يعتبر سعيد بن توفيل من بين أبرز الأطباء الذي سطع نجمهم في الحضارة العربية الإسلامية خلال فترة القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي).
ابن توفيل النصراني كان طبيباً خاصَّاً بأبي العباس أحمد بن طولون الذي عاش بين عامي 220 و 270 هجري (835-884 م) والذي عيَّنهُ العباسيون أميراً على مصر، بيد أنَّه استقلَّ عن بغداد ليرسي قواعد الدولة الطولونية التي التي حكمت مصر والشَّام.
كان ابن توفيل مرافقاً لابن طولون في حلِّه وترحاله، بيد أن المكانة التي حظي بها الطبيب لم تستمر إلى النهاية، إذ تغيَّر عليه ابن طولون في مرحلة متأخرة، فعذَّبه وضربه مائتي سوط ليلفظ أنفاسه الأخيرة بعد ذلك بيومين.
سعيد بن توفيل مع ابن طولون ورحلة الشام:-
كان ابن طولون قد خرج إلى الشام ، وعاد إلى أنطاكية فأدركته هيضة من ألبان الجواميس، لأنه أسرع فيها، واستكثر منها فالتمس طبيبه سعيدًا فوجده قد خرج إلى بيعة بأنطاكية فتمكن غيظه عليه فلما حضر ابن توفيل أغلظ له في التأخر عنه، وأنف أن يشكو إليه ما وجده، ثم زاد الأمر عليه في الليلة الثانية فطلبه فجاء متنبذاً، فقال له: لي من يومين عليل وأنت شارب نبيذ؟ فقال يا سيدي طلبتني أمس وأنا في بيعتي على ما جرت عادتي، وحضرتُ فلم تخبرني بشيء.
قال ابن طولون : فما كان ينبغي أن تسأل عن حالي؟ قال سعيد بن توفيل : ظنك يا مولاي سيء، ولستُ أسأل أحدًا من حاشتيك عن شيء من أمرك، قال فما الصواب الساعة؟.
قال سعيد لا تقرب شيئًا من الغذاء، ولو قرمت إليه الليلة وغداً، قال: أنا واللَّه جائع، وما أصبر، قال هذا جوع كاذب لبرد المعدة، فلما كان في نصف الليل استدعى شيئًا يأكله فجيء بفراريج كردباج حارة وبزماورد من دجاج، وجداء باردة فأكل منها فانقطع الإسهال عنه، فخرج نسيم الخادم، وسعيد في الدار فقال له: أكل الأمير خروف كردباج فخفف عنه القيام، قال سعيد اللَّه المستعان ضعفت قوته الدافعة بقهر الغذاء لها، وستتحرك حركة منكرة فواللَّه ما وافى السحر حتى قام أكثر من عشرة مجالس.
وخرج من أنطاكية وعلته تتزايد إلا أن في قوته احتمالًا لها، وطلب مصر وثقل عليه ركوب الدواب فعملت له عجلة كانت تجر بالرجال، وطِّئت له، فما وصل الفرما حتى شكا إزعاجها فركب الماء إلى الفسطاط، وضُرب له بالميدان قُبَّة نَزَل فيها.
مواقف في مصر:-
- لمَّا حلَّ ابن طولون بمصر بعد انقضاء رحلته إلى الشام ؛ ظهرت منه نبوَّة في حق سعيد بن توفيل الطبيب ، وشكاه إلى إسحاق بن إبراهيم كاتبه وصاحبه فقال الأخير لابن توفيل يعاتبه: ويحك، أنت حاذق في صناعتك وليس لك عيب إلا أنك مدل بها، غير خاضع أن تخدمه فيها، والأمير، وإن كان فصيح اللسان، فهو أعجمي الطبع، وليس يعرف أوضاع الطب فيدبِّر نفسه بها وينقاد لك، وقد أفسده عليَّ الإقبال فتلطف له، وارفق به، وواظب عليه، وراع حاله، فقال سعيد واللَّه ما خدمتي له إلا خدمة الفأر للسنور، والسخلة للذئب، وإن قتلي لأحب إلي من صحبته، ومات أحمد بن طولون في علته هذه، بحسب ما أورده ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء.
- وقال نسيم خادم أحمد بن طولون إن الأمير طلب الطبيب سعيد يومًا فقيل له: مضى يستعرض ضيعة يشتريها فأمسك حتى حضر، ثم قال له يا سعيد: اجعل ضيعتك التي تشتريها فتستغلها صحبتي ولا تغفلها، واعلم أنك تسبقني إلى الموت إن كان موتي على فراشي، فإني لا أمكنك بالاستمتاع بشيء بعدي، قال نسيم -وكان سعيد بن توفيل آيسًا من الحياة لان أحمد بن طولون امتنع من مشاورته ولم يكن يحضر إلا ومعه-: من يستظهر عليه برأيه ويعتقد فيه أنه فرط في أول أمره وابتداء العلة به حتى فات أمره.
ابن توفيل يُظلَم من قِبَل ابن طولون:-
تعرَّض الطبيب ابن توفيل لظُلمٍ من الأمير ابن طولون، وهو الأمر الذي كلَّف الأول حياته.
فقد رفض ابن طولون تنسيب سعيد بن توفيل ابن الأخير ليقوم على خدمة الحرم، وذلك لأنه جميل الصورة، فقدَّم له شخصاً بديلاً يُدعى هاشماً وقد كان يساعد سعيد ويخدم بغلته ويمسكها له إذا دخل دار ابن طولون، كما كان يستعين بهاشم لسحق الأدوية بداره وذلك لعمل التركيبات، وكان يُعينه كذلك في نفخ النار على المطبوخات، وهو ما تم حيث تم قبوله للعمل في خدمة حرم الأمير.
وفي أحد الأيام؛ قال أحمد لهاشم: إن سعيدًا قد حماني من شهر عن لقمة عصيدة وأنا أشتهيها قال هاشم ( وهو غير مختص ولا طبيب) يا سيدي: أخطأ سعيد وهي مغذية ولها أثرٌ حميد فيك.
فتقدم أحمد بن طولون بإصلاحها فجيء منها بجام واسع فأكل أكثره وطاب نفسًا ببلوغ شهوته ونام ولحجت العصيدة فتوهم أن حاله زادت صلاحاً، وكل هذا يطوى عن سعيد بن توفيل، ولما حضر الأخير قال له ابن طولون ما تقول في العصيدة؟ قال: هي ثقيلة على الأعضاء وتحتاج أعضاء الأمير إلى تخفيف عنها، فقال له أحمد: دعني من هذه المخرقة قد أكلتها ونفعتني والحمد للّه،
وجيء بفاكهة من الشام فسأل ابن طولون ابن توفيل عن السَّفرجل فقال له: تمصّ منه على خلو المعدة والأحشاء فإنه نافع، فلما خرج سعيد من عنده أكل أحمد سفرجلًا فوجد السفرجل العصيدة فعصرها فتدافع الإسهال، فدعا سعيدًا فقال يا ابن الفاعلة ذكرت أن السفرجل نافع لي وقد عاد إلي الإسهال، فقام فنظر المادة ورجع إليه فقال: هذه العصيدة التي حمدتها وذكرت أني غلطت في منعها فإنها لم تزل مقيمة في الأحشاء لا تطيق تغييرها ولا هضمها لضعف قواها، حتى عصرها السفرجل، ولم أكن أطلقت لك أكله، وإنما أشرت بمصِّه، ثم سأله عن المقدار ما أكل منه فقال سفرجلتين، فقال سعيد أكلت السفرجل للشبع ولم تأكله للعلاج، فقال يا ابن الفاعلة جلست تنادرني وأنت صحيح سوي، وأنا عليل مدنف، ثم دعا بالسياط فضربه مائتي سوط وطاف به على جمل، ونودي عليه هذا جزاء من ائتمن فخان، ونهب الأولياء منزله ومات بعد يومين، وذلك في سنة تسع وستين ومائتين بمصر، وقيل: في سنة تسع وسبعين ومائتين.
اقرأ ايضا ما الطعام الذي ينصحك ابن سينا بتناوله؟
سيطرة غير المسلمين على المجال الطبي:-
لم يكن سعيد بن توفيل الطبيب النصراني أو غير المسلم الوحيد في بلاط أصحاب القرار في الدول الإسلامية المتتابعة، إذ أن الملاحظ أن الفترة الممتدة منذ بداية العصر الأموي وحتى النصف الأول من العهد العباسي على الأقل، قد شهد سيطرتهم على هذه المهنة التي تجعل منهم مؤثرين على أصحاب القرار، لا بل إنَّ الأمر استمر إلى عهد الدولة الأيوبية، فقد كان أطباء صلاح الدين بن أيوب من اليهود (موسى بن ميمون، الموفق بن شوعة الإسرائيلي ، سلامة بن رحمون بن موسى..).
ففي العصر الأموي؛ سطع نجم ابن أثال المسيحي طبيب معاوية بن أبي سفيان، و تياذوق النصراني طبيب الحجاج بن يوسف الثقفي، كما كان ماسرجويه اليهودي أشهر أطباء البصرة في عصر الخليفة عمر بن عبد العزيز.
وفي العصر العباسي، برز الطبيب والصيدلي حبيش بن الأعسم الدمشقي النصراني، وخاله الشهير حنين بن إسحاق ونجل الأخير إسحاق بن حنين، بالإضافة إلى يوحنا بن ماسويه الطبيب السرياني الذي عهد إليه هارون الرشيد بترجمة الكتب القديمة، كما برز فرات بن شحناثا اليهودي، وهناك الكثير من الأسماء التي لا يتسع المقام لذكرها وخصوصاً أفراد أسرة بختيشوع المسيحية السريانية التي نهلت أجيالها الأولى من علوم مدرسة جنديسابور الطبية (الأحواز في إيران اليوم) .
المصادر:-
- أنباء الحكماء، القفطي.
- طبقات الأطباء، ابن أبي أصيبعة.