تمهيد:-
يعتبر ابن رشد أحد أهم الفلاسفة المسلمين الذين عملوا على دمج التفكير الفلسفي الأرسطي الغربي مع الفكر الإسلامي، وأكثر ما تتميز به كتاباته هو إيمانه بعدم وجود أي تعارض ما بين الدين الاسلامي والفلسفة في حال تم التعرف على الأخيرة بالأسلوب الصحيح.
كتب ابن رشد العديد من الأعمال الرائدة التي بدأت بتعليقه المفصَّل على أفكار وأعمال الفيلسوف الإغريقي الكبير أرسطو، هذا إلى جانب قيامه بالدفاع عن الفلسفة، الأمر الذي جعله في موقف المُدان من قبل بعض فقهاء عصره الذين احتجّوا بكون طروحاته تتعارض مع مبادئ الإسلام، مما قاده إلى تأسيس نمط فلسفي أرسطي بعيداً عن كل التأثيرات الحديثة للفيلسوف الإغريقي الكبير الآخر، أفلاطون.
وفي هذه المقالة؛ سوف نسلط الضوء على سيرة ابن رشد انطلاقاً من ملامح حياته، أفكاره ومدى تأثيره في الفلسفة المحيطة به.
من هو ابن رشد ؟
ابن رشد وهو أبو الوليد محمد بن أحمد، الذي اشتُهِر وعُرِف في الغرب باسم أفاروس، وُلِد في مدينة قرطبة الأندلسية في سنة 1126 للميلاد، ووافتهُ المنية في سنة 1198 م بمدينة مراكش المغربية وذلك عن عُمر يناهز 72 عام.
سيرته ونشأتهُ:-
عُرف ابن رشد في الإندلس بكونه الفيلسوف، الفقيه، والفلكي هذا إلى جانب مساهماته الطبية، وقد أمضى جزءاً كبيراً من حياته في العمل بمجال القضاء والطب في كل من الأندلس والمغرب.
كما عُرف ابن رشد كفيلسوف تم الاحتفاء به وبأفكاره في العصور الوسطى ومع ولادة عصر النهضة الأوروبي، نتيجة للبصمة الذي أضافها أبو الوليد على فلسفة تلك الحقبة الزمنية.
ولِدَ ابن رشد في منزلٍ يعملُ كلُ رجاله ولأجيال عديدة متعاقبة في مهنة القضاء، الأمر الذي مهَّد له الطريق لدراسة التشريعات، والفقه الديني، هذا إلى جانب علوم الطب، الرياضيات وأصول الفلسفة، حتى وصل إلى درجة من العِلم تُمكنه من المشاركة في طرح أفكاره وملاحظاته الفلكية في سنة 1153 م وهو في السادسة والعشرين من العمر فقط.
ابن طفيل:-
وبعد مرور عشر سنوات على هذه الحادثة؛ قام صديقه الفيلسوف المعروف ابن طفيل بتقديم ابن رشد لحاكم دولة الموحدين أبو يعقوب، حيث كان الأخير يبحث في تلك الفترة عن شخصية مدركة لأسس الفسلفة لأغراض التعليق على أعمال أرسطو، كما كان يريد طبيباً خاصاً به يخلف ابن طفيل.
تدرُّج وظيفي:-
تدرَّجت مهام أبو الوليد الوظيفية لدى الحاكم ليصل إلى منصب رئيس القضاة في إشبيلية ومن ثم تسلَّم إدارة القضاء في قرطبة.
وفي سنة 1182 للميلاد؛ تم إلحاق ابن رشد بديوان الطب في مراكش ليكون كبير الأطباء فيه.
وبالفعل؛ قام أبو الوليد بخدمة الحاكم حتى وفاته، وامتدت خدمته إلى ابنه يعقوب المنصور الموحدي الذي تبعه في الحكم سنة 1184 م.
محنة ابن رشد:-
وبسبب وجود عدد من الفقهاء الذين عارضوا أفكار أبي الوليد وفلسفته؛ فقد قام الحاكم الجديد بنفي ابن رشد إلى قرية إليسانة وإحراق كتبه، ومَنَع الناس من قراءة مؤلفاته، قبل أن يُدرك الحاكم أن الدعوى التي تم نفي ابن رشد بموجبها كانت ذات طبيعة كيدية، فأعاده بعد سنتين مستدعياً إيَّاه إلى مراكش، غير أن ابن رشد ظل مُعتلاً بفعل ما جرى له حيث مات بعد وصوله لمراكش بعام واحد (595 هجري-1198 م)، قبل أن يتم نقل رفاته لاحقاً إلى مسقط رأسه قرطبة ليوارى جثمانه الثَرى من جديد.
إرثهُ وأعمالهُ:-
إن تعليق ابن رشد على أعمال أرسطو يعتبر أكبر جزء من إرثه العلمي ولعله الأهم منه أيضاً، ومع ذلك؛ فمن الضروري أن يشار بالبنان إلى ما تركه من كتابات في العلوم التي أتقنها، وهي التي يتواجد الكثير منها اليوم على هيئة تراجم عبرية ولاتينية في مقابل غياب النُّسَخ العربية التي يبدو أنها فُقدت بفعل ما تعرَّض له العالم الإسلامي من متغيرات سياسية عسكرية وبيئية طبيعية.
تعليق ابن رشد على أعمال أرسطو:-
من الممكن أن نقسِّم تعليقات ابن رشد على أعمال أرسطو (توفي عام 322 قبل الميلاد) إلى ثلاثة أقسام رئيسة وهي:
أولاً: تقديم موجز مبسَّط وصغير، تم فيه إعادة صياغة ملخصه للموضوع حيث سُمي لديهِ بـ”الجامع”.
ثانياً: التعليق المتوسط الذي يُسمى بـ”التلخيص” وهو عبارة عن عرضٍ تفسيري يقوم على أساس طرح الفكرة بتوضيحٍ وشَرح أكبر للنص الأصلي الذي وضعهُ أرسطو.
ثالثاً: وهو الاسترسال في الشَّرح والتعليق على النص الأصلي والذي سُمي بـ”التفسير”؛ إذ اتبع فيه ابن رشد اقتباسه للمقطع من نصوص أرسطو بتعليق عليها ضمن فقرات واسعة ومقاطع نصية.
وهذه المهمة الضخمة التي تم طلبها من ابن رشد تغطي كل ما تركه أرسطو من أفكار في المنطق، الميتافيزيقيا، والعلوم الطبيعية بالإضافة إلى نظرياته في علوم النفس وما يشابهها.
وكان أبو الوليد يتَّجه في بعض النصوص الأرسطية إلى اتباع أنماط التعليق الثلاثة معاً، بينما في غيرها كان يستخدم أسلوباً أو اثنين وذلك تبعاً لأهمية النصِّ أو حاجته للتوضيح.
وكان ابن رشد يعتني بشكل أكبر بالتحليلات الفيزيائية، السماوية، والقصد الأرسطي في الحديث عن الروح والميتافيزيقيا وما يخفى من مقصد وراء الكلمات.
مساهمات ابن رشد في مجال الفلك:-
إن الكتابات التي قدَّمها ابن رشد في كل من الطب والفلك تمثل معاً محصلة مساهماتهُ العلمية، حيث قام بعرض وجهات نظره في كل من علم الفلك عبر التعليق على “جوامع الآثار العلوية” لأرسطو، كما علَّق على كتاب المجسطي لبطليموس، وألحقه بأطروحة أسماها كتابٌ في تحركات لفلك.
وفي كتاب المختصر؛ يقدم أبو الوليد نسخة فريدة وقيمة تقدم مشروعاً إصلاحياً جذرياً لعلم الفلك البطليموسي الذي ساد كقناعة علمية راسخة لفترة طويلة.
وقد تم ترجمة الكتاب هذا في بادئ الأمر إلى اللغة اللاتينية ومنها وجد طريقه إلى المجتمع اليهودي ، فترُجِم إلى العبرية.
وقد تناول ابن النديم في كتابه الشهير “الفهرست”، بعض المعلومات عن كتاب المجسطي وذلك في سياق حديثه عن بطليموس، حيث قال:إنه “صاحب كتاب المجسطي في أيام أدريانوس وأنطينوس، وفي زمانهما رَصَدَ الكواكب ولأحدهما عمِل كتاب المجسطي. وهو أول من عَمِل الأسطرلاب الكروي، والآلات النجومية، والمقاييس والأرصاد والله أعلم، ويقال: إنه رصد النجوم قبل جماعة، منهم أبرخس وقيل: إنه أستاذه وعنه أخذ. والرَّصدُ لا يتم إلا بآلة، فالمبتدىء بالرصد هو الصانع للآلة”.
قيمة مضافة لعلم الفلك:-
ولأن ابن رشد يعتبر ممهداً لطريق وَضْع أسس جديدة في علم الفلك؛ فقد بدأ تدريجياً في إعادة تعريف النقاط التي لن يُقدم الفلكيون الكبار بالاعتراض عليها. فاعتمد على ما توصل إليه أسلافهً من الفلكيين المسلمين وبشكل خاص ما تركه كلٌ من ابن الهيثم و جابر بن أفلح، ليقوم وباتباع أساس علمي؛ باستنكار نظام بطليموس غير المنطقي، مثيراً زوبعة من الاعتراضات ضد فرضيات بطليموس الغريبة وغير الواضحة.
في الواقع يعود تاريخ النقد الفلكي لنظريات بطليموس إلى الأندلس وذلك في بداية القرن الثاني عشر ، حيث قام كل من ابن طفيل والفيلسوف الشهير ابن باجة، بوضع اعتراضات عليها كانت ملهمة لابن رشد الذي قام بتبنيها وصياغتها ضمن نظام فلكي جديد يقوم على المبادئ الفلسفية الأرسطية.
إن النظام الذي أوجده ابن رشد تم فحصهُ والتأكد منه من قبل الفيلسوف والعالم المغربي أبي
إسحق البطروجي، الذي قام بتمثيل ما توصَّل إليه ابن رشد من سماوات وأفلاك وذلك عبر مجالات ومدارات متداخلة ودوائر تكونُ الأرض في مركزها.
ورغم أهميته في الملاحظة؛ إلا أن هذا النظام الفلكي لم يمتلك أي قيمة رياضية تمكِّن من الوصول إلى مواقع الأفلاك أو الكواكب، ولا حتى تُمكن من التنبؤ بها.
مساهمات ابن رشد في مجال الطب:-
قدَّم ابن رشد تعليقات على أعمال كل من الإغريقي جالينوس والمسلم ابن سينا، حيث كَتَبَ أطروحةً سمَّاها
“كتاب الكُليات” والذي يعُرف باللغة اللاتينية باسم كتاب “الكولجيت”.
في هذه الأطروحة؛ قام ابن رشد بتنظيم هيكل الرسالة ليُنتج مُلخَّصاً عن عالم الطب، وهذا الكتاب كان
نقطة أساس مفصلية، انطلق منها وتوسع فيها من بعده العلماء والأطباء.
سنلحظ في هذه الأطروحة الطبية بأن النص يقود للتفكير بأن الحقائق الطبية العامَّة التي ذكرها عبر
الملاحظة؛ تقوم بالربط ما بين الأعراض والأسباب التي أدت لظهورها، حيث رأى أن العلاج الطبي يتم من
خلال مراقبة آثار الأدوية على الشخص الذي يخضع للعلاج، بحيث يكتسب المنهج الطبي طبيعة استقرائية فلسفية.
دفاعه عن الفلسفة:-
تتمحور الأعمال الفلسفية التي قام بها ابن رشد بالتوجه للدفاع عن الفلسفة وأصولها التي تحدَّث عنها حُجَّة
الإسلام الإمام الغزالي (توفي سنة 1111 ميلادية) والذي قام بمهاجمتها في سياق رده على أعمال ابن سينا
والفارابي المتأثرة بآراء أرسطو عن الكون وفلسفة الحياة وشؤون ميتافيزيقية.
وتشمل أعمال ابن رشد الفلسفية؛ كتاب “تهافت التهافت” وهو عبارة عن رد منهجي على الغزالي صاحب
“تهافت الفلاسفة”، حيث جاء رد ابن رشد على الغزالي بشكل مدروس مقدِّماً طرحاً مترابطاً فيما يلي أبرز
ملامحه:
النص الأول: فَصل المقال، وهو قِسمٌ مبني على الدِّفاع عن الفلسفة بكونها لا تتعارض مع الشَّريعة
الإسلامية، نصُّ الكشف عن المنهج العادل، وهو طريقة لكشف النظام اللاهوتي الديني القائم على تفسير
اللغة، ويأتي بعده نصُّ الدميمة “وهو الملحق” حيث قام بتوضيح وإظهار -عبر بعض الشروحات- أن
الفلاسفة لا يُنكِرون معرفة وإحاطة علم الله بالتفاصيل.
في الواقع لم يقُم ابن رشد بتقديم أفكاره الفلسفية ككيان ونظام خاص، إنَّما طرحها بشكل متعدد الأوجه
بشكل كامل وكافٍ ليتم تلخيصها بسهولة، حيث يتطرَّق في دراسته الفلسفية إلى موضوعين رمزيين هما:
نظريته السببية الفلسفية إلى جانب الأطروحة المتعلقة بالرابط ما بين الدين والفلسفة والتي تمثل إطار الخطاب النظري خاصَّته.
الرد على الغزالي:-
قام ابن رشد بتطوير نظريته السببية التي واجهت اعتراضات الغزالي المُنكرة للسيادة الحتمية للعلاقة السببية ، فقد ذهب الغزالي للقول بأن النظام العالمي لا يوجد له أي ضرورة متأصلة، وأن وجود الطبيعة كان بموجب استجابة لأمر من الله تعالى وبما ينسجم مع الحكمة الإلهية.
ولكن ابن رشد طرح وجهة نظر مختلفة في هذا السياق؛ فهو يستند في أفكاره إلى مبدأ يقوم على فكرة الجوهر الحقيقي لحصول شيء ما، والذي يرتبط بشكل وثيق بالهدف من حصوله، أي إنه اعتقد بالسببية الكامنة في كل الأشياء المعروفة والحاصلة.
ويؤكد ذلك بقوله: “إن كل الأشياء تمتلك في مضمونها وجوهرها سبباً يحدد العمل الذي وجدت لأجله،
وهو الأمر الذي يميز بين الأشياء، ويُفرِّق بين أسمائها وتعريفاتها”، حيث يفترض ابن رشد أن عَدَم وجود هذا
السبب؛ سيؤدي إلى إيجاد أشياء متشابهة ومتكررة، أو أن تتوقَّف الأمور عن الحدوث والوجود بشكل كلي
نظراً لعدم وجود هدف منها.
العلاقة السببية:-
ويعلل ذلك بالقول: إنه ولو كان كل شيء موجود بدون سبب فعندها لن يكون للحريق (على سبيل المثال)
سبب أو نتيجة.
بالتالي يصل ابن رشد إلى هدفه مفترضاً أنه لو كان هناك جوهر حقيقي وسببي للوجود فهو يتطلب الاعتراف
بحدوث فعل أو أمر معين لهُ طبيعة محددة ليحقق غاية معينة.
أما في حال لم يكن هناك سببية للأمور؛ فإن الكيان الواحد لم يعد بعد الآن كياناً واحداً ، إذ تم إزالة
الطبيعة المعروفة له منه والهدف من وجوده وبالتالي يصبح هناك ضرورة للاقتناع بعدم الوجود.
ردُّ ابن رشد على الغزالي –وهما لم يتعاصرا- استمر طويلاً وألهَم الكثيرين، فعِندما طَرَح الغزالي ما فكرته أن
النَّار بإمكانها أن تمَسّ القطن دون أن تحرقه، يجيبه ابن رشد بالقول: إن هذا الأمر يستلزم وجود عائق يفصِل
اللهَّب عن القطن، فالحريق حاصِل كونه يمثِّل اسم النار وصفاتها، فالنار وحتى تكون “النار” التي نعرفها
منذ الأزل؛ فلا بد من أن تمتلك خَواص الإحراق، وعدم الإحراق بدون وجود سبب يمنعه عنه، هو ليس انكاراً موضوعياً لحقيقة النَّار واسمها فحسب؛ بل سيتجاوز ذلك ليصبح انتهاكاً لقوانين الطبيعة والخلق وانتهاكاً
للمفاهيم التي نُسمّي بها الأشياء والتي نتحدث عنها.
الانسجام بين الدين والفلسفة:-
ما يذكر لابن رشد هو نقاشاته واهتمامه في إثبات الانسجام ما بين الفلسفة والدين، فيظهر بنزعة المدافع
عن الفكر الفلسفي وأبعاده؛ وهنا أيضاً يظهر جدل سابق دار بين الغزالي والفلاسفة المسلمين حيث لم
يستخدم الغزالي (حَسَبَ الترجمة) الحُجَّة المنطقية لدَحض طروحاتهم (الفارابي وابن سينا وسواهما)، إنما
قام بالادعاء بشبهة كفرهم وإنكارهم لعلم الله الذي يحيط بكل شيء، وذلك لأن الفلاسفة المسلمين
المشار إليهم؛ يؤيدون أبدية العالم والكون.
في الواقع، فإن الرمي بالكُفر كانت في تلك الفترة من الإسلام – وما زالت إلى اليوم – ذات طبيعة خطيرة،
قد تفضي إلى قتل المتهم بها.
وهنا لم يكن ابن رشد في مواجهة تحدٍ فكري منطقي بل كان أيضاً يواجه تحدٍ موجَّهٍ إلى صَميم إيمانه
والتزامه الديني، فنجده في العديد من كتاباته الفلسفة يُدافع عن الفلاسفة من تُهمة الكفر، فعلى سبيل
الذكر يبدأ حديثه في طرح سؤال عام “هل تسمح الشريعة الإسلامية بدراسة العلوم الفلسفية أم هي
تحظرها؟” فيجيب على سؤاله بنفسه ويوضِّح مُبررات جواز دراستها انطلاقاً من الآيات القرآنية التي تُظهر أن الدراسات الفلسفية هي الأسلوب الصحيح للتفكر الذي يُفضي إلى أثبات وجود الله ووجوب عبادته.
كتاب فصل المقال:-
توجَّه ابن رشد في أطروحته الفلسفية “فَصلُ المقال فيما بين الحِكمة والشَّريعة من الاتصال” إلى صياغة
تصورٍ فلسفيٍ ينسجم في طرحهِ مع الشَّريعة الإسلامية وتعاليمها، مُعتبراً أن هذه الدِّراسة ذاتُ طبيعة
فكريَّة عقلانية للخلق والتي سوف تقود دون أي شك للتعرف على عَظَمةِ الخالق.
وبهذا الشكل؛ يُصبح النهج الفلسفي الذي تناوله ابن رشد بمثابة المَسار الصحيح لاستكشاف الحقيقة
المحيطة بنا والتي أرشدت إليها النصوص الإلهية.
وقد أوضح ابن رشد أنه وللوصول إلى فهم مراد الله وسنته في كونه؛ فلا بد من أن يتواصل هوَ مع البشر عبر
أنواع ثلاثة من الخِطابات والتي تختلف نتيجة لاختلاف إدراك الناس وفهمهم وهي: الخطاب الجدلي،
البلاغة، والمنهجية التوضيحية.
هذه الأنواع الثلاثة ستكون برأيه وسيلة هامة في إدخال الفلسفة إلى البيئة الإسلامية وإيجاد المكان الملائم لها.
شرائح مجتمعية:-
وَوَجَدَ أنَّه لن يتمكن من التواصُل مع عامَّة المسلمين في تلك الحقبة إلا عبر التوضيح كونه سوف يتعامل
مع شريحة كبيرة بقدراتٍ معرفيةٍ محدودةٍ وتدريبٍ فكريٍِّ ضئيل، ويتبِّع الأسلوبين الآخرين مع القادرين على
التفكير الجدلي والخطابي.
في الواقع؛ توجَّه أبو الوليد إلى تقسيم نصوصه المكتوبة أيضاً إلى ثلاث فئات وهي: الفئة التي يجب أن تُقبل
أدبياً كونها واضحة ولا يوجد فيها أي لُبس أو شك، إلى جانب الفئة التي لا يجب أن يتم أخذها بشكل حَرّفي
خِشية الوقوع في الخطأ في فهمها، وأخذها وارد مما قد يتيح للمتلقي أن يفسرها بغير المقصود منها،
والفئة الأخيرة هي العبارات الأدبية التي يجب أن يتم تفسيرها لكل فئة متلقية تبعاً لقدراتها الفكرية.
وفي الكتاب هذا؛ نجد ابن رشد يتطرق مرة أخرى إلى تبرئة الفلاسفة الإسلاميين من ُتهمة الكفر موضِّحاً أن
العِبارات المكتوبة قد يتم تفسيرها بشكلٍ خاطئٍ وخاصَّة عِندما تتعارض في رأي من يفسرها مع فكرة دينية.
ومع كل هذا؛ ففي العالمَ المسلم يكون كامل المجتمع هُوَ من يحكُم إن كانَ هذا الأمر متعارضاً مع الفكر
الإسلامي ويشكل خيانة لأسسه أم لا، وبالتالي يخبرنا ابن رشد أن الحصول على إجماعٍ في الأمور التي
تمس المعتقدات يعتبر من المستحيلات.
تأثير أعمال ابن رشد:-
لابن رشد إرث فلسفي كبير لا يمكن تجاهُله – مع أن المدّرَسة الفلسفية التي وَضَع ركائزها لم تستمر بعده –
في الواقع لم يُعرف لابن رشد أيُ تلميذٍ أو مُريد مُسلمٍ كبير يتابع أعماله، حتَّى أن العديد من الفلاسفة
المسلمين ابتعدوا عن كتُبِهِ إلى درجة فقدان النسخ العربية من كتبه.
ولقد وَصَلَ إلينا اليوم عبر التراجم من النسخ العبرية واليونانية لكتب ابن رشد والتي تم الاحتفاظ بها، مما
مكننا اليوم من الاطلاع على تعليقاته الفذة على أعمال أرسطو وأفكاره الفلسفية الرائدة في العصور
الوسطى وبداية عصر النهضة.
وقد ظهر لابن رشد بالغرب بعد وفاته مدرسة فلسفية انشأها معتنقو أفكاره من اللاتينيين واليهود، ليُعرف
تياره الفلسفي باسم الرشدي “Averroism”.