اسمه ونشأته:-
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطُّوْسِي، أبو حامد الغزالي ،حُجَّة الإسلام، وأعجوبة الزمان، وصاحب الذكاء المفرط، الفيلسوف، المتصوِّف، وُلد بمدينة طُوْس سنة 450هـ، ونسبته إلى قرية غَزَالَة بمدينة طوس، وتوفي والده وهو صغير، فنشأ يتيماً.
أبو حامد الغزالي – المكانة العلمية:-
كان أبوه قد أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له صوفي صالح، فعلَّمهما الخطَّ وأدَّبهما، ثم نفد منه ما خلَّفه أبوهما، وتعذَّر عليه القوت، فانتقل إلى مدرسةٍ يطلب الفقه ويُحصِّل قوته، ثم ارتحل إلى أبي نصر الإسماعيلي بجُرْجَان، ثم إلى إمام الحرمين أبي المعالي بنيسابور، فاشتغل عليه ولازمه، حتّى صار أنظر أهل زمانه، وجلس للإقراء في حياة إمامه، وصنَّف الكتب النفيسة.
فلما مات أستاذه أبو المعالي؛ خرج إلى العسكر
وحضر مجلس نظام الملك، وكان مجلسه محطَّ رحال العلماء، ومقصد الأئمة والفصحاء،
فوقع للغزالي أموراً تقتضي علو شأنه من ملاقاة الأئمة، ومناظرة الفحول، فعظمت
منزلته، وطار اسمه في الآفاق، ونُدِبَ للتدريس بنظاميَّة بغداد، سنة 484هـ، وتلقَّاه
الناس، ونفذت كلمته، وعظمت حشمته، حتى غلبت على حشمة الأمراء والوزراء، وضُرِبَ به
المثل، وشدت إليه الرِّحال.
وخرج الغزّالي بعد ذلك إلى الحجاز سنة 488هـ، فحجَّ ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين بمنارة الجامع، وصنَّف فيها كتباً؛ منها «إحياء علوم الدين»، ثم صار إلى القدس والإسكندرية، ثم عاد إلى وطنه بطوس، مقبلاً على التصنيف والعبادة، وملازمة التّلاوة، ونشر العلم، وعدم مخالطة الناس، ووظف أوقاته على وظائف الخير، بحيث لا يمضي لحظة منها إلا في طاعة، وتدريس، ونظر في الأحاديث.
أطوار حياة الغزالي:-
لقد شهدت حياة الإمام الغزالي تحوّلات كبيرة ويَصلُح أن توصَف بالعنيفة والعميقة، فهو ذلك العَلَم الموسوعي الذي قطف أزهاراً من بساتين سائر فنون العلوم والفقه والفلسفة والتصوف، وهو أيضاً الذي وقف حائراً أمام كثير من المسائل التي قد لا يقف أمامها ومعها سوى شخصية بهذا المقدار من العمق.
ويمكن تقسيم مراحل حياته على النحو الآتي:
فترة ما قبل الشَّك:-
على الرغم من وعيه المبكر، وظهور علامات النجابة عليه وهو ما زال فتىً، غير أن هذه المرحلة من حياته كانت مستقرة نسبياً ، ولربما لأنه لم يبلغ فيها مرحلة النضوج الفكري.
فترة الشَّك بقسميه، الخفيف والعنيف:-
ففي فترة الشَّك الخفيف والتي كانت طويلة المدى، إذ امتدت منذ سن الصِبا، وصولاً إلى تصوّفه؛ ألَّف فيها الإمام “قواعد العقائد” في علم الكلام، وفي نقد الفلسفة “تهافت الفلاسفة”، وفي نقد مذهب الباطنية، وحينها كان يدرِّس أيضاً في مدرستي نيسابور ونظامية بغداد.
فترة الشَّك العنيفة والتي انتقل خلالها من بغداد للديار المقدسة لتأدية مناسك الحَج ومن ثم انتقل لبيت المقدس واستقر لسنوات معتكفاً في المسجد الأموي بدمشق.
وقد وصف الغزالي نفسه وتجربته وأحواله أثناء مقامه في الشَّام وذلك في كتاب “المنقذ من الضَّلال”: قائلاً: ” دخلتُ الشَّام وأقمتُ بها قريباً من سنتين، لا شُغلَ لي إلَّا العُزلة والخُلوة والرِّياضة والمجاهدة، اشتغالاً بتزكية النَّفس، وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله، كما كُنتُ حصلته من علم الصُّوفية، فكُنتُ أعتكفُ مدَّة في مسجد دمشق، أصعدُ منارة المسجد طول النَّهار، وأغلق بابها على نفسي …”.
وفي هذه المرحلة من حياته؛ شاهده القاضي الإشبيلي أبو بكر بن العربي، ووصف أحواله وتجواله في البريَّة، وجرى بينهما حوار.
فقال ابن العربي: “رأيتُ الإمام الغزالي في البرية وعليه مرقعة، وعلى عاتقه ركوة وقد كُنتُ رأيته ببغداد يحضر دروسه أربعمائة عمامة من أكابر النَّاس وأفاضلهم يأخذون عنه العِلم.. فدَنَوتُ مِنه، وسلَّمت عليه، وقُلتُ له: يا إمام، إليس تدريس العلم ببغداد خيراً لك من هذا؟!”.
قال ابن العربي: فَنَظَرَ لي شزراً (الغزالي)، وأنشد:
فترة الكشف:-
هذه الفترة التي اهتدى فيها الغزالي إلى نظرية الكشف الصُّوفية.
ومن أقواله في هذه الفترة: الحمدُ لله الذي أحرَقَ قلُوب أوليائه بنيرانِ محبته، واستوفى هِمَمَهم وأرواحهم بالشَّوقِ إلى لقائه ومشاهدته، وَوَقَفَ أبصارهم وبصائرهم على ملاحظة جمال حَضرتهِ حتَّى أصبحوا من نسيمِ روح الوصال سكرى، وأصبحت قلوبهم من ملاحظة الجلال والهيبة حيرى، فلم يروا في الكونيّن إلَّا إيَّاه ، وإن سَنَحَت لأبصارهم صورٌ عبرت إلى المصوِّر بصائرهم، وإن قَرَعَت أسماعهم نغمةٍ سبقت إلى المحبوب سرائرهم.
وإن وَرَدَ عليهم صوتٌ مزعِجٌ أو مقلق أو مُطرب أو مُحزن أو مُهيِّج أو مُشوِّق؛ لم يكُن انزعاجهم إلَّا إليه ولا طربهم إلَّا به، ولا قلقهم إلَّا عليه، ولا حُزنِهِم إلَّا فيه، ولا شوقهم إلَّا إلى ما لديه، ولا انبعاثهم إلَّا له، ولا ترددهم إلَّا حواليه، فمنه سماعهم، وإليه استماعهم، فقد أقفل عن غيره أبصارهم وأسماعهم.. أولئك الذين اصطفاهم لولايته واستخلصهم من بين أصفيائه وخاصَّته، وصلَّى الله على المبعوث برسالته وعلى آله وأصحابه أئمة الحق وقادته وسلِّم تسليماً.
أبو حامد الغزالي – أقوال العلماء فيه:-
لا نجد من
العبارات ما يصف مكانته العلمية كتلك الكلمات التي أدلى بها ابن النَّجَّار؛ حيث قال:
“أبو حامد إمام الفقهاء على الإطلاق، ورباني الأمة بالاتفاق، ومجتهد زمانه،
وعين أوانه، برع في المذهب والأصول والخلاف والجدل والمنطق، وقرأ الحكمة والفلسفة،
وفهم كلامهم، وتصدَّى للرد عليهم، وكان شديد الذكاء، قوي الإدراك، ذا فطنة ثاقبة،
وغوص على المعاني، حتى قيل: إنه ألَّف «المنخول»، فرآه أبو المعالي، فقال: دفنتني
وأنا حي، فهلَّا صبرت الآن، كتابُك غطَّى على كتابي”.
- وقال عنه الإسنويُّ: “الغزالي إمام باسمه تنشرح الصدور، وتحيا النفوس، وبرسمه تفتخر المحابر وتهتزُّ الطُّروس -أي الكتب-، وبسماعه تخشع الأصوات وتخضع الرؤوس”.
- قال عنه ابن خلكان: ” لم يُكن للطائفة الشَّافعية آخر عصره مثله”.
- قال عنه الفيلسوف ابن طفيل: ولا شكَّ عندنا في أنَّ الشَّيخ أبا حامد مِمَّن سعد السَّعادة القُصوى ووصل إلى تلك المواصل الشَّريفة المُقدَّسة.. أدَّبتهُ المعارف، وحذقته العلوم.
- يقول عنه المفكر العراقي علي الوردي: إن الغزالي يختلف عن الفلاسفة والمناطقة القدامى الذين كانوا يثقون بالمنطق ثقةً مُطلَقة، ويؤمنون بصحة استعماله في جميع المجالات، ففي رأي الغزالي إنَّ البُرهان المنطقي قاصرٌ عن أن يصِل بالإنسان إلى اليقين في القضايا الإلهية والروحية، فهذه القضايا هي أعمق وأعظم من أن تدركه عقولنا المحدودة، إنَّها خارجة عن نطاق البُرهان المنطقي والنَّظَر العقلي.
أشهر كتب أبي حامد الغزالي :-
- إحياء علوم الدين.
- الاقتصاد في الاعتقاد.
- المستصفى، في أصول الفقه.
- المنخول من تعليقات الأصول.
- المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى.
- تهافت الفلاسفة، نقض فيه فلسفة ابن سينا ومذهبه المبثوث في كتابه (الشفاء) وملخصه: (النجاة).
- المنقذ من الضلال.
- محك النظر في المنطق.
- معيار العلم في فن المنطق.
- الوسيط في المذهب، وهو كتاب فقه على مذهب الإمام الشافعي
أبو حامد الغزالي وبعض أقواله:-
- قال الغزالي: “إن اختلاف الخَلقِ في الأديان في الأديان والمِلَل، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب، بحرٌ عميقٌ، غَرِقَ فيه الأكثرون، وما نجاه منه الإ الأقلون”.
- وقال بعد أن استعاد ثقته بالعقل بعد اهتزاز عميق : “وعادت النفس إلى الصِّحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكُن ذلك بنظم دليل ولا ترتيب كلام، بل بنورٍ قذفه الله في الصَّدر، وذلك النُّور هو مفتاح أكثر المعارف، فمَن ظَنَّ أنَّ الكَشفَ موقوف على الأدلة، فقد ضيَق رحمة الله الواسعة”.
- متحدِّثاً عن نفسه” وقد كان التعطُّش إلى دَرك حقائق الأمور دأبي وديدني، من أول أمري وريعان عُمري، غريزةً وفِطرة من الله وُضِعَتا في جِبِلَّتي، لا باختياري وحيلتي، حتَّى انحلَّت عني رابطة التقليد، وانكسرت على العقائد الموروثة، على قرب عهدٍ بسِن الصِّبا”.
أبو حامد الغزالي المُربِّي:-
- من آداب الجلوس على الطريق: غضُّ البصر، ونُصرة المظلوم، وإغاثةُ الملهوف، وإِعانة الضغيف، وإِرشادُ الضَّال، ورَدُّ السَّلام، وإِعطاء السَّائل، وتَرْك التلفُّت، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر بالرِّفق واللُّطف، فإن أصَرَّ فبالرَّهبة والعُنف، ولا يُصغي إلى السَّاعي إلَّا ببينة، ولا يتجسَّس، ولا يظنُّ بالنَّاسِ خيراً.
- من آداب الولد مع والديه: يسمع كلامهما، ويقوم لقيامهما، ويمتثل لأمرهما، ويلبي دعوتهما، ويخفض لهما جناح الذُّل من الرحمة، ولا يبرمهما بالإلحاح، ولا يمُنُّ عليهما بالبرِّ لهما، ولا بالقيام بأمرِهما، ولا ينظر إليهِما شَزَرَاً، ولا يعصي لهماً أمراً.
- آداب الوالد مع أولاده: يعينهم على بِرِّه، ولا يكلّفهم من البِرِّ فوق طاقتهم، ولا يُلِح عليهم في وقت ضَجَرهِم، ولا يمنعهم من طَاعةِ ربِّهم، ولا يمُنُّ عليهم بتربيتهم.
- آداب الإخوان: الاستبشار بهم عند اللِّقاء، والابتداء بالسَّلام، والمؤانسة والتوسِعة عِندَ الجُلوس، والتشييع عند القِيام، والإنصات عند الكَلام، وتُكره المجادلة في المقال، وحُسْن القول للحِكايات، وتَرْكُ الجواب عند انقضاء الجَوَاب، والنِّداء بأحبِ الأسماء.
- آداب الشَّاهِد: استشعار الأمانة، وتِرْكِ الخِيانة، والتَثبُّت في الشَّهادة، والتحفُّظ في النِّسيان، وقِلَّة المجادلة للسُّلطان.
بعض اجتهاداته:-
- قال أبو حامد الغزالي : أنك ما دُمتَ في هذه الحياة الدنيا؛ فأنتَ نائم وإنَّما يقظتك بعدَ الموت وعند ذلك تصير أهلاً لمشاهدة صريح الحق كفاحاً، وقبل ذلك لا تحتمل الحقائق إلا مصبوبة في قالب الأمثال الخيالية، ثم لجمود نظرك على الحِس؛ تظُن أنه لا معنى له إلَّا المتخيل وتغفل عن الروح كما تغفل عن روح نفسك ولا تدرك إلَّا قالبك.
- واعلم يقينا أن أسرار الملكوت محجوبة عن القلوب الدَّنِسة بِحُب الدنيا التي استغرق أكثر هممها طلب العاجلة.
- لعلك تقول: قد توجه قصدك في هذه التنبيهات الى تفضيل بعض القرآن على بعض والكل قول الله تعالى، فكيف يفارق بعضها بعضاً وكيف يكون بعضها أشرف من بعض؟، فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك الى الفَرق بين آية الكرسي وآية المداينات وبين سورة الإخلاص وسورة تبت وترتاع من اعتقاد الفرق نفسك الجوارة المستغرقة بالتقليد؛ فقلِّد صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه فهو الذي أنزل عليه.
- وقوله عز وجَل “وسِعَ كُرسيه السموات والأرض”: إشارة إلى عظمة ملكه وكمال قدرته وفيه سِرٌ لا يحتمل الحال كشفه، فإن معرفة الكرسي ومعرفة صفاته واتساع السموات والأرض معرفة شريفة غامضة ويرتبط بها علوم كثيرة”.
الغزالي الفقيه وبعض فتاواه:-
نسوق بعض الأمثلة من فتاوى حُجَّة الإسلام أبي حامد، وذلك كما ورد في كُتُبِه الفقهية، بحيث نُظهِر الاستفسار أو السؤال، وإجابة الغزالي على السائل.
- هل يجوز أن يتيمم لصلاة الجنازة بعد الموت، وقبل الغسل، (أو) لا يجوز إلَّا بعد الغَسل؟
الإجابة: يجوز قبل الغسل، لأنَّ صلاة الميِّت سببها الموت، كما أن صلاة الصبح سببها طُلوعُ الفَجْر، ولو كان مكشوف العورة؛ فتيمم بعد الصبح، ثم سَتَرَ العورة جاز، فكذلك إذا تيمم غسَّل الميت.
- إذا عَدَل عن الدُّعاء المشهور في القُنوت إلى غيره؛ هل يسجد للسَّهو؟ وإن قنتَ بآية من القرآن تتضمن دُعاء؛ هل يُجزيه؟ وإن أتى ببعض القُنوت؛ هل يسجد للسهو لِما بقي؟، فإن كان يسجد فَلِمَ لو أتى من التشهُّد بالفرض لم يسجد لما تَرَك؟
الإجابة: تتعين الكلمات المأثورة في القنوت، لكونه بعضاً، كما تتعين كلمات التشهُّد لكونه رُكناً، وإذا ترَكَ جُزءاً من القُنوت؛ فاتَ بعض من أبعاض الصَّلاة المجبورة (كُلَّها بالسُّجود فبعضه ككله كما لو تَرَكَ بعض التشهُّد الواجب فات الرُّكن، فأما القدر المسنون مع الفرض من التشهُّد يجري مجرى التكبيرات والتسبيحات فلا يُعدُّ من الأبعاض المجبورة، وهذا هو الأظهر، ولا يبعد أن يُقال (إذا أتى) بأكثر كلمات القنوت لم يسجُد، واللهُ أعلم.
- إذا ادَّعى المشتري نسيان قدر الثَّمَن وادَّعى الشفيع إنه كان ألفاً، فالقول قول من يكون؟ هل يكونُ القول قول المشتري كما إذا ادَّعى أنَّه كان ألفاً جُزافاً؟
الإجابة: إذا اعترف المشتري بالجهل وَجَبَ الحُكمُ بيمين الشفيع المُدَّعي للمعرِفة.
- إذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين ثم قال بعد ذلك: قد بان لي أنَّهُما كانا فاسقين حين الحُكم من غير أن يذكُر أنّ بينة شهدت عنده بفسقهما، هل له نقض الحُكم؟
الإجابة: إذا لم يتهم الحاكم في قضائه بعلمه؛ فلا نتَّهمه في ذلك أيضاً، ويمكنه في ذلك.
جبران يتحدَّث عن الغزالي:-
عَقَدَ الأديب والشَّاعر اللبناني الكبير جبران خليل جُبران (المتوفي سنة 1931 م) مقارنةً بين كلٍّ من القِديس أغسطينوس (المولود في الجزائر، والمتوفى سنة 430 م) وما بين أبي حامد الغزالي (المتكلِّم والمتصوف والفقهيه المتوفَّى سنة 1111 م)، فكانت مقارنةً مُلفِتة أورَدَهَا جُبران في كتابه البدائع والطَّرائف، فيما يلي نصّها:
بين الغزالي والقِدّيس أغسطينوس رابطة نفسية، فهُما منظِّرَان مُتشابهان لمبدأ واحِد، رغم ما بين زمانيهما ومحيطيهما من الاختلافات المذهبية والإجتماعية.
أمَّا ذلك المبدأ فهو ميلٌ وضعيٌ في داخل النَّفس يتدرَّج بصاحبه من المرئيات إلى المعقولات فالفلسفة فالإلهيات.
اعتزل الغزالي الدُّنيا وما كان فيها من الرَّخاء والمقام الرَّفيع، وانفرَدَ وحده متصوِّفاً، متوغِّلاً في البحث عن تلك الخيوط الدقيقة التي تصل أواخِر العِلم بأوائل الدِّين، متعمِّقاً في التفتيش عن ذلك الإناء الخفي الذي تمتزج فيه مدارِك النَّاس واختباراتهم بعواطِف النَّاس وأحلامهم.
وهكذا فَعَلَ أغسطينوس قبله بخمسة أجيال، فمن يقرأ كتاب “الاعتراف”؛ يرى أنَّهُ قد اتَّخَذَ الأرض ومآتيها سُلَّماً يصعد عليه نحو ضمير الوجود الأعلى.
تفضيل الغزالي:-
غير أنني (جُبران) وَجدْتُ الغزالي أقرب إلى جواهر الأمور وأسرارها من القِدِّيس أغسطينوس، وقد يكون سبب ذلك في الفَرق الكائن بين ما ورثه الأول من النَّظريات العِلمية العربية واليونانية التي تقدَّمت زمانه، وما ورِثَه الثَّاني من عِلم اللاهوت الذي كان يشغل آباء الكنيسة في القرنين الثاني والثالث للمسيح، وأعني بالوراثة ذلك الأمر الذي ينتقلُ مع الأيام من فكرٍ إلى فكرٍ مثلما تلازِم بعض المزايا الجسدية مظاهر الشُّعوب من عصر إلى عصر.
ووجدتُ (جُبران) في الغزالي ما يجعله حلقةً ذهبيةً موصلة بين الذين تقدَّموه من متصوفي الهِند والذين جاؤوا بعده من الإلهيين، ففي ما بلغت إليه أفكار البوذيين قديماً شيء من ميول الغزالي، وفي ما كتبه سبينوزا ووليم بلايك حديثاً شيء من عواطفه.
وللغزالي عند مستشرقي الغرب وعلمائه منزلةً رفيعة، وهُم يضعونه مع ابن سينا وابن رشد في المقام الأول بين فلاسفة الشرق، أما الروحيون؛ فيحسبونه أنبل وأسمى فكرة ظهرت في الإسلام.
ومن الغرائب أنني شاهدتُ على جُدران كنيسة في فلورسنا (إيطاليا) من بناء الجيل الخامس عشر؛ صورةً الغزالي بين صور غيره من الفلاسفة والقديسين واللاهوتيين الذين يعتبرهم أئمة الكنيسة في الأجيال الوسطى دعائم وأعمدة في هيكل الرُّوح المطلق.
ولكِن الأغرب من ذلك هو أن الغربيين يعرفون عن الغزالي أكثر مما يعرفه الشرقيون، فهم يترجمونه ويبحثون في تعاليمه ويدققون النَّظَر في منازعه الفلسفية ومراميه الصُّوفية، أما نحن؛ نحنُ الذين لم نَزَل نتكلَّم اللغة العربية ونكتبها، فقلَّما ذكرنا الغزالي أو تحدثنا عنه، نحن لم نَزَلْ مشغولين بالأصداف، كأن الأصداف هي ما يخرج من بحر الحياة إلى شواطئ الأيام والليالي.
وفاته:-
توفي أبو حامد الغزالي في بلده طوس يوم الإثنين، 14 جمادى الآخرة، سنة 505هـ، وله 55 سنةً.
المصادر:–
- الأعلام (7/22).
- سير أعلام النبلاء (19/322/رقم 204).
- منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته، علي الوردي.
- شذرات الذهب في أخبار من ذهب (6/19).
- فتاوى الإمام الغزالي، تحقيق مصطفى محمود أبو صوي.
- جواهر القرآن للغزالي، دار إحياء العلوم، بيروت.
- تهافت الفلاسفة، مقدمة المحقق سليمان دُنيا.
- مجموعة رسائل الإمام الغزالي، تحقيق إبراهيم أمين.
- أبو بكر الطرطوشي، الإمام الزَّاهد الثَّائر، جمال الدين الشيال.
- البدائع والطرائف، جبران خليل جبران.
http://ddc.aub.edu.lb/projects/jafet/manuscripts/MS172.2/pages/003Al.jpg