ابن طفيل .. الملهم لمفكري عصر التنوير الأوروبي

توطئة:-

بينما كان القس الإنجليزي اليافع إدوارد بوكوك يقوم بجولة في ربوع بلاد الشام وذلك في مطلع القرن السابع عشر الميلادي وتحديداً عند زيارته لمدينة حلب؛ وقع بين يديه رواية مكتوبة باللغة العربية تُسمّى بـ ” حيّ بن يقظان ” وكانت من الروايات الملهمة التي غيرت حياته.

فقد كانت الرواية الفلسفية قد كُتبت في القرن الثاني عشر الميلادي من قِبل الفيلسوف المسلم ابن طفيل وتروي قصة رجل يُسمى “حيّ” نشأ ضمن جزيرة قريبة من منطقة خط الاستواء، حيث كان يعيش حيَ في أجواء عزلة تامة عن البشر وتجمعاتهم.

والفريد أنه حيّ هذا كان قد وصل إلى فكر التوحيد وذلك على الرغم من عدم توفر وسائل التعلُّم الدينية، فقد توصل إلى وجود الله عز وجل فقط من خلال التأمل والتفكر في المحيط في خضم عزلته الخاصة.

ترجمة الرواية:-

وعندما شغل القس إدوارد في سبعينيات القرن السابع عشر منصب أستاذ في جامعة أوكسفورد مختصاً باللغة العربية؛ قام بنشر ترجمة لرواية ابن طفيل باللغة اللاتينية والتي أخذت اسم رواية الفيلسوف الذاتي، أي حكاية الشخص الذي يتعلم الفلسفة بنفسه، وسرعان ما تم ترجمة الرواية سنة 1708 م من اللاتينية إلى اللغة الإنجليزية.

وبالفعل لم تكن هذه الترجمات ثروة أدبية ثقافية فحسب؛ بل كانت أيضاً من بين الموارد التي أثرت على فلاسفة ومفكري عصر التنوير الإنجليزي، ومنهم المفكر جون لوك، فمن المذهل أن المفكر الأول الذي كتب هذه الرواية الفلسفية المعروف في العالم العربي الإسلامي بابن طفيل؛ كان قد استهدف فئة المفكرين في عصره والعصور التي ستأتي بعده.

من هو ابن طفيل ؟

هو أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن فضيل القيسي، ويسمى بابن طفيل الاندلسي القرطبي الإشبيلي، والذي كُني بين قومه بأبي جعفر.

 ولِد في وادي أش في غرناطة الأندلسية – التي تعرف اليوم بمدينة كاديز الإسبانية – هذه البلدة التي كانت في بداية القرن الثانية عشر للميلاد خاضعة للحُكم الإسلامي.

يوجد نقص كبير من المعلومات عن جرعات التعليم التي تلقاه هذا الفيلسوف الروائي، التعليم الذي مكنهُ من امتلاك مهارات متنوعة في الطب، الفلك والأدب بالإضافة إلى العديد من العلوم التي كان له معرفة واسعة فيها، مما فتح له باب العمل في شتى المجال واستطاع عبر تعلُّمه العمل ضمن دواوين ومحاكم الأندلس.

كانت الدواوين في فترة ازدهار الأندلس تعج بأشكال متعددة وانتقائية من الروح الفلسفية، فقد وصل عن ابن طفيل نفسه أن كتب: “لو أنهم (يقصد ضمن الديوان) يتناقشون عن النظريات الموسيقية لكان بإمكاني أن أعمل بها وأضيف إليها” فهنا يخبر عن اطلاعه الواسع.

ولكنه ونتيجة لمعرفته الطبية؛ فقد قام بالعمل كطبيب في ديوان غرناطة الطبي، ليضاف إليه فيما بعد منصب أمين السر في المحاكم الأندلسية، ومع الوقت وصل إلى منصب قاض في محكمة الموحدين.

والجدير بالذكر أن إحدى الروايات التي تناولت ابن طفيل ذكرت أنه قد وصل إلى منصب وزير خلال حكم الأمير أبو يعقوب يوسف ما بين (1163 – 1184 م)، وسواء كان قد وصل هذا الطبيب الفيلسوف الكبير إلى هذا المنصب أم لا، فما هو مؤكد أنه حظي بمكانة مرموقة لدى مختلف فئات المجتمع.

وفي المجال الطبي؛ برع ابن طفيل في تشريح الأجسام الميتة والحية، حيث شرَّح ظبية حيَّة وشقَ عنها قلبها، وذكر أن الدم الموجود في القلب كالدم الموجود في سائر الجسد، وأنه متى سال من الجسم جمد.

العلاقة مع ابن رشد:-

وما يذكر من أعمال أبي جعفر هو دعمه لفيلسوف مسلم أخر ذاع صيته في سائر أصقاع الأرض، والحديث هنا عن ابن رشد، حيث يقول الأخير بأن ابن طفيل دعمه ليصل إلى البلاط حتى يتسلم مكانه ويعمل كطبيب عندما تقاعد الأول.

ولم يكتف بذلك؛ بل قدم ابن طفيل يد المساعدة لابن رشد ليتمكن الأخير من وضع شروحه وتعليقه على
أعمال الفيلسوف الإغريقي أرسطو والتي كانت مفتاح شهرته في العالم، وخاصة الفلاسفة الغربيين الذين
سموا ابن رشد بالمُعلِّق.

ما يذكر أن التعليق على أعمال أرسطو كانت مقدماً لابن الطفيل، ولكنه كان حينها مشغولاً بروايته الفلسفية
عن “حيّ بن يقظان ” فرغب في التفرغ لكتابتها.

خوض ابن طفيل في علم الفلك:-

يضاف إلى روايته التي تخبر عن حياة ” حيّ بن يقظان ” الفلسفية؛ أطروحتين تبحثان في الطب ومجموعة من المجلدات التي اختصت في علم الفلك، ولكن هذه الكتابات لم تصل إلينا وعرفنا عنها وعن محتواها مما وصل من الملاحظات التي قام بذكرها من عاصره وأتى بعده من الفلكيين.

وما يمكن استنتاجه من أعماله الفلكية أنه حاول إعادة تكوين مجموعة من المفاهيم البطليموسية عن الفلك المتعلقة بالأرض والكون بالإضافة على نقدها والعمل على تعديلها، وخاصة نظرية بطليموس في تحديد الدرجات وتلك الدوائر الغربية، هذه الانتقادات قامت بشكل مباشر على تنبيهه الفلكيين من بعده ليدققوا في النماذج اليونانية ومركزية الأرض.

وفاة ابن طفيل:–

نوفي ابن طفيل في مدينة مراكش بالمغرب الأقصى سنة 1185 وحظي بجنازة مهيبة حضرها حاكم الدولة الموحدية نفسهُ.

المصدر:-

جامعة كولومبيا – الولايات المتحدة

(https://www.college. – columbia.edu/core/content/ibn-tufayl

قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية.