسفة.
ومن ناحية عمله في مجال الطب؛ فقد تُرجمت موسوعته “القانون” أو كما يسميها البعض “القانون في الطب” في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد إلى اللغة اللاتينية ليدخل عمله عالم الغرب ويصبح تلقائياً مرجعاً للدراسات الطبية في مختلف الجامعات الأوروبية، ويبقى مصدراً للمعرفة يبنى عليه حتى نهاية القرن السابع عشر الميلادي.
سواء ناديته باسمه اللاتيني أو بالعربي؛ فإن ابن سينا هذا العالم الطفرة الذي عاش بين همدان وجرجان (أوزباكستان)؛ قد اكتسب شهرة واسعة الطيف في أوساط الطب الأوروبي خلال فترة العصور الوسطى فيها.
القانون في الطب:-
في كتاب القانون في الطب؛ قام ابن سينا باتباع الأسلوب التحليلي المنهجي الذي استشفه من أبي بكر الرازي (864 -930 م)، ومع أنه قد استفاد من أسلوب الأخير؛ إلا أن كتاب القانون كان أكثر شمولية وقدرة على معالجة القضايا بشكل أوسع من كتاب “الحاوي” لصاحبه الرازي.
فقد تضمن كتاب القانون جميع فروع الطب العلاجي التي عرفت حينها.
قدرة تشخيصية عالية:-
من خلال الكتاب الذي قدمه ابن سينا للبشرية؛ فقد كان من الممكن والبسيط أن يتم تحديد وكشف أمراض الكليتين والمثانة وذلك تبعاً لتصنيف كتاب القانون المتسلسل الذي حدد فيه أمراض الكلى وأعراض أمراض المثانة.
كما أن ابن سينا كان
السباق وأول من أشار إلى أن ملاحظة الدم في البول من الممكن أن ينتج عن أمراض
بعيدة عن أمراض جهاز البول، أمراض الدم على سبيل المثال.
ولم يقتصر تحليل كتاب ” القانون ” بآليته المنهجية في التصنيف وتحديد وصف بالغ الدقة للأسباب التي تؤدي إلى الامراض البولية، وأعراض الأمراض المساعدة في تحديد كونها ناتجه عن جهاز البول أو غيره؛ بل أيضاً أن ابن سينا أشار إلى الحالات النفسية على اعتبارها عواملاً مؤثرة في معالجة بعض الحالات الخاصة من السلس/ التبول الليلي.
وحتى أن القسطرة البولية -التي كانت موجودة حينها-، فقد حذر العالمان ابن الرازي وابن سينا من استعمالها في حال كان يعاني المريض من الالتهاب، كونها ستزيد من ورم الالتهاب وآلامه.
كتاب القانون -تصميم جديد:-
ولم يكتف ابن سينا بالتفصيل ووصف سبل العلاج بل حتى يضمن ألا تؤذي القسطرة المريض وتكون لطيفة عليه بأقل مقدار من الألم؛ بل إنه قام أيضاً بوضع تصميم جديد لها، فكانت ذات رأس ثابت وتتضمن العديد من الثقوب مصنوعة بمعظمها من جلود الحيوانات.
انتقال كتاب القانون إلى اللاتينية:-
في سنة 1150 للميلاد؛ قام المترجم جيراردو الكريموني من منطقة كريمونا (إيطاليا) بنقل كل من كتابي “القانون في الطب” لابن سينا و”الحاوي” للرازي إلى اللغة اللاتينية، ليصبح هذيّن المؤلفيّن من المراجع صاحبة التأثير العظيم على المدارس الطبية الأوروبية في العصور الوسطى وحتى نهايات القرن الثامن عشر الميلادي.
مساهمة بالنهضة:-
قال السير وليام أوسلر، الطبيب الكندي المتوفى عام 1919 م : ” لقد عاش كتاب القانون مدةً أطول من أي كتاب آخر، ولقد وصلت عدد طبعاته إلى 15 طبعة في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الخامس عشر… إنَّ ابن سينا مكَّنَ عُلماء العرب من الشُروع بالثورة العلمية في مجال الطب، والتي بدأت فعلاً في القرن الثالث عشر، وبلغت مرحلتها الأساسية في القرن السابع عشر”.
وحول منزلة الكِتاب؛ يُضيف أوسلر: ” إنه بمثابة الإنجيل في عالم الطِب ما يزيد على سبعة قرون من الزَّمن”.
تقول المستشرقة الألمانية هونكه عن هذا الكِتاب: “إنَّ أعاظم الإغريق، والإسكندريين ليبهت لونها، ويقلُّ شأنها أمام كتاب القانون لأمير الأطباء الرئيس ابن سينا، ذلك الكِتاب الذي كان له أعظم الأثر في بلاد الشرق وبلاد الغرب على حدٍ سواء قروناً طويلة من الزمَّن بشكلٍ لم يكُن له أي مثيلٍ في تاريخ الطِب إطلاقاً”.
أما نوبرجر، فيقول عن كتاب ابن سينا: ” إنَّهم كانوا ينظرون إلى كتاب القانون كأنَّه وحيٌ معصوم، ويَزيدهم إكباراً له تنسيقه المنطقي الذي لا يُعاب، ومقدِّماته التي كانت تبدو لأبناء تِلكَ العُصور كأنها القضايا المُسلَّمة والمقرَّرات البديهية”.
نشأة علمية:-
ولد أبو علي بن عبد الله بن سينا، المعروف بالبلخي ثم البخاري، في سنة (980م) وذلك في قرية تسمى أفشانا بخارى (في أوزبكستان).
نشأ في بيت كريم في كنف أم اسمها ستارة وأبٍ هو عبد الله ابن سينا الذي عرف في منطقة بلخ بعلمه ومعرفته، كما كان الوالد أيضاً حاكماً محلياً للسلالة السامانية.
تعلم ابن سينا المنطق مع إتقانٍ لعلوم الحساب والهندسة وذلك قبل بلوغه عُمر الثالثة عشر، في الحقيقة في ذلك العمر؛ كان قد قرأ لإقليدس، لبطليموس، بالإضافة إلى ما وصل إليه عن الفيلسوف أرسطو.
لذا؛ فإن هذا الإرث الكبير الذي خلّفه ابن سينا للبشرية جمعاء، جاء بفضل هذه التنشئة العلمية من جهة، أما من جهة ثانية؛ فقد كان يتميز بقدر عال من الذكاء والموهبة والعطاء، وهي عوامل اجتمعت لتبقي اسمه لامعاً في المحافل العلمية، وذلك على الرغم من مرور أكثر من ألف عام على وفاته.
المصادر:–
https://1001inventions.com/ibnsina
قصَّة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية.