إسحاق بن علي الرهاوي –نشأته:-
إسحاق بن علي الرهاوي ، طبيب مشهور، لم يذكر المؤرخون تاريخ ولادته، وقد عاش في أوائل القرن الهجري الرابع تقريباً.
ومن نسبة طبيبنا إلى مدينة الرها؛ فمن المحتمل بأنه من مواليدها، ويبدو من كثرة ما ردد من ذكر الله عزَّ وجل وإيمانه به، وثقته بعونه، وإجلاله لعظمته؛ أنه نشأ على التقوى، وطاعة الخالق، فلا تفوته المناسبة إلا أن يذكره بالمنة والاسترحام، وينسب له النعم في تدبير أمور الكون، وخلق الإنسان، وإبرائه من الأمراض، كما يؤمن بالثواب والعقاب.
وقد كانت مدينة الرها في القرن الثالث الهجري؛ مركزاً حضارياً بارزاً بما تجمع فيها من آثار اليونانيين قبل المسيحية وبعدها، فكانت بؤرة جذب للناس من كل موضع، وسرعان ما أبدل هؤلاء اسم المدينة من اسمها اليوناني القديم “أديسا” باسم سرياني “أورهاي”، وظلت على ذلك حتى مع وصول المسلمين إليها في مطلع القرن الأول الهجري.
وحينما سيطر العثمانيون على المدينة في بداية القرن التاسع الهجري؛ فقد أطلقوا عليها اسم “أورفه” المعروفة حلياً والواقعة قرب مثلث الحدود العراقية – السورية- التركية.
وقد تعلم الرهاوي الطب في بغداد التي كان محجاً للعلماء من كل الأرجاء، ويتوقع أنه قد ذكر ذلك في أحد من مؤلفاته المفقودة، فيما لم يأت على ذكر تعلمه في دار السلام وذلك في “أدب الطبيب”، رغم مروره على تناول اسم المدينة التي كانت تعج بالعلماء والفلاسفة والفقهاء في عهده.
المكانة العلمية:-
كان طبيباً متميزاً، عالماً بكلام جالينوس، وله العديد من الأعمال المميزة في مهنة الطب.
ويظهر من عنوانيّ الكتابين المنسوبين للرهاوي، ومحتوى كتابه “أدب الطبيب”؛ أنه كان يؤمن بشكل قاطع بفلسفة الأغارقة القدماء، ففضلاً عن تبنيه أفكار جالينوس في الطب ليمارسه بموجبها؛ فقد كان معنيا بعلم الأدوية اليونانية وصيدلتها أيضاً.
وقد أخذ في كتاب “أدب الطبيب” بتقدير وإعجاب؛ عن جالينوس، إلى جانب معلومات عن أطباء الأسكندرية بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين، مما لا يمكن توفره من معلومات سوى في كتاب “تأريخ الأطباء” لإسحاق بن حنين الذي أخذها بدوره عن كتاب بالعنوان نفسه لحكيم مدرسة الإسكندرية في عهدها المتأخر يحيى النحوي.
كما اعتمد الرهاوي في وضع كتابه على مؤلفات الأطباء والفلاسفة اليونانيين من أمثال: فيثا غورس، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وأبقراط، وهؤلاء هم كبار علماء الإغريق فيما بين القرنين السادس والسابع قبل الميلاد.
كما أن كُتبه تؤكد على تفرغه بشكل تام للطب لوحده، وما يتصل بهذا العلم من تفرعات في مجالي الصيدلة والتمريض، ليخالف بذلك النزعة التي دمغت الأطباء المسلمين القدماء والذين كانوا بمثابة علماء موسوعيين من قبيل ابن سينا والبيروني والرازي وسواهم.
كتب الرهاوي:-
لإسحاق بن علي الرهاوي مجموعة
من الكتب؛ أشهر هذه الكتب ما يلي:
- أدب الطبيب، ويتوافر من هذا الكتاب نسخة واحدة، جرى الاحتفاظ بها في المكتبة السليمية بأدرنة الواقعة في تركيا، وقد جرى نسخها في العام 748 هجري، من قبل عبد الله اللاوي.
- كُنَّاش: كتاب في الطب، جمعه من عشر مقالات لجالينوس المعروفة باسم «الميامر» في تركيب الأدوية، بحسب أمراض الأعضاء من الرأس إلى القدم، وهي عبارة عن جوامع جمعها من أربعة كتب جالينوس التي رتبها الإسكندرانيون في أوائل كتبه؛ وهي: كتاب «الفرق»، وكتاب «الصناعة الصغيرة»، وكتاب «النبض الصغير»، وكتابه «إلى أغلوتن»، وقد رتَّب هذه الجوامع على طريق الفصول وأوائل فصولها على حروف المعجم.
منهج كتاب أدب الطبيب:-
لقد خالف الرهاوي مسار أكثر المؤلفين العرب والمسلمين ممن كانوا يقومون بإصدار كتبهم في عهده، فقد عُرِف عن أكثرهم ذكر الأسباب التي دفعتهم إلى وضع مصنفاتهم، ولمن رفعوها أو قدموها لمن بين مخدوميهم من الأمراء والخلفاء، فيما انتهج طبيبنا مسلكاً يظهر فيه مقدار الإخلاص في عمله.
ويقول الرهاوي في مقدمة كتابه “أدب الطبيب”: إنه وضع مؤلفه لنفسه احتساباً ولتعميم ما فيه من الفوائد في الطب وممارسته، ذاكرا بالنص “تكلفت جمع ما قدرت عليه من الآداب التي ينبغي للطبيب أن يؤدب بها نفسه، والأخلاق المحمودة التي ينبغي أن يقوِّم بها طبعه، محتسبا للثواب في ذلك واثقاً بمعونة الله وتأييده”.
وقال أيضاً: “كان أول قصدنا من تأديب الطبيب، إنما قصدنا لصلاح نفسه، وتقويم أخلاقه أولاً، وقد قدمنا ذلك على مصالح جسمه، لتقدُّم النفس بالشرف على الجسم”.
وصايا الرهاوي الطبية:-
تناول الرهاوي في كتابه “أدب الطبيب” مجموعة من الوصايا والنُصُح الموجهة للأطباء.
فقد دعا الطبيب إلى رعاية جسمه وحفظ صحته لأن من شأن ذلك أن يدفع مرضاه للعمل بوصاياه واقتفاء أثر سلوكه، قائلاً: “إنه من الصواب بعد ما قدمته من هذه الجمل أن أذكُرَ جملا من الوصايا التي تحثُ الطبيب على ما يصلح بقية أعضاء البدن الكبار، ويستدل بها على إصلاح باقي الأعضاء”.
ثم أتبع ذلك بوصف سيرة الطبيب وكيف ينبغي أن “يرتب تدابيره لجسمه يوماً يوماً سائر حياته”.
وقد عاب الرهاوي على الأطباء في زمانه الذين قال: “إنهم جهلوا أصول المهنة وطرق ممارستها، حيث كثُر بينهم منتحلوها، فقصّروا في بلوغ الهدف منها”، فرأى أن يضع كتاب “أدب الطبيب” تنبيها وتوجيهاً لهم وردهم إلى ما ينبغي لهم أن يفعلوه لإصلاح حالهم وتصويب معلوماتهم بالعلوم الطبية وممارستها.
ودعا الرهاوي؛ الأطباء، إلى الثقة بعون الله تعالى، خالق الإنسان والأكوان، وأنه هو البارئ المعين والشافي، قائلاً : إن ذلك بمثابة تثقيف روحي للطبيب يبعد من يتحلى به عن الدنايا والخداع وابتزاز أموال البسطاء من الناس والمرضى، ويتحاشى ما يفسد صناعته سواء كان ذلك من جانبه أو من جانب مريضه، وما يوصل بينهما من الممرضين والصيادلة والخُدَّام.
أعضاء الجسم:-
تناول الرهاوي في كتابه المذكور؛ مركبات جسم الإنسان، وما فيه من أجهزة وأعضاء كأدوات الحس الخمسة، والأعضاء الرئيسة كالدماغ والقلب والكبد والأعضاء التي تخدمها كالمعدة والكليتين والطحال والمثانة والرئة، وذكَر أنه ينبغي على الأطباءأن يعلموا بتشريحها ووظائفها الغريزية.
وقد خصَّص الرهاوي لهذا الموضوع؛ الباب الثاني من الكتاب، والذي اعتبره القاعدة التي يرتكز عليها ما
في المؤلف من معلوماتٍ حول الوقاية من الأمراض (تدبير الأصحاء)، وتشخيص الأمراض وعلاجها (تدبير المرضى).
نصائح:-
وقد أدمج الرهاوي في هذا الباب جداولاً يتعرض فيها لأعمال الطبيب اليومية والتي كان هو يمارسها بحرصٍ ودقة واهتمام من قبيل أهمية نظافة ثوب الطبيب وجسده وابتداء اليوم بالصلاة إلى الله تعالى ثم البدء بعيادة المرضى، وضبط سجل لكل واحد يرجع إليه عند تكرار الزيارة، أو الإصابة بمرض جديد.
وتعرَّض في الكتاب أيضاً إلى جوانب أخرى من قبيل حصر صناعة الطب في اللائقة خلقهم وأخلاقهم من الناس، كما تناول ما ينبغي للطبيب أن يدخره ويعدّه من وقت صحته إلى وقت مرضه، ومن زمان شبابه إلى زمان شيخوخته.
نهاية مسيرة:-
لم تذكر المصادر التاريخية تاريخ وفاة إسحاق بن علي الرهاوي ، ولكن على الأرجح أنه كان في القرن الهجري الرابع كما ذكرنا.
المصادر:–
- عيون الأنباء في طبقات الأطباء (342).
- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (1/1).
- معجم التاريخ «التراث الإسلامي في مكتبات العالم (المخطوطات والمطبوعات)» (1/633/رقم 1626).
- كتاب أدب الطبيب، تحقيق الدكتور كمال السامرائي.