حكايات الألمان مع اللغة العربية
موسى الزعيم/
في الأيام الأولى لي في برلين زارني عجوزٌ ألماني، تحدّث معي بالعربية، فسألته مندهشاً عن سبب تعلمّه لها فقال: إن وراء ذلك حكاية قديمة:
وهي أنّي في شبابي وبينما كنت في أحد شوارع برلين ولسبب ما؛ شتمني رجلٌ ومضى ” لم أعرفْ ما قال لي ” لكن رجلاً آخر تطوّع للترجمة وهمسَ لي لقد “شتمكَ بالعربيّة” غضبتُ، و أخبرتُ المسؤول الحزبيّ بالقصة، نظر إلي وقال “ردّها له بلغتهِ” حزمتُ أمري وسافرت مباشرة إلى الأردن، سكنتُ في حيّ شعبيّ هناك ستة أشهر، عدتُ إلى برلين وقد تعلمت اللغة العربية والكثير من شتائم العرب.
يروي رجل ألماني آخر أنّه لشدّة إعجابه بفصاحة الرئيس الراحل “ياسر عرفات” في طريقة إلقاء خطاباته، أحبّ العربية وتعلمها بشكلٍ فردي.
من هنا استهوتني فكرة أن أرى (الآخر) وهو يستعير لساني العربي، وأتساءل هل سيتقن استعماله في نطق ال 28 حرفاً سليمة؟!
.. توالت الحكايات وصرت مهتماً بها، لأنّها تبدو عكسَ حكايتنا “الواحدة” مع اللغة الألمانية والتي تنصّ على أننا يجب أن نتقنها لنعيش هنا.
هنا أعرض ثلاث تجارب لألمان قابلتهم في برلين، تحدّثت معهم عن تجربتهم مع اللغة العربية وأعلم أن هناك الكثير من التجارب المماثلة من حولنا.
انطلقت من الأسئلة: ” كيف ولماذا وأين تعلمت العربية؟ ما الطريقة التي اتبعتَها؟ ما الفروقات بين اللغتين والصعوبات التي واجهتك؟ …”
Matthias Hänsch
في أوّل لقاء بيننا تحدّث معي بعربيّة سليمة، كان قد جمعنا عمل مشترك في الترجمة.
سردَ لي بهدوء وبطء حكايته مع العربية “ماتيس” لا يقول جملةً واحدةً إلاَ بعد أن يركّبها في دماغه ثم ينطقها سليمة مضبوطة بالشكل، يقول: عملت في بداية حياتي في صناعة الزجاج الطبيّ والمخبريّ.
هذا السؤال مازال شائكاً حتى الآن لا أعرف بالضبط لماذا تعلمتُ العربية، خاصّة بعد سنّ الأربعين.
كان ذلك منذ خمسة عشر عاماً، في البداية كان اهتمامي بتاريخ الشرق بشكلٍ عام وليس التاريخ العربي.
شدّتني الفكرة، لكن سيبدو غريباً إن تعلمتُ البابلية أو السومريّة أو الأوغاريتية لأنّها لغاتٌ ميته.
فتعلمتها، من أجل اقترابي من التاريخ.
تعلّمت الحروف العربية في(Volkshochschule) بعدها ساعدني بعض الأصدقاء العرب.
حينها لم تكن الوسائل الحديثة موجودة مثل الانترنت أو اليوتيوب، كنت اعتمد على التسجيلات الصوتية وبرامج تعليم العربية في الكاسيت، تعلّمت النحو، بشكلٍ عام، وفهمت الشكل الأوليّ لبناء الجملة، وطريقة التصريف.
ومن أجل بناء جملٍ جديدةٍ، رحت استمع إلى بعض الجمل وأحاكيها بالنطق وطريقة البناء اللغويّ.
ولا مشكلة لدي في التمييز بين الفعل والفاعل والمفعول به و حركات الإعراب، لأنني فهمتها كنظام بناء رياضي ومن خلال الاستماع والمحاكاة تدرّبت على ذلك، فالصوت الذي يُعجبني لغويّاً أحاكيهِ، استطعت تجاوز الفروقات اللفظية بين العربية والألمانية.
في البدايات كنت أقول لمن يساعدني : قلْ لي كيف أقولُ ذلك؟ كيف ألفظُ هذه الكلمة بشكلٍ صحيح؟ أو كيف تُستخدَمُ هذه الكلمة؟ ثم أحفظ ذلك وأحاكيه.
بعد سنتين من تعلمي العربية، زرتُ سوريا، بقيت أسبوعاً فيها وكنت أستخدم العربية كان السائقون وأصحاب المطاعم يفهمونني جيداً. كنت أشعر أنني شخص مميز، حتى ولو أنني لم أتكلم بشكل صحيح قواعدياً، لكنهم كانوا يتفاجؤون بي.
أحياناً انا لا أعرف معنى الكلمة، لكنني أعرف أبعاداً داخلية لها ” مثلا كلمة استسلم هناك علاقة لغوية بينها وبين سَلم أو سلام ومثلها (استعمر، وعمر، وعمران) .. في الألمانية ربما لا تصل الكلمات لنفس الأصل.
أقصد: لكلّ كلمة أبعاد داخلية وهذا هو الفرق بين العربية والألمانية والعلاقة بين الكلمة وأصلها في العربية أوضح.
بالمجمل ليس هناك كلمتان تعطيان نفس المعنى. لكن الأصل في العربية أوضح منه في الألمانية.
من جهة أخرى أجد صعوبة في قراءة عناوين الكتب العربية، أشعر بجمالِ الخطّ وجاذبيته، لكنّه يربكني في اللحظات الأولى.
من جهة: ثانية فإن أصدقائي العرب يتحدّثون معي بالفصحى، لكن بصعوبة، هم يتكيفون معي، أبتسمُ لهم وأنا أراهم يحاولون التحدث معي بالفصحى.
كان آخر كتاب قرأته “الأمين والمأمون” لجورجي زيدان، قرأتُ غسان كنفاني و يوسف إدريس، صنع الله إبراهيم و بعض النصوص للطبري وابن كثير، وأحببتُ أسلوبَ الجاحظ وخاصة السجع، لكنه صعب.
تدهشني الثقافة العربية الجاهلية يدهشني كيف توارثها العرب قبل عصر التدوين.
مثلاً شعر الصعاليك أتساءل كيف لهذه الفئة الاجتماعية من المنبوذين والخُلّع أن تنجب شعراء كبار ؟!
وكيف لمثل هذا الشعر ومواضيعه أن يلقى صداً في العصر الجاهلي و هل استمر شعر الصعلكة بعد ظهور الإسلام ؟
ترجم ماتيس نصوصاً صوفية من العربية إلى الألمانية أدرجت في كتاب أيضا.
Karsten Dietze
درسَ “كاستين” التاريخ والفلسفة يقول في حكايته:
قبل 13 سنة تقريباً، خطرت لي فكرة وهي أنني يجبُ أن أتعلم لغةً جديدةً ؟ما هي؟ لا أعرفّ! لكن أريد أن تكون لغة استفيدُ منها في حياتي، فكّرتُ ” الروسيّة و الفرنسية و الإسبانية ؟ هناك الكثير من الناس في ألمانيا يتحدثون بها، أما الصينية فهي معقدة.
حسنا “العربية ” الكثير من الناس يتحدثون بالعربية، وهناك عدد من البلدان العربية يمكن زيارتها و التحدث مع الناس فيها بالإضافة وإن قلّة من الألمان يتحدثون بها.
كان عمري16 سنة أثناء حرب العراق “الغزو الأمريكي ” في تلك الفترة ظهرت مُصطلحات جديدة مثل “الإرهاب” و كان هناك الكثير من العنصرية ضدّ المسلمين والعرب .
فكرت أن تعلمي للغة العربية يساعدني على فهم ثقافة العرب وكوني أعرف الثقافة الألمانية سيمكنني ذلك أن أصير جسرا بين الثقافتين، كذلك كنت أجد أن هناك الكثير من العرب لديهم فكرة مغلوطة عن ألمانيا أو الغرب، ربما هم لا يعرفون أن هناك اختلاف بين فرنسا وألمانيا أو حتى أمريكا ، كانت فكرتي أنني من خلال تعلّمي العربية ويمكن أن أنقل صورة العرب للألمان.
ففي عام 2010 سافرت إلى سوريا والتحقت بكورس لغة عربية للأجانب في جامعة دمشق، بعد أسبوع وأثناء الاستراحة اكتشفت أنني لا أفهم شيئاً، كان الأمر صعباً جداً، وبعد أسبوعين اعتقدت أنه بإمكاني التحدّث مع الناس خارج الكورس لكن ” ما فهموا عليّ”، بعد شهرين توقفت عن التعلم في الجامعة، صار لدي إحباط، لذلك بدأت أتحدّث مع الناس في الشارع و في الأماكن العامة، جربت أن أحكي بالعامية، كان لدي دفتر صغير أدون فيه ما أسمع باللاتينية والعربية، لكن كان أغلبه خاطئاً، صرّت أركب الجملة أولاّ بالألمانية ثم أقولها بالعربية، لم تكن طريقة الكتابة صعبة بالنسبة لي، لكن الإملاء كان معقداً، بعدها حاولت التحدّث مع بعض الأشخاص لكنهم كمان “ما فهموا عليّ “.
بعد ذلك عشتُ مع أسرة سورية، من خلالها كنت أتعلم اللغة، لكن دون قواعد.
قررت العودة إلى الكورس، فسجّلت في ” جامع أبو النور” كان معي طلاب من تركيا والشيشان وغيرها وكنت الوحيد غير مسلم بينهم، كانت تجربة غريبة إلى حدّما. كانوا لطفاء معي، ولكن كان هناك نقاشات غريبة مثلَ: هل الزواج في سن الـ 14 مُبكر أم لا؟! كان النقاش بالنسبة لي مهماً كونه بالفصحى. بعد شهرين عدّت إلى جامعة دمشق، وعندما بدأت الثورة عدت إلى ألمانيا. بعد الثورة جاء الكثير من السوريين إلى ألمانيا. عشت في درسدن، وكنت واحداً من خمسة فقط نتحدث العربية، منهم ثلاثة من أصول عربية، عملتُ في الكاريتاس من أجل الترجمة ومساعدة اللاجئين.
عندما أتحدّث مع عربي أستخدم اللغة “الوسطى” لكن من الصعب تعلّم المصرية والمغربية بالنسبة للقراءة أحيانا أقرأ مقالاً بالعربية وأقرأ لوحة إعلانات أو عنوان كتاب، لكن لا أستطيع قراءة كتاب كامل.
بالنسبة للفروقات بين اللغتين، الألمانية فيها تقييد أكثر، العربية فيها مرونة الحركة في الجملة.
خلال سنة في سوريا استطعت معرفة الكثير عن الثقافة العربية وعرفت أن الصورة التي يرسمها الإعلام الغربي عن العرب ليست صحيحة غالباً ، وأعتقد أن الألمان لا يعرفون كم هي صعبة حياة العرب، و أن الكلّ يتحمّل مسؤولية عائلته هناك.
“مالك” Maximilian
درس Arabistik ” الدراسات العربية” في جامعة برلين الحرّة. يقول:
بكلّ بساطة السبب كانت مغامرة، خالتي تزوجت رجلاً سوريا قبل خمسة وأربعين عاماً، لذلك عشت في بيئة قريبة من اللغة العربية ” فبنات خالتي كن يتحدثن العربية، كنت أراهنّ يصلينَ فأسمع العربية منهن.
هذا كمحطة أولى، لكنني تأثرت أكثر عندما انتقلت في الصف الخامس إلى مدرسة جديدة كان فيها طالبان ” سوري ولبناني ” صارا من أفضل أصدقائي إلى اليوم.
بقي هذا الاهتمام يرافقني، ففي دروس الدين المسيحي كنت أحبّ قصص الأنبياء في العهد القديم، فطلبت من زوج خالتي أن يقرأ لي قصة نوح من القرآن فقرأها بالألمانية، طلبت منه أن أسمعها بالعربية ففعلَ، كنت مستمتعاً جداً بسماعها، شعرت منذ صغري بجمال هذه اللغة.
في الثانوية وتحديداً بعد أحداث أيلول بدأت تُثار أسئلة ونقاشات حول الإسلام والإرهاب، صار هناك “ردّة فعل “موجهة ضدّ المسلمين في أوربا” وكان أصدقائي المسلمين في المدرسة يحاولون توضيح الصورة، ومنهم من تعمّق في الدين أكثر من أجل الإجابة على الأسئلة المتكررة، المهمّ و باختصار بـتأثير صديقيّ أصبحت مسلماً في صغري تعلّمت الكتابة العربية لوحدي، أرسم الحروف والكلمات الألمانية وأكتبها بالعربية.
كان عمري 16 سنة حين قرأت القرآن كاملاً قبل أن أفهم منه أيّة كلمة مجرد قراءة فقط.
بعد الثانوية وجدت أن عليّ أن أدرس العربية حتى أفهم النصوص سجّلت في جامعة برلين الحرّة 2007 درست فيها السنة الأولى وسافرت إلى دمشق وسكنت عند أسرة عربية، كنت يومياً أسمع اللغة العربية، لكنني كنت أتحدّث الفصحى مثل عربيّ قبل ” قِفا نبكِ” لم أكن مهتماً بالعامية وهي ليست هدفي .
الجميل في دمشق أنكَ إن تحدّثت بالفصحى فإنّ من يسمعكَ يفهمك ويحاول أن يجيبك بالفصحى.
دخلت جامعة دمشق وعملتُ ثلاث كورسات، بقيت فيها تسعة أشهر، كنّا ندرس ستة أيام في الأسبوع، كانت تجربة ناجحة. بعدها كان الإنجاز الأول لي أنني تحدّثت عبر الهاتف بالعربية، بعدها تعلمت العامية. ومن وجهة نظري مَنْ لم يتعلّم العاميّة، لا يفهم العربية، فاللغة الدارجة أقرب مما تتوقع إلى الفصحى، لها شِيفرة من خلالها يمكن أن تستنبط أشياء تساعدك في فهم الفصحى.
من جهة أخرى قسم كبير من الأجانب الذين يتعلمون العربية لديهم النظرة الفوقية فلا يشاركون في الحياة اليومية مثلاً كان هناك بيت للألمان، يسكنون فيه و يتحدثون بلغتهم ..
عندما عدت من دمشق بدأت قراءة النصوص، أول نصّ قرأته و فهمتُه “دعاء” كان ذلك شيئا عظيماً.
أمّا فيما يتعلّق بالفروقات اللغوية منذ 15 سنة أتعلم العربية بشكلٍ جدّي لكنني إلى اليوم أشعرُ أنّ هناك أبعاداً في العربية لم أصل إليها بعدُ ، كذلك في العربية مصطلحات غير موجودة في الألمانية والعكس أيضاً.
العربية فيها حلاوة، طريقة فتح الحديث والمجاملات والأجوبة القصيرة ممتعة، فعندما أتحدث مع شخص عربي أشاركه الإحساس بالموقف أحببت هذا الجانب في العربية، الألمانية في زماننا صارت فقيرة، والألمانية لغة عمليّة.
من جهة ثانية ساعدني فهم لغتي الأم على تعلم العربية، فقد تعلمنا العربية على طريقة الألمان، ومدرّس اللغة العربية في Fu درس الأدب الألماني، القاموس العربي الألماني الذي نستخدمهُ “هانس فير” موضوع على الطريقة الألمانية، الطريف أننا عرفنا ذلك في دمشق، ومن وضَع القاموس هو ألماني، هناك أشياء لا يمكن أن تستنبطها إلاّ من لغتها، مثل الزمن في اللغة العربية وهذا ما يميزها عن غيرها .
مالك يعمل مترجماً اليوم وقد اختار لنفسه هذا الاسم، لبساطة حديثه وسلاسته بالعربية، يختلط عليك الأمر لتتساءل هل هو ألماني فعلاً ؟
ما عرضناه هنا قد يسهم في تقديم رؤية ولو بسيطة عن طريقة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها من خلال استخلاص به النتائج مما روي سابقا.
.
أخبار متنوعةأوراق طبيب سودانيّ مُقيم في برلينرواية اسمي زيزفونجسور متأرجحةحين يَغمره الفرح مُتأخراًإشكاليّة التوثيق الحكائيّ والتصنيف الأدبيّ في رواية “رغيف التنّور” لـ “نزيه مير علي”” وشمسٌ أطلّت على ديارنا الغريبة”جائزة ابن رشد للفكر الحرّ لنشرِ “مبدأ الحريّات الدينية”