لم يكن ابن خلدون في كتاباته رائداً في وَصْف حالة البلاد سياسياً واجتماعياً فحسب؛ بل يعتبر أحد أشهر المفكرين الاقتصاديين في عصره وحتى في العصر الحديث، ولنفهم كيف استطاع هذا المفكر العربي المُتقد الوصول إلى هذه المكانة؛ سنبدأ في الحديث عن فكره الاقتصادي انطلاقا من نظريته التالية حيث قال في المقدمة:
هذا النص يحدد فكرة ابن خلدون التي تنتمي للقرن الرابع عشر الميلادي، وهي فكرة تخبرنا عن كيفية حدوث النمو الاقتصادي في المدن، هذه فكرة واحدة من مجموعة نظريات وأفكار أوردها في مقدمته الشهيرة ورأينا أن نخصص لها مقالاً متفرداً نفسر فيه فكره في عالم المال والاقتصاد وكيف تبلورت إلى عهده.
تأثر الفكر الحديث بطروحاته:-
إن عمل عبد الرحمن بن خلدون في علوم الاقتصاد، الاجتماع أو تفسيراته للجوانب المادية الملموسة في حياة البشر كمجتمعات وأفراد؛ قد أثَّر في فِكر العلماء في عصر النهضة الأوروبية ومؤسِّسي العلوم الحديثة، وخاصَّة من الناحية الاقتصادية؛ ولا بد من أن ننوه إلى تأخر بروز دور أعمال ابن خلدون في تأسيس الاقتصاد الحديث، إذ لم يتم تسليط الضوء على هذه المساهمة إلا خلال القرن الماضي.
وهنا أُعترف بشكل عالمي أن ابن خلدون لم يكن كسائر علماء الثورة الفكرية الإسلامية الذين قاموا ببناء أسس العلوم والتمهيد لثورتها الكبيرة، بل كان سبَّاقاً في فكره على كل الأصعدة، فاليوم يتم الإشادة بمنجزاته من قبل علماء التاريخ الإسلامي العلمي المعاصر ومؤسِّسي علم الاجتماع الحديث.
ابن خلدون عرَّاب علم الاقتصاد:–
يُعرف ابن خلدون في الأوساط العلمية اليوم بأبي الاقتصاد وعرَّابه، وهذا لقب أطلقه عليه كبار علماء الاقتصاد وباحثيه فيقال عنهُ: “لقد أرسى بن خلدون الأسس المعرفية للعديد من المجالات المعرفية، وبشكل خاص موضوع قيام الحضارة”.
كيف لا؟، وهو الذي أسَّس لعلم الاقتصاد قبل أكثر من 370 عام من آدم سميث الباحث الشهير، فإليه تعود أولى بذور الاقتصاد الكلاسيكي بالإضافة إلى توضيح آليات الإنتاج، استعراض مفهوم التكلفة والعرض، وكان من أوائل الذين سلطوا الضوء على مفهوم الطلب والاستهلاك، وبين معنى المنفعة التي يقوم عليها عالمنا الاقتصادي الحالي.
تدرُّج الفِكر المالي حتى عصر ابن خلدون:-
قبل أن يقوم ابن خلدون بتقديم سرده الاقتصادي؛ كان أفلاطون ومواطنه الفيلسوف اليوناني المعاصر له كسينوفون قد تحدثا عن أهمية العمل والتخصص في المهن. وهو أمر استلهماه من المصريين القدماء الذين عملوا به ونتج عنه تنظيم الوقت وزيادة الإنتاجية وبالطبع استمرار العمل المنتج لساعات أطول.
بعد أفلاطون؛ قدَّم تلميذه أرسطو تعريفاً عاماً حدَّد فيه الاقتصاد وعرَّفه؛ ويرجِع إلى أرسطو وضْع أُسس استعمال النقود عوضاً عن عمليات التبادل. ليأتي بعده – في ظل الكنيسة – مجموعة من رجال الدين الذين تحدثوا عن كل الأفكار الدينية والأخلاقية التي تضمن الخير للبشر جميعهم خلال تعاملاتهم المالية واعتبرت هذه الأفكار قوانين ناظمة فيما بعد.
قامت نظريات ابن خلدون على هذه الأمور والأُسس السابقة، حيث قام بجمع كل هذه الأفكار البدائية المتفرقة وسَرَدها بأسلوب منظَّم مُستعرضاً المفاهيم الدينية والأخلاقية في الاقتصاد، وأظهر مدى الترابط بين الاخلاق والقيم الدينية من جهة وبين الحُكم العادل والرشيد المحفِّز لبيئة ترعى ظهور هذه الأخلاق من جهة ثانية، وذلك عبر أطروحة كتبها ابن خلدون بكل خاص لحاكم منطقة خراسان الطاهر بن الحسين ولابنه عبد الله.
ومن مجموعة أفكار طرحها الطاهر بن الحسين تتعلق بالضرائب؛ طور له ابن خلدون نظرية شاملة ومتكاملة أثَّرت بشكل مباشر على الفكر الاقتصادي الحديث، حيث نجدها اليوم مطبَّقة بحذافيرها مع بعض التطوير في العالم المالي للولايات المتحدة الأمريكية.
لماذا لاقت نظرية ابن خلدون الاقتصادية صدى واسع عالمياً؟
من أهم النقاط التي بحثها ابن خلدون والذي يعتبر أبرز إنجازاته الاقتصادية هو تعمقه في جانب الضرائب، حيث قام بذكرها في مقدمته حين وضَّح العلاقة بين ثنائية الضرائب والإنفاق الحكومي اللازم، وأوجد طرق لدفع الضرائب بمعدلات معقولة لا تشكل عبئاً على الأفراد ولا تقلل من حوافز العمل – إذ ينبغي أن تكون الضرائب بمقدار ضئيل -أي أن يدفع المواطنون الضرائب وهم سعداء.
حيث يقول في شرحه: إن الضرائب تعتبر مصدر عائدات ضخمة للخزينة مع أنها تأتي من منابع صغيرة تعتبر كل منها حلقة ضمن سلسلة ضخمة، تتضخم مع بعضها ليصبح لهذه المنابع المالية الصغيرة قدرة كبيرة وهي مجتمعة؛ وهنا فكَّر ابن خلدون في أن الضرائب المأخوذة يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على إنتاجية العمل وتحفيزه، حيث قام بالبحث والتفكير في مقادير وكمية الضرائب المثلى التي لا تؤثر على الانفاق الحكومي وبنفس الوقت لا تمثل ثقلاً على كاهل الفرد.
فكرته الاقتصادية الرائدة، و التي توضِّح الإنفاق الحكومي الرشيد والمنتج، هي التي جعلت منهُ رائداً ومؤسِّساً للنظرية الاقتصادية الحديثة القائلة: “إن معلات الضريبة المرتفعة تقوم بتقليص القاعدة الإنتاجية وبالتالي تقليل النشاط الاقتصادي”.