الجبائي – اسمه ونشأته:–
محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حُمْران بن أَبَان، أبو علي الجبائي البصري، إمام المعتزلة، ورأس المتكلمين في عصره، وُلِدَ سنة 235هـ.
والجُبَّائي نسبة إلى بلدة
جُبَّى إحدى نواحي محافظة خوزستان الإيرانية.
مكانته العلمية وأخلاقه:–
كان الجبائي إماماً في علم الكلام، وأخذ هذا العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبد الله الشَّحَّام البصري رئيس المعتزلة بالبصرة في عصره، وله في مذهب الاعتزال مقالات مشهورة.
وعنه أخذ الشيخ أبو الحسن الأشعري شيخ السنة علم الكلام، تم ترك الأشعري شيخه الجُبَّائي، وخالفه، ولما فارق مجلس الأستاذ الجبائي، وترك مذهبه، وكثر اعتراضه على أقاويله؛ عظمت الوحشة بينهما؛ لذا جرت بينهما مناظرة مشهورة.
- وصفه أبو الحسن الفزروي قائلاً: ” كان من أعظم الناس، وأبعدهم صوتاً وذكراً في المتأخرين، ومن تقدَّم قدَّامه في أيامه”.
- قال شمس الدين الذهبي: “كان أبو علي متوسعاً في العلم، سيَّال الذهن، وهو الذي ذلل الكلام، وسهَّله، ويسَّر ما صَعُب منه”.
- حُكي عن أبي عمر الباهلي أن الخبر اتصل بقدوم أبي علي العسكر “من كُوَر الأهواز”، “فاجتمع أصحابنا، فعملنا مسألة نجربه بها، فلما قدِمَ سألناه عنها، فتكلَّم بكلمة واحدة، أسقط جميع ما رويناه، وكان أبو علي يجيب عن السؤال بكلمة واحدة، فلا يكون إلا السكوت”.
- قال أصحابه: إنهم أحرزوا له ما أملاه؛ فوجدوه نحو مائة وخمسين ألف ورقة، وأضافوا ” وما رأيناه ينظر في كتاب، إلا يوماً واحداً نظر في زيج الخوارزمي، ورأينا بيده يوماً آخر جزءاً من الجامع الكبير، وكان يقول: إن الكلام أسهل شيء، لأن العقل يدل عليه”.
- قال عنه جماعة من مريديه: “ما عرفنا قدر العلم حتى رأيناه”، وقالوا أيضاَ: “كان رجلاً فصيحاً، فيُخيَّل لنا أنه يقطعنا بفضل فصاحته وبيانه”.
- قال عنه محمد بن أبي عمر الباهلي: ” كان من أحسن الناس وجهاً وتواضعاً، وأكثرهم موعظة، فبينما نحن في كلامه حتى يذكر الموت، فتنحدر دموعه على خديه، ويأخذ في الموعظة حتى كأنه غير ذلك الرجل”.
- قال عنه ابنه أبو الحسن ” كان ينتبه من منامه، فإذا وجد ماء مسخناً توضأ وإلا يمسح بالبارد، ويصلي قليلاً، ثم يجلس فيفكر فيما يريد أن يمليه، وكان بالغداة يدعو إلى أن يصلي الضحى، ثم يقبل على الناس بأحسن طلاقة، ثم يدخل داره قليلاً، ويرجع فيجلس في مسجده للإملاء”.
- ذُكر عن سخائه حكايات عجيبة كثيرة، وذكر من حفظه للأشعار أشياء كثيرة.
آراؤه العقدية:–
لأبي علي الجبائي بعض الآراء العقدية النابعة من فكره المعتزلي؛ ومن هذه الآراء:
- نفى رؤية الله بالأبصار يوم القيامة.
- إثبات الفعل للعبد خلقاً وإبداعاً، وإضافة الخير والشر
والطاعة والمعصية إليه استقلالاً واستبداداً، وهي قدرة زائدة على سلامة البنية
وصحة الجوارح. - المعرفة وشكر المنعم ومعرفة الحسن والقبيح واجبات عقلية.
- العزم على الكبيرة كبيرة والعزم على الكفر كفر.
- الذنوب صغائر وكبائر، والصغائر تستحق الغفران باجتناب
الكبائر، وأن الكبائر تحبط الثواب على الإيمان، واجتناب الكبائر يحبط عقاب
الصغائر. - كان يقف في أبي بكر وعلي بن أبي طالب: أيهما أفضل؟
مبادئ المدرسة الجبائية:-
انفرد الجبائي بآراء معينة عن نظرائه من رؤوس المعتزلة، فيما يلي أبرزها:
- أولاً: قال في الصِّفات: إنَّ الله لم يزَل سميعاً بصيراً، ويمتنع من أن يُقال: لم يزَل سامعاً مبصراً، فالله عنده في الأزل سميعاً، ولم يكُن سامعاً إلَّا عِند وجود المَسموع، ولم يكُن مُبصِراً إلَّا عِند وجود المرئي؛ وذلك لأنَّ سامعاً ومبصِراً متعديَّان بخلاف سميعاً وبصيراً، فلمَّا لم يجز أن تكون المسموعات والمرئيات لم تَزَلْ موجودات لم يَجَزْ أن يكون سامعاً ومبصِراً.
- ثانياً: قال: إن حقيقة الطَّاعة هي موافقة الإرادة، وقد قيل له: إن قولك هذا يوجِب أن يكون الله مطيعاً لعبده إذا منحه مُراده، فقال: نعم، يكون مطيعاً له، فخالَفَ بذلك الإجماع، ذلك لأنَّ المسلمين قبله أجمعوا على أن من قال: إنَّ الباري سبحانه وتعالى مطلعٌ لعبده كان موصوفاً بالكُفر، وأيضاً: لو جاز أن يقال: إنه لعبده مطيعٌ لجاز أن يكون له خاضعاً وهذا غير جائز، فدلَّ على بُطلان هذا القَول.
- ثالثاً: قوله إن العرض الواحِد يمكن أن يكون في محالٍ كثيرة، ويعلِّل ذلك بقوله: إن الكلام يكتب في محل، فيكون عَرَضاً موجوداً فيه، ثم يكتَب في محلٍ ثاني ، فيصير أيضاً موجوداً فيه من غير أن ينتقل من المحل الأول أو يعدم فيه.
- رابعاً: قوله: إن الله سبحانه وتعالى ليس بقادر على أن يفني شيئاً من أجسام العالم بانفراده، ولكنَّه إن شاء أفنى العالم بفناء يخلقه لا في محل ، فيفنى به جميع العالم.
- خامساً: قناعته باستحالة بعث الأجسام بعد تفرُّقها بالموت، ولذلك؛ لذا، فإنَّه يتأول الآيات الكريمة ذات الصِّلة، على معنى أن الله يحيي أرواح الموتى، ويبعث أرواح مَن في القُبور.
مناظرة الجبائي مع تلميذه أبي الحسن الأشعري:–
كان لأبي علي الجبائي مناظرة مشهورة مع أبي الحسن الأشعري، فيقال: إن الأخير سأل أستاذه أبا علي الجُبَّائي عن ثلاثة إخوة: أحدهم كان مؤمناً برّاً تقياً، والثاني كان كافراً فاسقاً شقيّاً، والثالث كان صغيراً، فماتوا فكيف حالهم؟
فقال الجبائي : أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات، وأما الصغير فمن أهل السلامة.
فقال الأشعري: إن أراد
الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟ فقال الجبائي: لا؛ لأنه يقال له: إن
أخاك إنما وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعاته الكثيرة، وليس لك تلك الطاعات.
فقال الأشعري: فإن قال ذلك
الصغير: التقصير ليس مني، فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة، فقال الجبائي:
يقول الباري جل وعلا: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت وصرت مستحقاً للعذاب الأليم،
فراعيت مصلحتك.
فقال الأشعري: فلو قال
الأخ الكافر: يا إله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي، فَلِمَ راعيت مصلحته
دوني؟ فقال الجبائي للأشعري: إنك لمجنون. فقال: لا، بل وقف حمار الشيخ في العقبة، فانقطع
الجُبَّائي.
يقول ابن خَلِّكان معقباً
على هذه المناظرة: “وهذه المناظرة دالة على أن الله تعالى خص من شاء برحمته،
وخص آخر بعذابه، وأن أفعاله غير معللة بشيء من الأغراض”.
مسائل:-
- سُئلَ الجبائي عن وَجهِ الحِكمة في إماتة الرُسُل وإبقاء إبليس، فقال: “إن الذي لا يُستغنى عنهُ هو الله وحده، وأما الأنبياء؛ فقد يُغني الله عنهُم بالطَّاعة، وأمَّا إبليس؛ فلو علِمَ في إماتته مصلحة لفعل، أو علِم في بقائه مفسَدة لما بقيِ، ولكن كان يفسد مع موته من فسَدَ في حياته”.
- قال أيضاً: “التوفيقُ هوَ اللُّطف الذي في معلومِ الله سبحانه، أنه إذا فعله وفَّق الإنسان للإيمان في الوقت، فيكون ذلك اللُطفُ توفيقاً لأنه يؤمن، وأنَّ الكافِرَ إذا فَعَلَ به اللُّطفُ الذي يوفِّق للإيمان في الوقت الثاني فهو موفَّق لأن يؤمن في الثاني، ولو كانَ في هذا الوقت كافراً، وكذلكَ العِصمة عنده لُطف من ألطاف الله”.
كتبه ومصنفاته:–
- الأصول.
- النهي عن المنكر.
- التعديل والتجويز.
- الاجتهاد.
- الأسماء والصفات.
- التفسير الكبير.
- النقض على ابن الرَّاوَنْدِيِّ.
- الرد على ابن كُلاَّبٍ.
- الرد على المنجمين.
- شرح الحديث.
أصول المعتزلة:-
للمعتزلة أصول خمسة هي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمرُّ بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وكانت هذه المبادئ وليدةً للمناقشات والمناظرات التي جَرَت بينهم وبين مخالفيهم.
وقد خالف المُعتزلة السلف في فَهم العقائد، إذ كان منهجهم في استيعابها مستند إلى العقل لا سواه، فقد عملوا على تطبيق الأحكام العقلية على العقائد الدينية.
وكانت أصولهم الخمسة وما انبثق منها وعنها من آراء؛ بمثابة القاعدة الأساسية في محاورتهم مع النصوص، سواءً أكانت قرآناً أو سُنَّة، فكان كل ما يعارض مبادئهم من آيات يؤولونها، وما يصطدم منها من أحاديثٍ ينكرونها.
وقد قاموا أيضاً بتأوليل الآيات التي تُثبت رؤية الله، وآيات التجسيم والتشبيه، والآيات التي تقول بالجبر والقدر.
كما كان موقفهم من الحديث موقِف المُتشكك في صحته، وأحياناً منكراً له، ذلك لأنهم يُحكمِّون العقل في الحديث، لا الحديث في العقل.
وقالوا أيضاً: إن الأحاديث التي توحي بالجبر ذات رواية آحاد، وخبر الواحد لا يُؤخذ به في أصول العلم، كما ذهبوا إلى جواز وقوع الكذب في خبر المتواتر من الحديث، طبعاً مع وجود تدرُّج في هذا الطرح ما بين شخصية معتزلية وأخرى.
وفاة الجبائي:–
توفي في البصرة، في شهر شعبان، سنة 303هـ، وخلفه ابنه العلامة أبو هاشم الجبائي .
اقرأ أيضاً: قصر الحمراء أشهر قصور الأندلس
المصادر:–
- الأعلام (6/256).
- المعتزلة في بغداد وأثرهم في الحياة الفكرية والسياسية، أحمد شوقي العمرجي.
- المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها، عواد المعتق.
- فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تحقيق فؤاد السيد.
- سير أعلام النبلاء (14/183/رقم 102).
- شذرات الذهب في أخبار من ذهب (4/18).
- العبر في خبر من غبر (1/445).
- الملل والنحل للشهرستاني (1/81).
- وفيات الأعيان (4/267/رقم 607).
- أصل العدل عند المعتزلة، هاشم إبراهيم يوسف.