اسمه ونشأته:-
جعفر بن محمد بن عمر، أبو معشر البلخي ، الفلكي المشهور، وُلِدَ في بَلْخ الأفغانية سنة 171هـ.
مكانته العلمية:-
كان أولاً من أصحاب الحديث، وتعلم الفلك بعد 47 سنة من عمره، وأصبح لا مثيل له في وقته، حتى حُكِيَ أنه كان إمام وقته في علم الفلك، درس الفلكين الهندي والفارسي بالذات، وانغمس في شؤون التقويم والتنجيم، وفي الخمسين من عمره، تحول إلى دراسة الجغرافيا، وهو من أوائل من ربطوا بين ظواهر المد والجزر وحركة القمر، وقد أنشأ البلخي زيج (قلعة كتكز) الملقب بزيج (الهزارات)، والذي يمر خط نصف نهاره بهذه القلعة.
وكان أعلم الناس بتاريخ
الفرس وأخبار سائر الأمم.
وكان يعرف عند الغربيين في
العصور الوسطى باسم (ألبوماسر) Albomasar، كان باتيستا بورنا (المتوفى 1606م) هو أول
من وضع عنه مسرحية تدور حول أعماله في التنجيم.
نوادره:-
له إصابات حسنة في أحكام النجوم مذكورة بين العلماء بهذا النوع، وقد ضربه المستعين العباسي أسواطاً؛ لأنه أخبر بشيءٍ قبل حدوثه فحَدَثَ، فكان يقول: أصبت فعوقبت! وكان متصلاً بخدمة بعض الملوك، وطلب ذلك الملك رجلاً من أتباعه وأكابر دولته ليعاقبه بسبب جريمة صدرت منه، فاستخفى، وعلم أن أبا معشر يدل عليه بالطرائق التي يستخرج بها الخبايا والأشياء الكامنة، فأراد أن يعمل شيئاً لا يهتدي إليه ويبعد عنه حسه، فأخذ طستاً وجعل فيه دماً وجعل في الدم هاون ذهب، وقعد على الهاون أياماً، وطلب الملك ذلك الرجل وبالغ في التطلب، فلما عجز عنه أحضر أبا معشر، وقال له: تعرفني موضعه بما جرت عادتك به، فعمل المسألة التي يستخرج بها الخبايا، وسكت زماناً حائراً.
فقال له الملك: ما سبب سكوتك وحيرتك؟ قال: أرى شيئاً عجيباً، فقال: وما هو قال: أرى الرجل المطلوب على جبل من ذهب والجبل في بحر من دم، ولا أعلم في العالم موضعاً من البلاد على هذه الصفة، فلما أيس الملك من القدرة عليه بهذا الطريق نادى في البلد بالأمان للرجل ولمن أخفاه، فلما اطمأن الرجل ظهر وحضر بين يدي الملك، فسأله عن الموضع الذي كان فيه، فأخبره بما فعل، فأعجبه حسن احتياله في إخفاء نفسه، ولطافة أبي معشر البلخي في استخراجه.
أبو معشر البلخي ومدَّعي النبوَّة:-
قال أبو معشر : أخبرني محمد بن موسى المنجِّم الجليس وليس بالخوارزمي، قال: حدَّثني يحيى بن منصور، قال: دخلتُ إلى المأمون وعِندهُ جماعة من المنجِّمين وعنده رجلٌ يدَّعي النبوة، وقد دعا له الخليفة العباسي بالعاصمي ولم يحضر بعد ونحن لا نعلم.
فقال لي (محمد بن موسى عن ابن منصور) ولمن حضر من المنجِّمين : إذهبوا وخُذوا الطَّالع لدعوى الرَّجل في شيءٍ يدَّعيه وعرَّفوني ما يدلُّ عليه الفَلَك من صدقه وكِذبه، ولم يُعلمنا المأمون أنه متنبئ.
قال الرواي: فحملنا إلى بعض تلك الصحون فأحكمنا أمر الطَّالِع وصوَّرنا موضِعَ الشَّمس والقمر في دقيقة واحدة، وسهم السَّعادة منهم وسهم الغيب في دقيقة واحدة مع دقيقة الطَّالِع والطالع الجدي والمشتري في السُّنبلة ينظر إليه، وعُطارِد في العقرب ينظران إليه.
فقال كل من حَضَرَ من القوم: ما يدَّعيه صحيح. وأنا ساكِت (ابن منصور)، فقال لي المأمون ما قُلتَ أنتَ، فقُلت: هو في طلب تصحيحه ولهُ حجَّة زهرية عُطاردية، وتصحيح الذي يدَّعيه لا يتمُّ له ولا ينتظم، فقال لي: من أين قلتَ هذا، قُلت : لأن صحة الدعاوي من المشتري ومن تثليث الشَّمس وتسديسها إذا كانت الشمس غير منحوسة، وهذا الطَّالع يخالفهُ لأنَّهُ هبوط المشتري، والأخير ينظر إليه نظَرَ موافقة، إلَا إنَّه كاره لهذا البُرج والبرج كاره له، فلا يتم التصديق والتصحيح، والذي قال: من حجَّة زهرية وعطاردية إنما هو ضَرب من التخمين والتزويق والخِداع يُتعَجَّب منهُ ويستحب.
فقال لي المأمون : أنتَ لله درُّك، ثم قال: أتدرون من الرَّجُل، قلنا له: لا ، قال: هذا يدَّعي النبوَّة، فقُلت: يا أمير المؤمنين أمعهُ شيء يحتجُّ به، فسأله، فقال: نعم، معي خاتم ذو فصَّين ألبسهُ فلا يتعيَّن منه شيءٌ يُحتَجُّ به ويلبسه غيري فيضحك ولا يتمالك من الضَّحِك حتى ينزعه، ومعي قلم شامي آخذه فأكتب به ويأخذه غيري فلا ينطلق اصبعه. فقلت : يا سيدي هذه الزُّهرة وعُطارِد قد عمِلا معاً، فأمَرَ المأمون بعمل ما ادَّعاه، فقلنا له ُ: هذا ضربٌ من الطَّلمسات، فما زال به الخليفة أياماً كثيرة حتى أقر وتبرأ من دعوة النبوَّة ووصف الحيلة التي احتالها في الخاتم والقلم، فوهب لهُ ألف دينار، فتلقيناه بعد ذلك، فإذا هو أعلم النَّاس بعلم التنجيم.
أبو معشر البلخي وسِر صنعة التنجيم في فارس:-
مما لا شك فيه بأن الفرس هم أصحاب إرث طويل في مجال التنجيم وعلوم الفلك، ولم يشُذ البلخي عن القاعدة التي اتسعت لتحوي مئات الأسماء التي سبقته وتلك التي شهدت العصر العباسي، حيث ساهم اعتناقها الإسلام في ازدهار هذا العلم في العراق ومحيطه، خصوصاً مع استفادة المسلمين من الترجمات العلمية التي كان منشؤها الهند واليونان أيضاً.
وهنا يروي أبو معشر قصَّة تظهر مقدار تأصل هذه العلوم في بلاد فارس، حيث يقول: إن طهمورث (من أقدم ملوك الفرس، والذي كثُرَت فيه الروايات والأساطير والخُرافات) كان قد أنذَرَ بحصول طوفان قبل موعده بمئتين وإحدى وثلاثين سنة، لذا؛ فقد أمرَ بتشييد قصر حصين، تم تسميته فيما بعد ساروية ضمن مدينة جيّ (قسم من مدينة أصفهان).
ثم أودعَ الملك المذكور في القصر الجديد، كتب علوم الأوائل المكتوبة على لحاء شجرٍ بالخطِّ الفارسي القديم، وذلك لضمان عدم تضرر هذه الكتب من جرَّاء الأمطار المنهمرة المنتظرة، لتبقى سليمة بعد انتهاء الطوفان، ليُصار إلى الاستفادة منها لاحقاً.
وقال أبو معشر في هذا الصدد: “إنه كان فيها كتاب منسوب إلى بعض الحكماء المتقدِّمين فيه سنون وأدوار معلومة لاستخراج أوساط الكواكب وعلل حركاتها، وإنَ أهل زمان طمورث وسائر من تقدَّمهم من الفرس كانوا يسمُّونها سني وأدوار الهزارات، وإن أكثر علماء الهند وملوكها الذين كانوا على وجه الدَّهر، وملوك الفرس الأولين، وقدماء الكلدانيين وهم سكان الأحوية من أهل بابل في الزمان الأول؛ إنما كانوا يستخرجون أوساط الكواكب من هذه السنين والأدوار، وأنه إنما اذَّخره من بين الزيجات التي كانت في زمانه لأنه وسائر من كان في ذلك الزمان وجدوه أصوبها كلها عند الامتحان وأشدَّها اختصاراً”.
استخراج الزيج سليماً:-
وزاد البلخي ” وكان المنجِّمون الذين كانوا مع رؤساء الملوك في ذلك الزَّمان استخرجوا منها زيجاً سمّوه زيج شهريار، ومعناه بالعربية ملك الزيجات ورئيسها، فكانوا يستعملون هذا الزِّيج دون زيجاتهم كلها فيما كان الملوك يريدونه من معرفة الأشياء التي تحدث في هذا العالم، فبقي هذا الاسم لزيج أهل فارس في قديم الدَّهر وحديثه وصارت حاله عند كثير من الأمم في ذلك الزَّمان إلى زماننا هذا أنّ الأحكام إنمَّا تصِحُ على الكواكب المقوَّمة منها”.
ويختم أبو معشر قائلاً: “إن زيج الشاه الذي يعمل عليه أصحاب الحساب في هذا الوقت (عهده) كان مدفوناً به، فلم يصله الماء، فاستُخرِجَ من بعدُ وصار أصلاً”.
أبو معشر البلخي وقصته مع الكندي:-
أورد ابن العبري في كتابه “تاريخ مختصر الدول” ما يفيد بعلاقة البغض التي نشأت بين أبي معشر والفيلسوف العربي يعقوب بن إسحاق الكندي.
وقال ابن العبري – المتوفى سنة 1286 م- :” وكان يضاغن أبا يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي ويغري به العامَّة ويُشنِّع عليه بعلوم الفلسفة، فدسَّ عليه الكندي من حسَّن لهُ النظر في علم الحساب والهندسة، فدخل في ذلك فلم يُكمل له، فعدل إلى علم أحكام النجوم وانقطع شرُّهُ عن الكندي”.
أبو معشر البلخي، سماته:-
- تعلَّم أحكام النجوم بعد سبع وأربعين سنة من عمره.
- كان فاضلاً، حسن القريحة، فائق الذكاء.
- اشتهر بمعاقرة الخمر، وكان يعتريه صرعٌ عند أوقات الامتلاءات القمرية.
كتب البلخي:-
- الزِّيْج، وهنا يقول حاجي خليفة إن: زيج أبا معشر “مجلدٌ كبيرٌ على مذهب الفرس وأثنى على هذا المذهب، وقال: إن أهل الحساب من فارس وغيره؛ أجمعوا على أنَّ أصح الأدوار، أدوار هذه الفرقة، وكانوا يسمُّونها سني العالم، وإنَّما أهل زماننا؛ فيسمونها سني أهل فارس”.
- مواليد الرجال والنساء.
- القرَانَات.
- طَبَائِعِ البُلْدَانِ.
- المدخل الكبير، ترجم إلى اللاتينية ونُشِر بها.
- الألوف في بيوت العبادات.
- الكتاب في التمام والكمال.
- الدول والملل.
- الملاحم.
- هيئة الفلك.
- الأمطار والرياح.
- إثبات علم النجوم.
- الاختيارات في الأعمال والحوائج من أمور السلاطين.
وفاة البلخي:-
توفي أبو معشر البلخي في مدينة واسط العراقية في شهر رمضان، سنة 272هـ.
المصادر:–
- الأعلام (2/127).
- مختصر تاريخ الدول، ابن العبري.
- علم الفلك، تاريخه عند العرب في القرون الوسطى، السنيور كرلونلينو.
- إخبار العلماء بأخبار الحكماء (119).
- سير أعلام النبلاء (13/161/رقم 94).
- شذرات الذهب في أخبار من ذهب (3/302).
- وفيات الأعيان (1/358/رقم 136).
- أبو معشر البلخي .. مفسر الأحلام والأبراج.. موقع المخترعين والمبتكرين العرب.
- سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون.