اسمه ونشأته:-
حُنَيْن بن إسحاق، أبو زيد العِبَادي، طبيب مؤرِّخ ومترجم، من نصارى الحيرة في العراق، وُلِدَ في الحيرة سنة 194هـ، كان أبوه صيدلانياً.
مكانة حنين بن إسحاق العلمية:–
كان حنين بن إسحاق فصيحاً، بارعاً، شاعراً، انتقل مع أبيه إلى البصرة، وفيها تتلمذ في اللغة العربية على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي.
ثم بعد ذلك انتقل إلى بغداد واشتغل بصناعة الطب، وأول ما حصَّل من الاجتهاد والعناية في مهنة الطب هو أنه كان يجلس عند الطبيب يحيى بن ماسويه، وكان مجلسه مشهوراً بالتصدي لتعليم صناعة الطب، وكان يجتمع فيه أصناف أهل الأدب، فلازم يحيى بن ماسويه، وتتلمذ على يديه له، واشتغل عليه بصناعة الطب، ونقل حُنَيْن لابن ماسويه كتباً كثيرة، وخصوصا من كتب جالينوس، بعضها إلى اللغة السريانية وبعضها إلى العربية.
وكان حنين بن إسحاق أعلم أهل زمانه باللغة اليونانية، والسريانية، والفارسية، وكانت له دراية فيهم مما لا يعرفه غيره من النقلة الذين كانوا في زمانه، بالإضافة إلى إتقانه للعربية والاشتغال، بها حتى صار من جملة المتميزين فيها، وانتهت إليه رياسة العلم باللغات بين المترجمين.
واتصل بالمأمون فجعله رئيساً
لديوان الترجمة، وجعل بين يديه كُتَّاباً بارعين في اللغات، كانوا يترجمون، ويتصفح
حُنَيْن ما ترجموا فيصلح ما يرى فيه خطأ.
وكان مهتماً بنقل الكتب الطبية وخصوصاً كتب جالينوس، حتى أنه في غالب الأمر لا يوجد شيء من كتب جالينوس إلا وهي بنقل حُنَيْن أو بإصلاحه لما نقل غيره، فلخص بذلك الكثير من كتب أبقراط وجالينوس وأوضح معانيها.
وفي ترجمة حنين عند كل من القفطي وابن ابي اصيبعة أن الخليفة المتوكل “جعل له كُتَّاباً نحارير عالمين بالترجمة يترجمون بين يديه وهو يتضفَّح ما ترجموا، وفي مقدمتهم أصطفن بن بسيل”.
وكان ماهراً في صناعة الكحل،
وله تصانيف مشهورة بالجودة فيها.
اهتم بالرحلات فرحل رحلات
كثيرة إلى فارس وبلاد الروم، وعاصر تسعة من الخلفاء، وكان يحفظ إلياذة هوميروس.
رؤية المأمون:-
رأى المأمون في منامه كأن شيخا بهي الشكل جالس على منبر وهو يخطب ويقول: أنا أرسطوطاليس، انتبه من منامه وسأل عن أرسطوطاليس، فقيل له: رجل حكيم من اليونانيين، فأحضر حُنَيْن بن إسحق؛ إذ لم يجد من يضاهيه في نقله، وكان فتي السن، وأمره بنقل ما يقدر عليه من كتب الحكماء اليونانيين إلى العربية، وإصلاح ما ينقله غيره، فامتثل لأمره، وبذل له من الأموال والعطايا شيئاً كثيراً، ورُوي عنه أن المأمون كان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربية مثلاً بمثل.
وسافر حُنَيْن بن إسحاق إلى
بلاد كثيرة، ووصل إلى أقصى بلاد الروم؛ لطلب الكتب التي قصد نقلها.
حنين بن إسحاق عند ابن العبري:-
سلَّط ابن العبري، في كتابه “تاريخ مختصر الدول” الضوء على المكانة التي حازها حنين بن إسحاق، كما تعرَّض أيضا لنشأة الطبيب المشهور.
وقال ابن العبري (المتوفى سنة 1286م) عن حُنين: “وفي ايام المتوكل؛ اُشتُهِر حنين بن إسحاق الطبيب النصراني العِبادي، ونسبته إلى العباد، وهم قوم من النصارى من قبائل شَتّى، اجتمعوا وانفردوا عن الناس في قصور ابتنوها بظاهر الحيرة، وسُموا العباد لأنه لا يضاف إلَّا إلى الخالق، وأما العبيد؛ فيضاف إلى المخلوق والخالق”.
وأضاف ابن العبري: وكان إسحاق والد حُنين صيدلانياً بالحيرة، فلمَّا نشأ حنين أحبَّ العلم، فدخل بغداد، وحضر مجلس يوحنا بن ماسويه وجعل يخدمه ويقرأ عليه”.
وزاد”وكان حنين صاحب سؤال، وكان يصعُبُ على يوحنا، فسأله حنين في بعض الأيام مسألة مستفهم فحَرِد يوحنا وقال: ما لأهل الحيرة والطب، عليكَ ببيع الفلوس على الطريق، وأمر به فأُخرِج من داره، فخرج باكياً وتوجَّه إلى بلاد الرُّوم وأقام بها سنتين حتى أحكم اللغة اليونانية وتوصَّل في تحصيل كتب الحكمة غاية إمكانه وعاد إلى بغداد بعد سنتين، ونهض من بغداد إلى أرض فارس ودخل البصرة ولزم الخليل بن أحمد حتى برع في اللسان العربي ثم رجع إلى بغداد”. ولم يزل أمر حنين يقوى وعلمه يتزايد وعجائبه تظهر في النقل والتفاسير؛ حتى صار ينبوعاً للعلوم ومعدنا للفضائل واتصل خبره بالخليفة المتوكل فأمر بإحضاره، ولمَّا حضر؛ أُقطِعَ اقطاعاً سنيا وقُرِّرَ له جارٍ جيد.
حنين بن إسحاق والواثق بالله:-
سأل الخليفة العباسي الواثق بالله؛ حنين بن إسحاق -أثناء جلوسه مع الخليفة بصحبة مجموعة من الأطباء من بينهم يوحنا بن ماسويه وابن بختيشوع وسلمويه- ما أول آلات الغذاء من الإنسان؟
فأجاب حنين: أول الآت الغذاء من الإنسان الفم، وفيه الأسنان، والأسنان اثنتان وثلاثون سناً، ومنها اللحي الأعلى ستة عشر سناً، وفي اللحي الأسفل كذلك..
وزاد ..”ومن ذلك أربعة في كل واحد من اللحيين عِراض محددة الأطراف تسميها الأطراف من اليونانيين القواطع، وذلك أن بها يقطع ما يحتاج إلى قطعه من الأطعمة اللينة، كما يقطع هذا النوع من المأكول بالسكين، وهي الثنايا والرَّباعيات، وعن جنبي هذه الأربعة في كل واحد من اللحيين سنانٍ رؤوسهما حادَّةٌ وأصولهما عريضة، وهي الأنياب، وبها يكسر كل ما يحتاج إلى تكسيره من الأشياء الصلبة مما يؤكل”..
” وعن جنبي النابين في كل واحد من اللَّحيين خمس أسنان أخر عوارض خشن، وهي الأضراس، ويسمها اليونانيون الطواحن، لأنها تطحن ما يحتاج إلى طحنه مما يؤكل، وكل واحد من الثنايا والرَّباعيات والأنياب له أصل واحد”
” وأما الأضراس؛ فما كان منها في اللَّحي الأعلى فله ثلاثة أصول، خلا الضرسين الأقصيين، فأنه ربما كان لكل واحد منهما أصول أربعة، وما كان من الأضراس في اللحي الأسفل، فلكل واحد منها أصلان، خلا الضرسين الأقصيين، فإنه ربما كان لكل واحد منهما أصول ثلاثة، وإنما احتيج إلى كثرة أصول الأضراس دون سائر الأسنان لشدة قوة العمل بها، وخضت العليا منها بالزيادة في الأصول، لتعلقها بأعلى الفم”.
قال الواثق بالله: ” أحسنت فيما ذكرت من هذه الآلات، فصنِّف لي كتابا تذكر فيه جميع ما يحتاج غلى معرفته من ذلك، فصنَّف له كتاباً جعله ثلاث مقالات، يذكر فيه الفرق بين الغذاء والدواء والمسهل والآت الجسد.
جاءت هذه الرواية عند المسعودي في كتابه الشهير “مروج الذهب”، والذي ذكر بأن الواثق بالله كان محباً للنظر، مكرماً لأهله، مبغضاً للتقليد وأهله، محباً للإشراف على علوم الناس وآرائهم، ممن تقدم وتأخر من الفلاسفة.
حنين بن إسحاق والمتوكِّل:-
بعد وفاة الخليفة الواثق العباسي سنة 847 م؛ جاء بعده المتوكل على الله والذي حَكَمَ لغاية سنة 862 م، حيث أغتيل على يد الترك بالتعاون مع ابنه المنتصر الذي خَلفَه في الحُكم.
ومع وصول المتوكل على الله إلى سُدَّة الحُكُم؛ ارتقت مكانة حُنين بن إسحاق في البلاط العباسي، وفيما يلي بعض الإضاءات التي ذكرها المؤرخ ابن العبري عن العلاقة فيما بينهما:
- ولم يزَل أمر حُنين يقوى وعلمهُ يتزايد وعجائبه تظهر في النقل والتفاسير حتى صار ينبوعاً للعلوم ومعدناً للفضائل واتصل خبره بالخليفة المتوكِّل فأمر بإحضاره، ولمَّا حضر؛ أُقطِعَ إقطاعاً سنياً وقُرِّرَ لهُ جارٍ جيد.
- وقد أحبَّ المتوكل اختبار حُنين ليزول عنه ما في نفسه عليهِ إذ ظنَّ أنَّ ملكَ الرُّوم ربما كان عمل شيئاً من الحيلة فاستدعاهُ وأمر أن يُخلعَ عليهِ وأخرج له توقيعاً فيه إقطاع يشتمل على خمسين ألف درهم، فشَكَرَ حُنين على هذا الفعل.
ثم قال المتوكل لحُنين بعد أشياء جَرَت: أريد أن تصِف لي دواءً يقتل عدواً نريد قتله وليس يمكن إشهار هذا ونريدهُ سِرَّاً، فقال حُنين: ما تعلمَّتُ غير الأدوية النافعة ولا علمتُ أن أميرَ المؤمنين يطلب مني غيرها، فإنَّ أحبَّ أن أمضي وأتعلم فَعَلت، فقال: هذا شيء يطول بنا، ثمَّ رغَّبهُ وهدَّدهُ وحبسهُ في بعض القلاع سنةً ثم أحضرهُ وأعاد عليه القول، وأحضَرَ سيفاً ونطعاً، فقال حُنين: قد قُلتُ لأمير المؤمنين ما فيه الكفاية، قال الخليفة: فإنني أقتلك، قال حُنين: لي ربّ يأخذ حقي غداً في الموقِف الأعظم، فتبسَّم المتوكِّل، وقال له: طِب نفساً فإننا أردنا امتحانك والطمأنينة إليك، فقبَّلَ حُنين الأرض وشكر لهُ.
فقال له الخليفة: ما الذي مَنَعَكَ من الإجابة مع ما رأيتهُ من صِدق الأمر منَّا في الحالتين، قال حُنين: شيئان هُما الدين والصِّناعة، أمَّا الدين فإنهُ يأمرنا باصطناع الجميل مع أعدائنا فكيفَ ظنُّكَ بالأصدقاء، وأمَّا الصِّناعة؛ فإنِّها موضوعة لنفعِ أبناء الجِنس ومقصورة على معالجاتهم، ومع هذا فقد جَعَلَ في رِقابِ الأطباء عهد مؤكد بإيمان مُغلَّظة أن لا يعطوا دواءً قتَّالاً لأحد، فقال الخليفة: إنهما شرعان جليلان، وأمَرَ بالخلع فأفيضت عليه وحَمَل المال معهُ فَخَرَجَ وهو أحسن النَّاس حالاً وجاهاً.
- بسبب هذه المكانة عند المتوكِّل؛ فقد كان الطيفوري النصراني الكاتب يحسِد حُنيناً ويعاديه، واجتمع يوماً في دار بعض النصارى ببغداد، وهناك صورة المسيح والتلاميذ وقنديل يشتعل بين يدي الصورة، فقال حنين لصاحب البيت: لمَ تضيع الزيت فليس هذا المسيح ولا هؤلاء التلاميذ وإنَّما هيَ صُوَر، فقال الطيفوري: إن لم يستحقوا الإكرام؛ فابصُق عليهم، فبصَقَ فأشهَدَ عليه الطيفوري، ورفعهُ إلى المتوكِّل فسأله إباحة الحُكم لديانته النصرانية، فبعث إلى الجاثليق والأساقفة وسُئلوا عن ذلك فأوجبوا حِرمان حُنين، فحُرِم، وقطع زناره وانصرف حُنين إلى داره ومات من ليلته فجأة وقيل: إنَّه قتل نفسه سُمَّاً.
أولاد حنين بن إسحاق:-
كان له ولدان داود وإسحاق، صنف لهما كتباً طبية في المبادئ والتعليم، ونقل لهما كتباً كثيرة من كتب جالينوس، فأما داود؛ فلم يكن له شهرة بين الأطباء، ولا يوجد له من الكتب ما يدل على براعته وعلمه سوى كُنَّاش واحد.
وأما إسحاق بن حنين؛ فطبيب مشهور ومتميز في صناعة الطب كأبيه، وله تصانيف كثيرة، ونقل من الكتب اليونانية إلى اللغة العربية كتباً كثيرةً، إلا أن جل عنايته كانت مصروفة إلى نقل الكتب الحكمية؛ مثل كتب أرسطوطاليس، وغيره من الحكماء.
أقوال العلماء فيه:-
قال الذهبي في وصف حنين بن إسحاق : “شيخ الأطباء بالعراق، ومعرب الكتب اليونانية، ومؤلف الرسائل المشهورة”.
قال عنه القفطي: ” .. كان طبيباً حَسَن النَّظر في التأليف والعِلاج، ماهِراً في صِناعة الكُحل، وقعََد في جمُلة المُترجمين لكُتب الحكمة واستخراجها إلى السرياني وإلى العربي، وكان فَصِيحاً في اللِّسان اليوناني وفي اللِّسان العربي، بارعاً، شاعراً، فصيحاً، لَسِناً”.
كتبه:-
يوجد العديد من الكتب التي قام بها حنين بن إسحاق ومترجمات كثيرة تزيد على مئة؛ منها
- تاريخ العالم والمبدأ والأنبياء والملوك والأمم، إلى
زمنه. - الفصول الأبقراطية، في الطب.
- سلامان وأبسال: قصة مترجمة عن اليونانية.
- القول في حفظ الأسنان واستصلاحها.
- الضوء وحقيقته: رسالة كتبها بالسريانية وترجمها إلى
العربية ابن هلال الصابئ. - حلية البرء: كتاب مما ترجمه عن جالينوس.
- التشريح الكبير: عن جالينوس أيضاً.
- المدخل إلى علم الروحانيات.
- المسائل في الطب للمتعلمين.
- المسائل في العين: كتاب على طريقة سؤال وجواب.
- العشر مقالات في العين: وهو من أشهر كتبه الطبية.
- الأدوية المفردة.
- قوى الأغذية: ترجمه عن جالينوس.
- تدبير الأصحاء: عن جالينوس أيضاً.
وفاته:-
توفي حنين بن إسحاق في بغداد سنة 260هـ.
المصادر:–
- الأعلام (2/287).
- مروج الذهب.
- إخبار العلماء بأخبار الحكماء، القفطي.
- تاريخ مختصر الدول لابن العبري.
- العصر العباسي الثاني، شوقي ضيف.
- العبر في خبر من غبر (1/373).
- عيون الأنباء في طبقات الأطباء (257).
- موسوعة علماء الطب مع اعتناء خاص بالأطباء العرب (139/رقم 154).
اسمه ونشأته:-
حُنَيْن بن إسحاق، أبو زيد العِبَادي، طبيب مؤرِّخ ومترجم، من نصارى الحيرة في العراق، وُلِدَ في الحيرة سنة 194هـ، كان أبوه صيدلانياً.
مكانة حنين بن إسحاق العلمية:–
كان حنين بن إسحاق فصيحاً، بارعاً، شاعراً، انتقل مع أبيه إلى البصرة، وفيها تتلمذ في اللغة العربية على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي.
ثم بعد ذلك انتقل إلى بغداد واشتغل بصناعة الطب، وأول ما حصَّل من الاجتهاد والعناية في مهنة الطب هو أنه كان يجلس عند الطبيب يحيى بن ماسويه، وكان مجلسه مشهوراً بالتصدي لتعليم صناعة الطب، وكان يجتمع فيه أصناف أهل الأدب، فلازم يحيى بن ماسويه، وتتلمذ على يديه له، واشتغل عليه بصناعة الطب، ونقل حُنَيْن لابن ماسويه كتباً كثيرة، وخصوصا من كتب جالينوس، بعضها إلى اللغة السريانية وبعضها إلى العربية.
وكان حنين بن إسحاق أعلم أهل زمانه باللغة اليونانية، والسريانية، والفارسية، وكانت له دراية فيهم مما لا يعرفه غيره من النقلة الذين كانوا في زمانه، بالإضافة إلى إتقانه للعربية والاشتغال، بها حتى صار من جملة المتميزين فيها، وانتهت إليه رياسة العلم باللغات بين المترجمين.
واتصل بالمأمون فجعله رئيساً
لديوان الترجمة، وجعل بين يديه كُتَّاباً بارعين في اللغات، كانوا يترجمون، ويتصفح
حُنَيْن ما ترجموا فيصلح ما يرى فيه خطأ.
وكان مهتماً بنقل الكتب الطبية وخصوصاً كتب جالينوس، حتى أنه في غالب الأمر لا يوجد شيء من كتب جالينوس إلا وهي بنقل حُنَيْن أو بإصلاحه لما نقل غيره، فلخص بذلك الكثير من كتب أبقراط وجالينوس وأوضح معانيها.
وفي ترجمة حنين عند كل من القفطي وابن ابي اصيبعة أن الخليفة المتوكل “جعل له كُتَّاباً نحارير عالمين بالترجمة يترجمون بين يديه وهو يتضفَّح ما ترجموا، وفي مقدمتهم أصطفن بن بسيل”.
وكان ماهراً في صناعة الكحل،
وله تصانيف مشهورة بالجودة فيها.
اهتم بالرحلات فرحل رحلات
كثيرة إلى فارس وبلاد الروم، وعاصر تسعة من الخلفاء، وكان يحفظ إلياذة هوميروس.
رؤية المأمون:-
رأى المأمون في منامه كأن شيخا بهي الشكل جالس على منبر وهو يخطب ويقول: أنا أرسطوطاليس، انتبه من منامه وسأل عن أرسطوطاليس، فقيل له: رجل حكيم من اليونانيين، فأحضر حُنَيْن بن إسحق؛ إذ لم يجد من يضاهيه في نقله، وكان فتي السن، وأمره بنقل ما يقدر عليه من كتب الحكماء اليونانيين إلى العربية، وإصلاح ما ينقله غيره، فامتثل لأمره، وبذل له من الأموال والعطايا شيئاً كثيراً، ورُوي عنه أن المأمون كان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربية مثلاً بمثل.
وسافر حُنَيْن بن إسحاق إلى
بلاد كثيرة، ووصل إلى أقصى بلاد الروم؛ لطلب الكتب التي قصد نقلها.
حنين بن إسحاق عند ابن العبري:-
سلَّط ابن العبري، في كتابه “تاريخ مختصر الدول” الضوء على المكانة التي حازها حنين بن إسحاق، كما تعرَّض أيضا لنشأة الطبيب المشهور.
وقال ابن العبري (المتوفى سنة 1286م) عن حُنين: “وفي ايام المتوكل؛ اُشتُهِر حنين بن إسحاق الطبيب النصراني العِبادي، ونسبته إلى العباد، وهم قوم من النصارى من قبائل شَتّى، اجتمعوا وانفردوا عن الناس في قصور ابتنوها بظاهر الحيرة، وسُموا العباد لأنه لا يضاف إلَّا إلى الخالق، وأما العبيد؛ فيضاف إلى المخلوق والخالق”.
وأضاف ابن العبري: وكان إسحاق والد حُنين صيدلانياً بالحيرة، فلمَّا نشأ حنين أحبَّ العلم، فدخل بغداد، وحضر مجلس يوحنا بن ماسويه وجعل يخدمه ويقرأ عليه”.
وزاد”وكان حنين صاحب سؤال، وكان يصعُبُ على يوحنا، فسأله حنين في بعض الأيام مسألة مستفهم فحَرِد يوحنا وقال: ما لأهل الحيرة والطب، عليكَ ببيع الفلوس على الطريق، وأمر به فأُخرِج من داره، فخرج باكياً وتوجَّه إلى بلاد الرُّوم وأقام بها سنتين حتى أحكم اللغة اليونانية وتوصَّل في تحصيل كتب الحكمة غاية إمكانه وعاد إلى بغداد بعد سنتين، ونهض من بغداد إلى أرض فارس ودخل البصرة ولزم الخليل بن أحمد حتى برع في اللسان العربي ثم رجع إلى بغداد”. ولم يزل أمر حنين يقوى وعلمه يتزايد وعجائبه تظهر في النقل والتفاسير؛ حتى صار ينبوعاً للعلوم ومعدنا للفضائل واتصل خبره بالخليفة المتوكل فأمر بإحضاره، ولمَّا حضر؛ أُقطِعَ اقطاعاً سنيا وقُرِّرَ له جارٍ جيد.
حنين بن إسحاق والواثق بالله:-
سأل الخليفة العباسي الواثق بالله؛ حنين بن إسحاق -أثناء جلوسه مع الخليفة بصحبة مجموعة من الأطباء من بينهم يوحنا بن ماسويه وابن بختيشوع وسلمويه- ما أول آلات الغذاء من الإنسان؟
فأجاب حنين: أول الآت الغذاء من الإنسان الفم، وفيه الأسنان، والأسنان اثنتان وثلاثون سناً، ومنها اللحي الأعلى ستة عشر سناً، وفي اللحي الأسفل كذلك..
وزاد ..”ومن ذلك أربعة في كل واحد من اللحيين عِراض محددة الأطراف تسميها الأطراف من اليونانيين القواطع، وذلك أن بها يقطع ما يحتاج إلى قطعه من الأطعمة اللينة، كما يقطع هذا النوع من المأكول بالسكين، وهي الثنايا والرَّباعيات، وعن جنبي هذه الأربعة في كل واحد من اللحيين سنانٍ رؤوسهما حادَّةٌ وأصولهما عريضة، وهي الأنياب، وبها يكسر كل ما يحتاج إلى تكسيره من الأشياء الصلبة مما يؤكل”..
” وعن جنبي النابين في كل واحد من اللَّحيين خمس أسنان أخر عوارض خشن، وهي الأضراس، ويسمها اليونانيون الطواحن، لأنها تطحن ما يحتاج إلى طحنه مما يؤكل، وكل واحد من الثنايا والرَّباعيات والأنياب له أصل واحد”
” وأما الأضراس؛ فما كان منها في اللَّحي الأعلى فله ثلاثة أصول، خلا الضرسين الأقصيين، فأنه ربما كان لكل واحد منهما أصول أربعة، وما كان من الأضراس في اللحي الأسفل، فلكل واحد منها أصلان، خلا الضرسين الأقصيين، فإنه ربما كان لكل واحد منهما أصول ثلاثة، وإنما احتيج إلى كثرة أصول الأضراس دون سائر الأسنان لشدة قوة العمل بها، وخضت العليا منها بالزيادة في الأصول، لتعلقها بأعلى الفم”.
قال الواثق بالله: ” أحسنت فيما ذكرت من هذه الآلات، فصنِّف لي كتابا تذكر فيه جميع ما يحتاج غلى معرفته من ذلك، فصنَّف له كتاباً جعله ثلاث مقالات، يذكر فيه الفرق بين الغذاء والدواء والمسهل والآت الجسد.
جاءت هذه الرواية عند المسعودي في كتابه الشهير “مروج الذهب”، والذي ذكر بأن الواثق بالله كان محباً للنظر، مكرماً لأهله، مبغضاً للتقليد وأهله، محباً للإشراف على علوم الناس وآرائهم، ممن تقدم وتأخر من الفلاسفة.
حنين بن إسحاق والمتوكِّل:-
بعد وفاة الخليفة الواثق العباسي سنة 847 م؛ جاء بعده المتوكل على الله والذي حَكَمَ لغاية سنة 862 م، حيث أغتيل على يد الترك بالتعاون مع ابنه المنتصر الذي خَلفَه في الحُكم.
ومع وصول المتوكل على الله إلى سُدَّة الحُكُم؛ ارتقت مكانة حُنين بن إسحاق في البلاط العباسي، وفيما يلي بعض الإضاءات التي ذكرها المؤرخ ابن العبري عن العلاقة فيما بينهما:
- ولم يزَل أمر حُنين يقوى وعلمهُ يتزايد وعجائبه تظهر في النقل والتفاسير حتى صار ينبوعاً للعلوم ومعدناً للفضائل واتصل خبره بالخليفة المتوكِّل فأمر بإحضاره، ولمَّا حضر؛ أُقطِعَ إقطاعاً سنياً وقُرِّرَ لهُ جارٍ جيد.
- وقد أحبَّ المتوكل اختبار حُنين ليزول عنه ما في نفسه عليهِ إذ ظنَّ أنَّ ملكَ الرُّوم ربما كان عمل شيئاً من الحيلة فاستدعاهُ وأمر أن يُخلعَ عليهِ وأخرج له توقيعاً فيه إقطاع يشتمل على خمسين ألف درهم، فشَكَرَ حُنين على هذا الفعل.
ثم قال المتوكل لحُنين بعد أشياء جَرَت: أريد أن تصِف لي دواءً يقتل عدواً نريد قتله وليس يمكن إشهار هذا ونريدهُ سِرَّاً، فقال حُنين: ما تعلمَّتُ غير الأدوية النافعة ولا علمتُ أن أميرَ المؤمنين يطلب مني غيرها، فإنَّ أحبَّ أن أمضي وأتعلم فَعَلت، فقال: هذا شيء يطول بنا، ثمَّ رغَّبهُ وهدَّدهُ وحبسهُ في بعض القلاع سنةً ثم أحضرهُ وأعاد عليه القول، وأحضَرَ سيفاً ونطعاً، فقال حُنين: قد قُلتُ لأمير المؤمنين ما فيه الكفاية، قال الخليفة: فإنني أقتلك، قال حُنين: لي ربّ يأخذ حقي غداً في الموقِف الأعظم، فتبسَّم المتوكِّل، وقال له: طِب نفساً فإننا أردنا امتحانك والطمأنينة إليك، فقبَّلَ حُنين الأرض وشكر لهُ.
فقال له الخليفة: ما الذي مَنَعَكَ من الإجابة مع ما رأيتهُ من صِدق الأمر منَّا في الحالتين، قال حُنين: شيئان هُما الدين والصِّناعة، أمَّا الدين فإنهُ يأمرنا باصطناع الجميل مع أعدائنا فكيفَ ظنُّكَ بالأصدقاء، وأمَّا الصِّناعة؛ فإنِّها موضوعة لنفعِ أبناء الجِنس ومقصورة على معالجاتهم، ومع هذا فقد جَعَلَ في رِقابِ الأطباء عهد مؤكد بإيمان مُغلَّظة أن لا يعطوا دواءً قتَّالاً لأحد، فقال الخليفة: إنهما شرعان جليلان، وأمَرَ بالخلع فأفيضت عليه وحَمَل المال معهُ فَخَرَجَ وهو أحسن النَّاس حالاً وجاهاً.
- بسبب هذه المكانة عند المتوكِّل؛ فقد كان الطيفوري النصراني الكاتب يحسِد حُنيناً ويعاديه، واجتمع يوماً في دار بعض النصارى ببغداد، وهناك صورة المسيح والتلاميذ وقنديل يشتعل بين يدي الصورة، فقال حنين لصاحب البيت: لمَ تضيع الزيت فليس هذا المسيح ولا هؤلاء التلاميذ وإنَّما هيَ صُوَر، فقال الطيفوري: إن لم يستحقوا الإكرام؛ فابصُق عليهم، فبصَقَ فأشهَدَ عليه الطيفوري، ورفعهُ إلى المتوكِّل فسأله إباحة الحُكم لديانته النصرانية، فبعث إلى الجاثليق والأساقفة وسُئلوا عن ذلك فأوجبوا حِرمان حُنين، فحُرِم، وقطع زناره وانصرف حُنين إلى داره ومات من ليلته فجأة وقيل: إنَّه قتل نفسه سُمَّاً.
أولاد حنين بن إسحاق:-
كان له ولدان داود وإسحاق، صنف لهما كتباً طبية في المبادئ والتعليم، ونقل لهما كتباً كثيرة من كتب جالينوس، فأما داود؛ فلم يكن له شهرة بين الأطباء، ولا يوجد له من الكتب ما يدل على براعته وعلمه سوى كُنَّاش واحد.
وأما إسحاق بن حنين؛ فطبيب مشهور ومتميز في صناعة الطب كأبيه، وله تصانيف كثيرة، ونقل من الكتب اليونانية إلى اللغة العربية كتباً كثيرةً، إلا أن جل عنايته كانت مصروفة إلى نقل الكتب الحكمية؛ مثل كتب أرسطوطاليس، وغيره من الحكماء.
أقوال العلماء فيه:-
قال الذهبي في وصف حنين بن إسحاق : “شيخ الأطباء بالعراق، ومعرب الكتب اليونانية، ومؤلف الرسائل المشهورة”.
قال عنه القفطي: ” .. كان طبيباً حَسَن النَّظر في التأليف والعِلاج، ماهِراً في صِناعة الكُحل، وقعََد في جمُلة المُترجمين لكُتب الحكمة واستخراجها إلى السرياني وإلى العربي، وكان فَصِيحاً في اللِّسان اليوناني وفي اللِّسان العربي، بارعاً، شاعراً، فصيحاً، لَسِناً”.
كتبه:-
يوجد العديد من الكتب التي قام بها حنين بن إسحاق ومترجمات كثيرة تزيد على مئة؛ منها
- تاريخ العالم والمبدأ والأنبياء والملوك والأمم، إلى
زمنه. - الفصول الأبقراطية، في الطب.
- سلامان وأبسال: قصة مترجمة عن اليونانية.
- القول في حفظ الأسنان واستصلاحها.
- الضوء وحقيقته: رسالة كتبها بالسريانية وترجمها إلى
العربية ابن هلال الصابئ. - حلية البرء: كتاب مما ترجمه عن جالينوس.
- التشريح الكبير: عن جالينوس أيضاً.
- المدخل إلى علم الروحانيات.
- المسائل في الطب للمتعلمين.
- المسائل في العين: كتاب على طريقة سؤال وجواب.
- العشر مقالات في العين: وهو من أشهر كتبه الطبية.
- الأدوية المفردة.
- قوى الأغذية: ترجمه عن جالينوس.
- تدبير الأصحاء: عن جالينوس أيضاً.
وفاته:-
توفي حنين بن إسحاق في بغداد سنة 260هـ.
المصادر:–
- الأعلام (2/287).
- مروج الذهب.
- إخبار العلماء بأخبار الحكماء، القفطي.
- تاريخ مختصر الدول لابن العبري.
- العصر العباسي الثاني، شوقي ضيف.
- العبر في خبر من غبر (1/373).
- عيون الأنباء في طبقات الأطباء (257).
- موسوعة علماء الطب مع اعتناء خاص بالأطباء العرب (139/رقم 154).