Site icon العربي الموحد الإخبارية

يوحنا بن ماسويه .. الطبيب النسطوري الأمين للخلفاء العباسيين

كان دليلاً على رحابة سعة الحضارة الإسلامية التي حملت بين ثناياها طاقات من سائر الأطياف، كما كان نموذجاً لروح التعايش والتآزر بين بني البشر المنتمين  لمختلف الخلفيات والديانات.. هو يوحنا (يحيى) بن ماسويه ،الطبيب الجراح السرياني الأصل، الذي ارتقى به علمه ليصبح الطبيب الخاص لبني العباس في أوج قوة وتحضر دولتهم التي قدمت للبشرية نماذج علمية وفكرية وفلسفية يُقر بفضلها البعيد قبل القريب والعدو قبل الصديق.

من هو ابن ماسويه ؟

هو أبو زكريا يحيى أو يوحنا بن ماسويه الخوزي، ولد في القرن التاسع الميلادي  في گنديساپور (خوزستان في إيران حالياً)،  من أب صيدلي سرياني وأم صقلبية، ثم انتقل مع أبيه إلى بغداد ليدرس الطب على يد جبريل بن بختيشوع وعلماء آخرين، فأتقن اللغة السريانية واليونانية والفارسية الى جانب العربية التي ألّف بها جل كتبه.

كلية الصيدلة الملكية في بغداد في العام 1932
كلية الصيدلة الملكية في بغداد في العام 1932 – وقد اشتهرت مدينة السلام تاريخياً بأعلامها من الأطباء والصيادلة – مكتبة الكونغرس

ويعتبر ابن ماسويه من العلماء الموسوعيين المسلمين ثقافة والمسيحيين ديانة (نسطوري)، اشتغل في حقليّ الطب والصيدلة، وله فيهما تصانيف عديدة، كما اشتهر بالذكاء المفرط، وتتلمذ على يده أعداد كبيرة من أطباء عصره، وقد كان ابن ماسويه ناقلا أيضاً وأحد أبرز المترجمين في العصر العباسي.

علاقته بالخلفاء:-

كان ابن ماسويه من بين أطباء بلاط قصر الخلافة، إّذ كان فاضلاً
مُقدّما جليلا معظّما، فقد خدم هارون الرشيد ونجليه الأمين والمامون، ومَن جاء بعدهم
من الخلفاء وصولاً إلى عهد المتوكل، حتى أنه قد قيل: إن بني هاشم لا يتناولون
شيئاً من أطعمتهم إلا أثناء وجوده.

وقد  ولاّه الرشيد في فترة خلافته مُهمة ترجمة الكتب الطبية القديمة التي وصلت بغداد من سائر بلاد اليونان والرومان، كما نصّبه أمينا على الترجمة عامةً، وأخذ بنصيحته حين اقترح ابن ماسويه بناء دار للكتب وهي المعروفة ببيت الحكمة في التاريخ العربي الإسلامي.

شخصية ابن ماسويه ومجلسه:-

نَقَلَ ابن أبي أصيبعة -وهو صاحب مؤلَّف “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”- عن يوسف بن إبراهيم قوله: “كان مجلس يوحنا بن ماسويه أعمر مجلس كنت أراه بمدينة السلام (بغداد) لمتطبب أو متكلم أو متفلسف، لأنه كان يجتمع فيه كل صنف من أصناف أهل الأدب، وكان في يوحنا دعابة شديدة، يحضر بعض من يحضر من أجلها، وكان من ضيق الصدر، وشدة الحدة، على أكثر ما كان عليه جبرائيل بن بختيشوع، وكانت الحدة تخرج منه ألفاظاً مضحكة، وكان أطيب ما يكون مجلسه في وقت نظره في قوارير الماء”.

إنجازاته الطبية:

قدّم ابن ماسويه الكثير من الإنجازات الطبية، خاصة في علم التشريح، إذ
وَردَ أنه كان يقوم بتشريح القِردة ثم يُطبق ما توصل إليه على الإنسان، ونجح في
هذا المجال نجاحا عظيماً لدرجة أن الافادات التي قدمها فاقت تلك التي قدمها الإغريقي
الشهير جالينوس.

وتؤكد المصادر أن يوحنا بن ماسويه كان يقوم بعمليات التشريح في قاعة
تشريح خاصة بناها على ضفاف نهر دجلة، وأنه كان يختار من القردة النوع الأقرب شبها
إلى الإنسان، وأن الخليفة المعتصم هو من كان يساعده في الحصول على تلك الحيوانات
من بلاد النوبة، ما يدل على عناية الحكام العرب آنذاك بالعلوم ودعمهم لممارسيها.

ولأن يوحنا كان صاحب علم كبير في مجالات الطب باختلاف ألوانها؛ فقد
لمع اسمه في تخصصات أخرى غير التشريح، نذكر منها اهتمامه بأمراض الجهاز الهضمي ،
إذ كان أول من شخص مرض الحساسية الناتجة عن شرب الحليب وتناول السمك.

 كذلك في مجال طب العيون؛ ألّف
بن ماسويه كتابا يحتوي على معظم المعلومات الاساسية في علاج أمراض العيون، وهو
كتاب “دغل العين” الذي بقي مرجعا أساسيا في هذا المجال لعقود من الزمن.

حديث ابن العبري عن يوحنا بن ماسويه:-

قال عنه ابن العبري ( المتوفى عام 1286 م) : من أطباء الرشيد؛ يوحنا بن ماسويه النصراني السرياني، الذي ولاه هارون ترجمة الكتب الطبية القديمة، وخدم الرشيد ومن بعده المتوكِّل ، وكان معظماً في بغداد، جليل القدر، وله تصانيف جميلة، وكان يعقد مجلساً للنظر ويجري فيه من كل نوع من العلوم القديمة بأحسن عبارة، وفي يوحنا دعابة شديدة يحضره من يحضره لأجلها في الأكثر، وكانت الحِدَّة تُخرج من يوحنا ألفاظاً مضحكة.

قبله؛ كان المعتصم يعتمد على سلمويه والذي كان طبيباً بارعاً فاضلاً، ولمَّا مرِض سلمويه؛ زاره المعتصم باكياً عنده من شِدَّة تأثره على حالته، فقال له: “أشِر عليَّ بعدك بمن يُصلحني (يقوم على رعايتي طبياً)؟

يوحنا خلف سلمويه

فقال سلمويه: “عليك بهذا الفضولي يوحنا بن ماسويه، فهو إن وصف شيئاً خُذ أقله اختلاطاً”، ولمَّا مات سلمويه؛ قال المعتصم: “سألحق به لأنه كان يمسك حياتي ويدبِّر جسمي”، وقد أحجم عن تناول الطعام في ذلك اليوم ودعا لإحضار جنازة الطبيب المتوفَّى إلى الدار، ليُصلَّى عليها بالشمع والبخور وفقاً لما يتبعهُ النصارى.

وكان سلمويه قد عوَّد المعتصم على فصده بواقع مرتين في السنة الواحدة، ويسقيه دواءً بعد إتمام كل مرة فيهما، بيد أن ذلك الأمر تغيَّر مع يوحنا الذي اتبع سياسة مخالفة لسلفه، فقد كان يسقي المعتصم الدواء قبل الفصد، فلمَّا اتبع معه هذه الطريقة؛ حميَ دمه، وأخذ جسده في النقصان حتى مات وذلك بعد مرور 20 شهراً من وفاة سلمويه.

مؤلفات يوحنا بن ماسويه:-

خلّف يوحنا أثرا كبيرا في مجال الطب العربي، والفضل عائد إلى مصنفاته التي وضعها منبرا لمن يريد دراسة الطب من بعده، نذكر هذه المصنفات في ما يلي:

  • كتاب في الأشربة.
  • كتاب في ترتيب سقي الأدوية المسهلة بحسب الأزمنة وبحسب الأمزجة، والذي ألَّفه للخليفة المأمون.
  • كتاب في تركيب الأدوية المُسهِّلة، وتناول فيه الأدوية المُقيِّئة، وعلاج عرق النسا، وأوجاع المفاصل الناجمة عن البلغم، ودواء اللِثَّة، وتعرض فيه إلى فوائد أكل الرمان لمعالجة الإسهال.
  • كتاب الأبدال ، وهو بمثابة فصول كتبها رداً على أسئلة طرحها عليه حنين بن إسحاق.
  • كتاب المنجح في الصِّفات والعلاجات، وفيه تناول معلومات فائقة الأهمية حول كيفية مداواة الخفقان الحارِّ، وعلاج الأمعاء بالحُقَن، وأطعمة المصابين بالكِلى والمثانة، ووجع المفاصل، وحالات الجدري وكيفية معالجتها.
  • كتاب في الفصد والحِجامة.
  • كتاب في الجُذام.
  • كتاب الرُّجحان.
  • كتاب البرهان، وهو في ثلاثين باباً.
  • كتاب البصيرة.
  • كتاب الكمال والتَّمام، والذي جمَعَ فيه معلومات عن رطوبات الفم وأدويتها، وأدوية العين، والمغص وأوجاع المعدة وأمراض الكِلى، وعلاج المفاصل.
  • كتاب الحِميات، والذي جَمَع فيه معلومات عن الأمراض التي تُصيب الأُذُن، وأسباب الصداع وكيفية معالجته، كما تناول في المؤلَّف ذاته طرق معالجة أمراض الكبد والمرارة.
  • كتاب في الأغذية، حيث جَمَعَ فيه معلومات عن فوائد بعض الأغذية، وكيفية مداواة الريح الغليظة في البطن والإمساك.
  • كتاب الصدر والدُّوار.
  • كتاب محنة الطبيب ، وفيه تناول حالات نبض المحموم وبوله.
  • كتاب معرفة محنة الكحَّالين.
  • كتاب دغل العين.
  • كتاب دفع مضار الأغذية.
  • كتاب في غير ما شيء مما عجز عنه غيره.
  • كتاب السِّر الكامِل.
  • كتاب لِمَ امتَنَعَ الأطباء عن علاج الحوامل في بعض شهور حملهِن؟
  • كتاب النِّساء اللواتي لا يحبلن حتى يحبلن.
  • كتاب الجنين.
  • كتاب الماليخوليا، تناول أسبابها وعلاماتها وطرق علاجها.
  • كتاب جامع الطِب، وتناول فيه ما اجتمع عليه أطباء فارس والرُّوم.
  • كتاب الحيلة للبرء.
  • كتاب الديباج.
  • كتاب الأزمنة.
  • كتاب في الصُّداع، تحدَّث فيه عن أوجاع الصُّداع وعِلله، وسبل معالجته، وأدويته، وقد ألَّف الكتاب هذا لعبد الله بن طاهر.
  • كتاب مجسَّة العروق.
  • كتاب الصَّوت والبحَّة.
  • كتاب ماء الشَّعير.
  • كتاب المرَّة السوداء.
  • كتاب تدبير الأصحَّاء.
  • كتاب في السِّواك والسنونات.
  • كتاب المعدة.
  • كتاب القولنج.
  • كتاب النَّوادر الطبية.
  • كتاب التشريح.
  • كتاب في دخول الحمام ومنافعها ومضارها.
  • كتاب السُّموم وعلاجها، حيث تعرَّض فيه إلى سموم الأفاعي.
  • كتاب الطبيخ.
  • كتاب الجواهر، والذي الَمَّ فيه بكثير من المعلومات حول صنوف الجواهر والمعادن النفيسة والأحجار الكريمة.
هذه المخطوطة هي نسخة من كتاب الأزمان (المعروف أيضاً بـكتاب الأزمنة) ليوحنا بن ماسويه، ينتمي العمل إلى علم الاختيارات الإسلامي— وهو العلم الذي يعني بدراسة التقويم بغية التوصل إلى أسباب استحسان مباشرة أعمال متنوعة في أوقات أو تواريخ محددة. يقول الكاتب في مقدمة العمل: “ذكر أهل العلم والفلسفة وأطباء فارس والهند والروم [آسيا الصغرى] أن السنة مقسمة إلى أربعة فصول: ربيع وصيف وخريف، وشتاء، ثم جعلوا لكل واحد من هذه الفصول ما له من البروج وهي ثلاثة، ومن الأنواء وهي سبعة، وبينوا ما يصلح أن يعمل به في كل جزء منها.” يلي المقدمة أقسام، يتناول كل قسم منها فصل من فصول العام ويَذْكُر عدد الأيام والبروج ومنازل القمر والخَلْط المرتبط بكل فصل، بالإضافة إلى الأمزجة المركبة، وهي الحرارة واليبوسة والبرودة والرطوبة. ففي القسم الذي يتناول فصل الشتاء، على سبيل المثال، يقول الكاتب “يُسبب الماء مشكلات في هذا الفصل لأنه يكون باردً رطبًا فينتشر السعال والبرسام.” يعقب ذلك قسمًا أطول يُدرِج فيه المؤلف الشهور الرومية بصِيَغِها الشرقية، ويُقَدّم تفاصيل أكثر عن أهمية كل يوم والممارسات المعتادة فيه. في بداية الحديث عن شهر تشرين الأول (أكتوبر)، على سبيل المثال، ينص العمل على أن “في أول يوم منه تهب الصبا وينزل الناس من الأسطح، وفي اليوم العاشر أخرج إبراهيم الخليل ابنه ليُضحي به.” كذلك يوضح ابن مساويه وجوب أن الإقلال من الجماع في هذا الشهر وتجنب أكل البطيخ والخيار ولحوم البقر والحبوب غير الأرز. كما حذر من شرب الماء البارد خلال هذا الشهر. لا تشمل بيانات النسخ الخاصة بهذه المخطوطة تاريخًا، ولكنها تَذْكُر أن اسم الناسخ هو صالح سليم بن سليم بن سعيد الشامي الدمشقي. نُقِشَت الكلمتان “مكتبة تيمور” على غلاف هذه الطبعة. هناك ختم مقروء جزئيًا يُظهر الاسم تيمور والتاريخ 1912، مشيرًا إلى أن الباحث المصري الكردي، أحمد تيمور (1871–1930)، قد أهدى هذه المخطوطة لدار الكتب- المكتبة الرقمية العالمية.

وصفات ابن ماسويه النباتية والعشبية :-

ابن ماسويه تمتع بتعمُّقه في مجال توظيف النباتات والمعادن وغيرها للأغراض الصحية وبغية استعمالها من قبل المرضى والمصابين في العلاجات والترياقات، ومن بين وصوفاته الواردة في كتابه “إصلاح الأدوية المسهِّلة”:

  • التربُّد (نبتة من بوادي خراسان): خاصَّة التربُّد إصلاح البلغم، إلَّا أنَّه يورِّث البشاعة في النفس لفظاعة مطعمه، وإن أرادَ مُريدٌ أخذهُ؛ فليتقدَّم قبل ذلك في إصلاحه فيلتّه بدهن اللَّوز الحلو؛ فإنَّهُ يمنع ضرره، ثم يأخذهُ والمختار منه ما كان حديثاً جوفه، شديد البياض، أملس الظَّاهر، دقيق العيدان، غير متآكل ليس بذي شظايا، والشربةُ ما بين درهم ودرهمين.
  • الحَزاه (اسمٌ لنبتةٍ حَزريَّة الوَرَق إلى البياض حَزري الشَّكل إلى الطُّول تبنت وسط العراق): هو نافعٌ من لسع الهَوام ويُدرُّ البول، ويُعطِّش كثيراً.
  • القلقل (نبات أخضر له حب كاللوبياء): حارٌ رطبٌ زائدٌ في الجِماع، وخاصَّته أنَّهُ إذا خُلِطَ بالسمن وعُجِنَ بعسل الطبرزد وفانيد، وإن قُلِيَ فهُوَ أجوَد، والإكثار منه يُتخِم ويُورِّث الهيضة.

يوحنا بن ماسويه ونوادره:-

  • وفَدَ رجل إلى يوحنا شاكياً علَّة كان علاجه منها عبر فصده، فأشار عليه بالفصد، فقال المريض: لم أعتد الفصد، فقال له الطبيب: ولا أحسبك اعتدتَّ العلَّة من بطن أمك.
  • وصار إليه قسيس وقال: قد فسدَت عليَّ معدتي، فقال له يوحنا: استعمل جوارشن الخوزي، فقال لهُ: قد فعلت، قال: فاستعمل الكموني، قال المريض: قد استعملتُ منه أرطالاً، فأمرهُ باستعمال البنداذيقون، فقال” قد شربتُ منه جرَّة، قال: استعمل المروسيا، فقال لهُ: قد فعلتُ وأكثرت، فغضب يوحنا، وقال له: إن أردتَ أن تبرأ؛ فأسلِم، فإنَّ الإسلام يُصلِح المعدة.

اقرأ ايضاً.. ابن ملكا البغدادي .. الطبيب والفيسلوف الأوحد في زمانه

وفاة يوحنا بن ماسويه:-

توفي الطبيب والعلامة ابن ماسويه  سنة 243هـ857 م في سامراء في العراق، تاركاً وراءه ما يقرب أربعين مصنفاً بين كتاب ورسالة، اعتبرت إرثاً كبيراً استزاد به من جاء بعده من الأطباء.

المصادر:

  • علي بن عبد الله الدفاع 1998 : رواد علم الطب في الحضارة العربية والاسلامية، مؤسسة الرسالة ناشرون.
  • راغب السرجاني 2009: قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية، مؤسسة إقرأ للنشر والتوزيع.
  • ابن أبي أصيبعة 1995 : عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق نزار رضا، دار مكتبة الحياة.
  • ابن العبري، مختصر تاريخ الدول.
  • المكتبة الرقمية العالمية.
  • مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، العمري.

Photo by Vanessa Bumbeers on Unsplash

Exit mobile version