Site icon العربي الموحد الإخبارية

ابن سينا.. الطبيب الأشهر الذي توفي وهو يسعى لمعالجة نفسه

ابن سينا |جاء لقب المشائين “peripatetic” من الإغريقي أرسطو نفسهُ (384-322 قبل الميلاد)، الفيلسوف الأول الذي كان يُعلم طلبته وهو يتجول ويمشي، فنُسِبَ لأتباعهِ صفة المتجولين والمشائين كُكنية عن أسلوب فلسفي في اكتسابِ العلم والمعرفة.

أرسطو
أرسطو.. أشهر فلاسفة التاريخ

ولنتمكن من فَهم الطفرة الفكرية التي جسدها أبو علي الحسين والمعروف بـ”ابن سينا” (المتوفى عام 1037 م)؛ لا بد من إلقاء نظرة شاملة على حال البلاد والعباد حينها، وخاصة من ناحية تطور الفكر الإسلامي، حيث حدثت طفرة علمية وفلسفية انعطفت فيها الحضارة الإسلامية وبلادها، لتصبح الجزء الأكثر تحضراً في العالم بأكمله وذلك قبل حلول نهاية القرن الحادي عشر الميلادي.

تطورات هائلة:-

هذه الفترة شهدت العديد من التطورات بما فيها وصول الحملة الصليبية الأولى من القسطنطينية (1096-1099 م) وذلك استجابة لنداء أطلقه البابا أوربان الثاني لاحتلال بيت المقدس ومحيطها واخضاعها لسيطرة القوى المسيحية ، وحينها كانت بلاد المسلمين تعايش طفرة في كل نواحيها من الاقتصادية، التقنية، العلمية والأدبية بالطبع.

هذه الطفرة تعاصرت مع فترة الخلافة العباسية
وما استحضرته من قوانين ومحاولات لإرسائها، ولم تنته بتأثير السلاجقة الذين كان
لهم الحكم الفعلي في بغداد خلال شطر طويل من عمر حُكم بني العباس.

 وأقبلت
الفئة السياسية والحاكمة في بغداد على دعم الآلاف من العلماء، والمفكرين والفلاسفة،
وذلك على رقعة البلاد الممتدة من شواطئ المحيط الأطلسي إلى نظيراتها على الهادئ.

وبلغت هذه الحقبة ذروتها عندما تجاورت قاعات
اجتماعات السلاطين والأمراء مع مدارس العِلّم والدين.

فقدات بغداد مركزيتها لصالح دويلات منتشرة في العالم الإسلامي

لكن، وبقليل من التعمق في هذه الفترة؛ سيتضح جلياً بأن وحدة المسلمين حينها كانت قد تراجعت بشكل كبير وخاصة مع بدء اندلاع نزاعات ومحاولات متعددة لاستيلاء عدة قوى على الحُكم والوصول للخلافة.

مفترق طرق:-

أما حال علماء المسلمين حينها؛ فكانوا أمام مفترق طرق وعلى وجه التحديد تلك الفئة الباحثة منهم في علوم الدين والعقيدة إلى جانب علوم الفلسفة، خاصة وأن مرور ثلاثة قرون من الفتوحات الإسلامية -التي شملت ثلاثة من قارات العالم القديم- قد أتاحت لهم فرصة الوصول إلى معرفة وعلوم جديدة وشاملة وبأساليب بحث ومعرفة أفضل من تلك التقليدية.

هذه البوابات الواسعة من المعرفة والعلوم؛
ساهمت بفتح نوافذ جديدة في عقول العلماء المسلمين، وهو ما ترافق مع ظهور خلاف حاد
بين الفلاسفة المتصوفين من جهة، وعلماء الفقه من جهة ثانية.

أي أن المعرفة السبَّاقة التي وصلت الغرب والعالم من قِبَل أشهر الفلاسفة المسلمين؛ كانت في تلك الفترة موضع خلاف وجدل كبير، من قبيل مؤلفات الفارابي وابن سينا اللذان كتبا وبحثا بتعمق في الفلسفة الإغريقية، وتعتبر مؤلفاتهما من ركائز العلوم والفكر المعاصر.

في هذه الأجواء؛ ظهر ابن سينا ، صاحب الفكر الإسلامي المتشائم، الطبيب وعالم الميتافيزيقيا “فلسفة ما وراء الطبيعة”.

نشأة ابن سينا وحياته المبكرة:

ولد أبو علي بن عبد الله بن سينا، المعروف بالبلخي ثم البخاري، الذي عَرِفه الغرب باسم “أفيسينا” في سنة (980م) وذلك في قرية تسمى أفشانا بخارى (في أوزبكستان).

نشأ في بيت كريم في كنف أم اسمها ستارة وأبٍ هو عبد الله ابن سينا الذي عرف في منطقة بلخ بعلمه ومعرفته، كما كان الوالد أيضاً حاكماً محليا للسلالة السامانية وينتمي للطائفة الإسماعيلية.

مدينة بخارى.. مسقط رأس الطبيب والفيلسوف العظيم

ثقافة وعلوم:-

لم تكن نشأة ابن سينا اعتيادية، فقد كان بيت
والديه موضعٌ يحفل بالعلوم والفنون، حيث عُرف عن والده ثقافته الكبيرة في كل من
الآداب والرياضيات الهندية مع سعة الاطلاع على الفلسفة والهندسة. وكان ذو علاقة
وصلة كبيرة بالإمام الإسماعيلي حينها. 

تلقن ابن سينا عن والده كل تلك العلوم وأتقنها، وأجادًّ تلاوة القرآن قبل أن يتعلم الفقه الحنفي الذي كان المنهج الديني المتبع في إقليم السامانين.

 لقد
نشأ الشيخ الرئيس في دار والده، حيث تعلم المنطق مع إتقانٍ لعلوم الحساب والهندسة
وذلك قبل بلوغه عُمر الثالثة عشر، في الحقيقة في ذلك العمر؛ كان قد قرأ لإقليدس،
لبطليموس، بالإضافة إلى ما وصل إليه عن الفيلسوف أرسطو.

في دفع المضار الكلية للأبدان الإنسانية – ابن سينا

لم يكتف والده بهذا القدر من العلم؛ بل أحضر له
معلماً خاصاً به هو النتيلي الذي علم ابن سينا أُسس علوم الفلك والماورائيات (الميتافيزيقا)
التي أضافت لعلمه وسعة اطلاعه، ما جعله في عمر السادسة عشر أحد أشهر أطباء بلاط
القصر الساماني.

ففي ذلك الوقت؛ دُعي ابن سينا  الفتى بالاسم ليعالج السُلطان الساماني نزح بن منصور (976-997 م) وقام على رعايته طبياً حتى شُفي، الأمر الذي قد أدى إلى تعيينه – وهو بعُمر الثامنة عشرة- كبيراً للأطباء في ديوان السلطان.

شاب فتي ولكنه معالج مشهور:

لم يمضِ الكثير من الوقت إلا والوهن أخذ يدب في أوصال الحكم الساماني، ليعاني الأخير من التشتت السياسي الذي كان السمة الطاغية على شتى الأمصار الإسلامية حينها، لينهار حكم السلالة في نفس الوقت الذي توفي فيه عبد الله والد الطبيب الشهير.

الفارابي .. صاحب لقب المعلم الثاني بعد أرسطو

وهنا قرر ابن سينا مغادرة بخارى، ليشق طريق الترحال وكتابة مؤلفاته في الطب والفلسفة، مستعيناً بما فسَّره أبو نصر الفارابي (872-950 م) من أفكار طرحها الفيلسوف الإغريقي الكبير أرسطو.

اقرأ ايضا ما الطعام الذي ينصحك ابن سينا بتناوله؟

اللقاء مع العملاق البيروني:-

خلال تجواله؛ انتقل ابن سينا إلى مدينة جرجانية
(في أوزبكستان)، حيث قدر حكامها مكانته وعلمه ووفروا له العمل اللازم.

وأبرز ما قد أثر فيه في هذه المدينة؛ هي مصادفته
فيها للعالم الموسوعي الكبير -تركي الأصل- أبي الريحان البيروني (973- 1050 م) ، حيث
دارت بينهما العديد من النقاشات متعددة المواضيع، ذلك لأن ديوان المدينة ملاذاً
للعلماء ليتناقشوا فيما بينهم.

أبو الريحان البيروني ، الطبيب والموسوعي الكبير

 هذا الأمر لم يستمر كثيراً، حيث قام السلطان محمود الغزوني الكبير بدعوة البيروني وابن سينا إلى قصره، وهو شيء لم يرغب فيه الأخير، فرفض ولم يقبل الدعوة، ما دفع السلطان غاضباً أن يرسل جنده ليقبضوا عليه، ولكن العالم الفتي تمكن من الهرب.

الوصول إلى جرجان:-

وخلال ترحال ابن سينا وابتعاده أكثر فأكثر عن
مسقط رأسه؛ فقد قام بزيارة الكثير من المدن والبلاد حتى وصل في ترحاله إلى مدينة جرجان
(مدينة في إيران)، وحينها كان يسعى فقط للوصول إلى السكينة والسلام الذي يمكنه من
مواصلة اكتساب معارفه وعمله العلمي.

 والسبب
الأخر لترحاله؛ هو أنه كان صاحب روح متحررة وثابة، لا يمكنها الانسجام مع طبيعة
الوسط السياسي الذي عاصره.

ومع أن ابن سينا قد تفقه بالمذهب الحنفي، إلا أن اعتقاده كان منسجماً مع ايمان والده بالأفكار الاسماعيلية.

وفي نهاية هذا التجوال؛ وصل ابن سينا إلى مدينة
الري الفارسية (قرب طهران) والتي ستصبح عاصمة سلالة السلاجقة ذات المذهب الديني
السني فيما بعد، وهي المدينة التي أقام فيها العالم الموسوعي الشاب.

كتاب الشفاء لابن سينا:

بدأ ابن سينا خلال مكوثه في جرجان بكتابة تحفته
المذهلة “كتاب الشفاء”، كما أنه قد قام بمعالجة ابن القائد البويهي
بطريقة فريدة تبعاً لما أورده المؤرخون.

صورة ابن سينا على عملة طاجاكستان تقديرا لمساهماته الكبيرة

فقد كان الفتى الأمير يعاني من الاكتئاب، بحسب
تشخيص ابن سينا وذلك بعدما فحص ضغط دم الأول
أثناء
سرد الأمير للطبيب المعروف بـ”الشيخ الرئيس” أخبار المدن المحيطة.

وتبعاً لمراقبة ابن سينا؛ فقد ارتفع ضغط دم
الأمير عندما لفظ اسم مدينة معينة.

وهنا لم يتوقف ابن سينا عن عمله، بل تابع مع
الأمير في تعداد أسماء الأحياء في تلك المدينة، ثم سمى المنازل بعدها، إلى أن وصلا
إلى منزل معين، فانتقل ابن سينا ليطلب من الأمير تسمية سكان ذلك البيت.

وهنا، اكتشف ابن سينا أن هذا الأمير يعاني من
الكآبة الناتجة عن حب شابة صغيرة تعيش في ذاك المنزل.

ابن سينا قدم كتاب القانون في الطب للبشرية جمعاء

بعد تلك الحادثة؛ عمل ابن سينا كطبيب في ديوان
سلالة البويهيين، ليكسب حينها المال والوقت الكافي ليقوم بالقراءة ويتابع كتاباته.

وفي جرجان أيضاً؛ أكمل ابن سينا كتابيّه الشهيرين “الشفاء” و”القانون في الطب” وكل منهما يتألف من عشرات المجلدات التي تعتبر كلاسيكيات وأسس لجميع الفلاسفة وممارسي الطب.

عدم التأثر بالضغوط السياسية:-

لم يكن ابن سينا كغيره من العلماء خاضعاً في الرأي لكبار الساسة والحكام، إنما أيضاً تم زجه بالسجن من قبل السلاطين البويهيين، وذلك بسبب سجالاته ومواجهاته مع كبار الحكام، ومع ذلك فقد تمكن من تطويع حياة السجن ليحيلها إلى فرصة ينغمس فيها بالقراءة والكتابة.

ولكن الضغط السياسي الذي عايشه ابن سينا في مدينة همدان مقر سلاطين البويهيين قد تسبب له بالإزعاج والأرق، لذلك شدَّ الرحال متجهاً صوب أصفهان (إيران) والتي كانت محكومة من قبل إحدى سلالات الحكم الشيعية المعروفة حينها باسم سلالة بني كاكوية، الذين قدَّروا مقام وعلم الفيلسوف وعاملوه كوزير.

صورة حديثة لأحد أهم معالم مدينة أصفهان التاريخية

هذا الحال لم يستمر طويلاً؛ فبعد انقضاء عدة سنوات عاشها ابن سينا في هناء كوزير لخزينة أصفهان، استولت قوات السلالة الغزنية على المدينة وهدموا منزل الطبيب الموسوعي وحطموا مكتبته وبعثروا أوراقه.

من جديد؛ اضطر أمير الأطباء لمتابعة حياته في الهرب، وهذه المرة من جنود الجيش الغزني متنقلاً بين مكان وأخر صارفاً كل ثروته المالية في إيجاد طريقاً للهرب، حتى مرض وتوفي خلال قيامه بمداواة وعلاج نفسه سنة (1037م).

إرث كبير:-

لقد توفي ابن سينا، الشيخ الرئيس، شيخ الأطباء
والفلاسفة، أمير الأطباء، تاركاً ارثاً ينتشر في كل العالم الإسلامي ووصل إلى
أوروبا لاحقاً.

فقد لاحظ العلماء المسيحيون بأن أعماله كانت
بمثابة جسر ووسيط بينهم وبين الفكر اليوناني القديم قاصدين بذلك فكر أرسطو وطب
أبقراط وسواهما.

وفي مقابل ذلك؛ قام العالم الإسلامي بالاعتماد على أعمال أمير الأطباء خلال التدريبات الطبية وفي الكشوفات والتحقيقات الفلسفية مع كل من الكندي والفارابي، فابن سينا هو أحد أعمدة وحكماء الفلسفة الإسلامية الأوائل الثلاثة المعروفين بالفلاسفة المشائين.

المصادر:

  • الذهبي، سير أعلام النبلاء، مادة ابن سينا، طبعة دار الكتب، ط23، ج17، ص532,

https://www.dailysabah.com/portrait/2019/07/19/ibn-sina-top-peripatetic-philosopher

Photo by Darrell Chaddock on Unsplash

https://ii.mypivots.com/banknotes/tjs-20-tajikistani-somonis-2.jpg

Photo by Yasin Abbasi on Unsplash

Exit mobile version